في ظل الثورة الصناعية والتكنولوجية التي عرفتها الإنسانية مع نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحالي، أضحى الإنسان برأي الكثير من المفكرين يعيش أزمة حقيقية، وهي اضمحلال أهميته وتحوله إلى شيء فاقد للقيمة والمعنى، بسبب سيطرة الآلة والمؤسسات الكبرى على مجالات الحياة وفقدان القيم وضياعها، وبالتالي أصبحت قيمة الإنسان تقاس بما ينتجه من سلع، بل أكثر من ذلك أصبح يخضع لقوانين السوق، وهنا ظهرت أزمة الإنسان المعاصر في ظل ثورة صناعية/ تكنولوجية لا تعترف إلا بما هو مادي، وأصبح الإنسان يشعر بالاغتراب والتشيؤ.
ومصطلح التشيؤ (Reification) كان أول من صاغه هو الفيلسوف المجري جيورج لوكاتش (György lukács) في كتابه التاريخ والوعي الطبقي ( History and Class Consciousness)، الذي صدر سنة 1923، وقد حدّد هذا الكتاب- كما يعتقد أغلب الباحثين المتخصصين في فلسفة لوكاتش- مساره الفكري برمته، وانعكس بشكل كبير على أعماله الفلسفية التي امتدت حوالي نصف قرن من الزمن1.
ويعرف لوكاتش التشيؤ بأنه تحول الصفات الإنسانية إلى أشياء جامدة واتخاذها لوجود مستقل، واكتسابها لصفات غامضة غير إنسانية؛ يقول في هذا السياق: "وتنفصل هذه الأشياء عن الإنسان، رغم أن جوهرها مرتبط بعمل الإنسان، فتنعكس القضية الأصلية، فبدلاً من أن يتحكم الإنسان في الأشياء المحيطة به مثل المصانع، والبنوك، تتغير هذه الأشياء، وتتحكم في حياة البشر، وبدلاً مما كان يفعله الإنسان في العصور القديمة حيث كان يحاول تعديل الطبيعة من حوله لتتفق مع حاجاته، أصبح الإنسان يحاول أن يوائم نفسه مع الأشياء المحيطة به، ومن ثم أصبحت الأشياء هي التي تصوغ حياة الإنسان وليس العكس، كما كان سائدا"2.
من خلال تعريف لوكاتش للتشيؤ يتبين لنا أن هذا الأخير "يحول العلاقات الإنسانية- في ظل هيمنة النظام الاقتصادي الرأسمالي- إلى أشياء جامدة وخاضعة لمنطق التبادل التجاري، بالصورة التي تحول فيها البشر إلى "سلع" أو"بضائع"، بحيث يخضعون لقوى وأشياء خارجة عن إرادتهم. ويظهر العالم الاجتماعي (الإنساني) على هيئة عالم من الأشياء، شأن العالم الطبيعي الأصلي، بحيث يبدو كأنه مستقل عن الفعل الإنساني، شأنه في ذلك شأن استقلال قوانين الطبيعة عن ظواهرها. وبذلك، فإن هذا العالم الاجتماعي يظهر لنا كما لو أنه لم يعد بمقدورنا أن نغيره. وهذا الوضع ليس وضعاً "ظاهرياً" وحسب؛ فالعمليات الداخلية في تشكيل صنمية السلعة والتشيؤ تخلق بُنًى اجتماعيةً خارجية يصبح بنو البشر دمى لها"3.
إن التشيؤ كما أورده لوكاتش يعني اغتراب الإنسان في ظل العلاقات الاقتصادية القائمة اليوم؛ "حيث لم تعد السلع تقاس بقيمتها الواقعية؛ وإنما تتحدّد بقيمةٍ مجردة يحددها السوق. فلوكاتش يرى أن هذه الفكرة تشكّل نقداً أخلاقياً قوياً للنظام الرأسمالي والحداثة الغربية، والتي من خلالها تحول البشرُ إلى أشياء يمكن أن تباع وتشترى، وفي هذه الفكرة أيضاً يصبح العالَم الاجتماعي عالَماً من الأشياء، شأنه في ذلك شأن العالَم الطبيعي، وأصبح المجتمع يمثل طبيعة ثانية إلى جانب العالم الطبيعي الأصلي، وأصبح يبدو كما لو أنه مستقل عن الفعل الإنساني، شأنه في ذلك شأن استقلال قوانين الطبيعة"4.
