إنَّ الحكاية الشعبية إبداع فنّي أدبي، تفنّن في نسجه خيال شعبي عربي مجهول انتقل إلينا عن طريق المُشافهة جيلًا بعد جيل، وبهذا ضمن لنفسه البقاء. ومن وظائف الحكاية: أنها تؤدي دورًا هامًا في إعداد الإنسان لمواجهة الواقع، وتمتاز بالمرونة فهي تقبل الإضافة والحذف حسب مزاج الرَّاوي وتحمل مخزونًا هائلًا من القيم التعليمية، والتربوية، والأخلاقية، والترفيهية.
والأداء (وضعًا معينًا يتخذه الراوي أو المُغني أمام جمهوره. هذا الوضع، يختلف بدرجات متفاوتة عن وضعه أو دوره في الحياة اليومية، وفي علاقاته مع الآخرين. ولكي يقدم حكايته؛ فإن عليه بالضرورة أن يتهيأ لذلك أو يتخذ الوضع الملائم الذي يتناسب مع غرضه. وبناءً عليه تتحدد درجة الأداء وكفاءته). وفي عالم الحكاية الشعبية، اعتبر القُدرة الفنية التي يتمتع بها المؤدي، من حيث إمكاناته وملكاته في تقديم حكايته إلى الجمهور.
فالمؤدي بمثابة قائد في عمله، لأنه يمثل قدوة للجمهور، فالقدوة يجب أن يتمتع بسمعة طيبة خلقيًا وفي تصرفاته وفي جميع أموره. والأداء الفني هو الخطوة المُكمِّلة لعملية الخلق، واكتمال القُدرات الفنية ونضجها، مما يؤهل المُبدع لإنشاء العمل الفني الشعبي أمام جمهوره. فهو الاتصال المباشر ودون وسيط بين المؤدين والجمهور، الأمر الذي يتطلب التواجد الجسدي المشترك. ووفقًا لهذا الرأي، يتم تنفيذ العروض دائمًا لشخص ما، أمام جمهور معين "يعترف بمشروعيته ضمن الأداء. وغالبًا يمنح الأداء المعني".
أولاً: رواة الحكاية الشعبية
ساهم الرَّواة في ترقية الحكاية الشعبية وحافظوا على استمراريتها، وبالغوا في إرضاء جمهورهم وكسب رضاه وتأييده (حميد بو حبيب، 2009). ولا يحصُل الرَّاوي على صِفة راوٍ إلَّا إذا اطمأنت الجماعة بأنه استكمل الشروط الضرورية لذلك، كالتحكم في الأدوات الفنية في عملية القص، وقوة الذاكرة والقُدرة على التجديد والفصاحة وسعة الاطلاع (طلال حرب، 1999).
ويمكن تقسيم الرّواة إلى: رواة محترفين، وغير محترفين:
إنَّ من المشاكل التي اعترضت الرّواة هي الاحتفاظ، وتَعرّض هذا الأدب إلى النسيان، مما أدَّى إلى تَشَابُك النُّصوص وتداخلها وعليه صَنَّف الدارسون الرّواة إلى فاعلين وسلبيِّين، وهو تقسيم مبني على مدى قُدرة الراوي على النَّقل والتوصيل والتطوير، وعلى مدى المُحافظة على النص الشفهي وتقديسه (بوخالفة عزي، 1994، أحمد مرسى، 2001 ص: 141).
أ- الرّواة المُحترفون: إنَّ المقصود بالاحتراف هو اتخاذ الرواية كحرفة يمارسها الراوي للحصول على مُقابل يمثل دخله المادي.
ب- الرّواة غير المحترفين: هناك نوع من الرّواة يوازنون بين تقاليد الأداء التي اكتسبوها وبين قدراتهم وإمكانياتهم في اكتساب الرِّواية حيوية تجعلهم مرغوبين من المُتلقِّين ومُفضّلين في الاستماع إليهم ومشاهدتهم، ومن ثم يصبح هؤلاء الرّواة شبه مُتخصصين في هذه الأساليب من الرواية؛ مما كان يقربهم من مجال عالم احتراف الرواية.
ثانيًا: فن الأداء في الحكاية الشعبية
تزايد الاهتمام في السنوات الأخيرة بدراسة العملية الإبداعية في الفن عامة، وفي المأثورات الشعبية على وجه الخصوص، والعملية الإبداعية ودراسة الأداء أو القدرة الفنية التي يتمتع بها المبدعون للأنواع الشعبية، تلك الأنواع التي تعتمد على التفاعل بين المتلقي (أو جماعة المتلقين) والمؤدي.