لقد أضاع الإنسان نفسه وكف عن تصورها كمركز لنشاطه، فقد أصبح محكوماً بأشياء وظروف من صنعه يعتقد أنه يسيطر عليها، لكن في الواقع "نحن مسيطَر علينا ليس من قبل الطاغية، بل من قبل الأشياء، من قبل الظروف. لقد أصبحنا بشراً بدون إرادة أو هدف. نتحدث عن التقدم والمستقبل، رغم أنه في الواقع لا أحد يعرف إلى أين هو ذاهب، ولا أحد يقول إلى أين تسير الأمور، ولا أحد لديه هدف. في القرن التاسع عشر، استطاع المرء أن يعلن (لقد مات الإله). في القرن العشرين وما يليه، ينبغي أن يقول المرء إن الإنسان قد مات. اليوم يبدو هذا القول المأثور صحيحاً: (لقد مات الإنسان، وتحيا الأشياء)، ربما ليس هناك مثال يدل على شناعة هذه البربرية الجديدة أكثر من فكرة التخطيط الحالي لصناعة قنابل تأتي على الأخضر واليابس"5.
لقد نجح النظام الرأسمالي المتضخم في آخر أطواره، وبعد أن تمكن من تحييد معظم الأنظمة والقوى المنافسة، وتأجيل البروز المحتمل للبعض الآخر على الأقل، في إسقاط مفاهيمه المادية على كافة مظاهر التفكير والسلوك اليومي لدى الإنسان المعاصر، ففي هذا العالم (الذي يتحرك بسرعة غير اعتيادية) يجد الإنسان نفسه مجرد عنصر تافه من ماكينة الإنتاج المادي العالمية، وهو محكوم بالانخراط في شبكة علاقاتها المعقدة دون أن يكون له أي خيار؛ إذ تملك هذه الآلة الضخمة كافة أساليب القمع والإغراء على السواء، مما يدفع بالإنسان إلى الشعور بالإحباط وعدم جدوى لأي محاولة للخلاص، فضلاً عن لذة الاستسلام لفيض المغريات الحسية الذي يوفره الانصياع وبذل الطاعة، وبالإمكان التوصل إلى الخلاصة الفلسفية للرأسمالية من خلال تحليل ظاهرة (التشيؤ) التي تشكل القلب النابض للإيديولوجيات الرأسمالية6.
ولتجاوز ظاهرة التشيؤ ونظراً لارتباطها بالمجتمع الرأسمالي يطرح جورج لوكاتش مفهوم (الوعي الطبقي) استناداً إلى مقولات كارل ماركس وفريديريك انجلز اللذين أعطيا لوعي الطبقة العاملة (البروليتاريا) أهمية خاصة، هذه الطبقة التي حولتها الرأسمالية إلى بضاعة، والتي لا يمكنها أن تحقق حريتها إلا بتحررها من كونها بضاعة أو سلعة، في هذا الصدد يقول جورج لوكاتش: "إن التطور الاقتصادي الموضوعي لم يكن ليتمكن إلا أن يخلق وضع البروليتاريا في سير الإنتاج، الوضع الذي حدد وجهة نظرها؛ ولم يكن ليتمكن إلا أن يضع بين أيدي البروليتاريا إمكانية وضرورة تحويل المجتمع. على أن هذا التحويل ذاته لا يمكن أن يكون سوى العمل الحر للبروليتاريا ذاتها"7.
وإذا كان جورج لوكاش قد ذهب إلى القول بإمكانية وضع حد للتشيؤ الذي يعانيه الإنسان المعاصر في المجتمعات الرأسمالية، "اعتماداً على القوة المؤهلة لذلك؛ أي الطبقة البروليتارية التي تملك الأدوات الثورية لوضع حد للتشيؤ، فإن أكسل هونيث (Axel Honneth) أحد رواد النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت يذهب إلى ما يخالف ذلك تماماً، بحيث يرى ضرورة البحث عن أسباب التشيؤ أولاً، وذلك بعمق أكثر، والتي ترجع أساساً إلى الأوضاع المستحدثة والجديدة التي عرفتها المجتمعات المعاصرة، أو بصيغة أخرى كيف عمل المجتمع الصناعي المتقدم على دمج قوى التغيير المتمثلة في الطبقة العاملة (البروليتاريا) في المؤسسات القائمة واستقطبها نحو الاستهلاك، فتحولت بذلك إلى أداة لإبقاء المجتمع القائم والمحافظة على استقراره، وبالتالي فقدت طابعها الثوري ولم تعد في ظل هذه الشروط الطبقة المؤهلة لتغيير الوضع القائم وفي القضاء على ما هو سائد، بل على العكس من ذلك، انحرفت عن مسارها الحقيقي الذي بشر به ماركس من قبل. وبناء على ذلك، أكّد هونيث، من خلال مقاربته الفلسفية لمفهوم التشيؤ وكيفية تجاوزه على ضرورة توظيف الأعمال الميدانية السوسيولوجية والسيكولوجية لكل من جان بياجي وجورج هربرت ميد ودونالد وينيكوت وسيغموند فرويد، والدراسات الأخلاقية التي قدمتها مارتا نوسباوم (Martha Nussbaum )، وإليزابيث أندرسون (Anderson Elisabeth)، والأعمال الأدبية لكل من ميشيل هولبيك (Michel Houellebecq)، وريمون كارفر (Raymond Carver)، وهارولد برودكيه (Harold Brodkey) وألفريد يلينيك (Alfred Jelinek)، وهي الأعمال التي استطاعت أن تبين على المستوى الأدبي والفني كيف أصبح البشر - في ظل التشيؤ – يعاملون كموضوعات "ميتة" وخالية من كل إحساس أو عاطفة"8.
لقد أخضع الفكر الغربي -الذي دشن عصر الحداثة بالعقلنة- الإنسان وجعله يسقط سقطة رهيبة في آفة "التشيؤ"، فهو لم يكتف بتشيؤ الأشياء ونزع الطابع السحري عنها، بل إن الإنسان نفسه في هذه المنظومة قد تحول إلى "شيء" تحت ضغط الإكراه الاقتصادي المتنامي والسباق المستعر نحو الربح، فأفرغه من حاجياته الروحية والأخلاقية، ويبدو أنه لم يتم الالتفات بعد إلى صيحات مدرسة فرانكفورت التي وقفت على هذا الانسداد الإنساني المضني، ودعت بالتالي إلى "عقل تواصلي" بدل "العقل الأداتي" (هابرماس)، وإلى الانفتاح على الفنون والكتب المقدسة من العهد القديم والحديث (أدورنو وهركهايمر). وهي الصيحة نفسها المدوية لفيلسوف مغربي لا يفتأ يرددها في مؤلفاته بنقده للفصل بين العقل والإيمان والأخلاق والشرع، لكن من منظور خصوصية مجالنا التداولي الإسلامي، ودعوته بالتالي إلى تلبية حاجيات القلب نفسه9، يقول طه عبد الرحمن في سياق حديثه عن العقل البديل: "إن العقل الموسع هو العقل الذي تزدوج فيه قوى الإدراك، بحيث تكون كل واحدة من هذه القوى الإدراكية عبارة عن قوتين اثنتين، إحداهما قوة خارجية أو حسية لا تدرك من الأشياء إلا ظواهرها وقوانينها، والثانية قوة داخلية أو معنوية تقف على البواطن والأسرار ويشترط فيها التحقق بالعمل الديني"10.
ختاماً، لقد آن الأوان لكي يستعيد الإنسان قيمته، وأن يؤمن بقدرته على خلق قيم جديدة تعلي من شأنه ومكانته في الوجود، وأن يضع في حسبانه أن السيطرة الممارسة عليه اليوم في ظل المجتمعات المتقدمة صناعياً هي سيطرة لم يشهد التاريخ الإنساني لها مثيلاً؛ لأنها تمارس عليه باسم التقدم العلمي التكنولوجي؛ فالتكنولوجيا تغريه يوماً بعد يوم، وتجعله يتعلق بها ويوثق رباطه بها حتى حولته إلى كائن آلي يصغي لندائها أكثر مما يصغي لذاته ولبني جنسه.
هوامش:
1. انظر: كمال بومنير، من غيورغ لوكاتش إلى أكسل هونيث: نحو إعادة بناء مفهوم التشيؤ، مجلة هرمس، مركز جامعة القاهرة للغات والترجمة، المجلد الثاني، العدد الرابع، أكتوبر 2013، ص: 79.
2. جيورج لوكاتش، التاريخ والوعي الطبقي، ترجمة: حنا الشاعر، دار الأندلس، بيروت، الطبعة الأولى، 1979، ص: 77.
3. إيان كريب، النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة: محمد حسن غلوم، عالم المعرفة، الكويت، العدد 244، 1999، ص: 309.
4. نفسه، ص: 31.
5. إيريش فروم، كينونة الإنسان، ترجمة: محمد حبيب، دار الحوار للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2013، ص: 30.
6. فؤاد الكنجي، الرأسمالية وفلسفة التشيؤ، الحوار المتمدن، العدد 4997، بتاريخ: 26 نونبر 2015.
7. جيورج لوكاتش، التاريخ والوعي الطبقي، ص: 181.
8. انظر: كمال بومنير، من غيورغ لوكاتش إلى أكسل هونيث: نحو إعادة بناء مفهوم التشيؤ، مجلة هرمس، ص: 86-89. بتصرف.
9. عادل الطاهري، الحداثة: الطريق إلى التشيؤ، مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، الرباط، بتاريخ: 27 يونيو 2019، الرابط:
https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%
10. طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2012، ص: 107.