إن "قُدرة الإبداع الفني والتذوق الفني تبدأ عن طريق الإحساس البصري والسمعي، لكنها لا تقتصر على التأثير الحسي وحده، بل تخاطب الخيال والفكر، وبقدر ما تعلو الأعمال الفنية في القيمة بقدر ما تحيا في صدور الناس. فالإبداع في المأثورات الشعبية هو العملية العقلية والنفسية والثقافية التي يكون عليها مُبدع العمل الفني الشعبي أثناء عملية خلق فني من نوع ما.
والإبداع هو القدرة على الإتيان بأمر جديد في أي مجال من مجالات العلوم أو الفنون أو الحياة بصفة عامة. ولا يقتصر الأمر على المؤدي وحده في عملية الأداء، حيث نجد أن السيرة الهلالية بفنونها، ومستوياتها والمتلقون بمتغيراتهم الاجتماعية واستجاباتهم وما يرتبط بها من مناسبة ومكان العرض والبرنامج المقدم للجمهور، تتخذ كلها أهمية أساسية.
وهكذا يكتسب الأداء معناه الشامل والحقيقي، إضافة إلى الرؤية الأعمق للتفاعل والتأثير المُتبادل بين وحداته: المؤدي، والنص، والجمهور، وهي وحدات ترتبط بشكل وثيق فيما بينها.
فالمؤدي ينظر إلى المواد التي يمتلكها على أنها تراث جدير بالاحترام، ولا يجوز التغيير فيه، أم ينظر إليها على أنها مواد يمكن التصرف فيها وزخرفتها.
والنص يعني مجموعة الروايات الشفاهية المقدمة من قبل المؤدين، فالنص ليس مجرد كلمات أو كتلة لغوية جامدة؛ وإنما تحويل وتفكيك هذه الرموز والمعاني إلى نص غنائي.
والجمهور هو عامل مشارك وأساسي في الحكاية، من حيث ترجمة ما يروى من رواياتها المُقدمة من الرواة، خلال عروضها إلى أفكار ومشاعر، وهو بهذه الاستجابة صانع للمعاني. فالجمهور هو من يختار ما يتلقاه، من المؤدي، وهو من يمنح النجاح لهذا المؤدي.
والأداء الفني هو الخطوة المُكمِّلة لعملية الإبداع، واكتمال القُدرات الفنية، مما يؤهل المُبدع لتقديم العمل الفني أمام جمهوره. ومهما يكن من أمر هذه القُدرات؛ فإن هناك ثلاثة اتجاهات أساسية في النظر إلى الإبداع في المأثور الشعبي:
يقول الاتجاه الأول: (الإبداع الفردي) حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن هناك فردًا مُحددًا قد قام بالإبداع، وأن إنشاءه لهذا العمل الفني نابع من قُدرته الفردية، وملكته الخاصة. الأمر الذي يمكن أن يؤخذ على أصحاب هذا الاتجاه أنهم لم يهتموا كثيرًا بالعوامل المُحيطة بهذا الفرد، من عوامل أنثروبولوجية (بيئية وثقافية واجتماعية واقتصادية).
الاتجاه الثاني: (الإبداع الجماعي) وهو عكس الاتجاه السابق؛ حيث يرى أصحاب هذا الاتجاه أن الجماعة ككل هي التي تصيغ العمل الشعبي الأدبي، وذلك بتناقله من فرد إلى آخر داخل بيئة ما، أو جماعة معينة؛ حيث يعمل كل فرد عمله في النوع الشعبي، مما يصبغه بذاتية هؤلاء الأفراد وقُدراتهم، ومن فرد إلى آخر يستوي العمل الفني الشعبي مُعبِّرًا عن هذه الجماعة، في فترة محددة وبيئة بعينها.
وهناك (اتجاه توفيقي): يتوسط بين أصحاب هذين الاتجاهين، فيتخذ موقفًا وسطًا بينهما؛ حيث يرى أصحابه أن الفرد يأخذ من الجماعة، ويعطي لها في الوقت نفسه، في صورة مُعقدة ووطيدة من حوافز التأثير المُتبادل بين الفرد والجماعة.
وربما يثير أداء هؤلاء الرواة التساؤل حول بساطة أدواتهم، مقارنة بعمق جوهرها وتعدد مضامينها، وهو الأمر الذي نجده متجسدًا بشكل واضح عند التمعن بدقة في بعض الأنواع والأنماط الشعبية، كفن السيرة الشعبية، الذي يؤديه (شــــــعراء) هذا النوع على الآلات الشعبية المُختلفة أو بدونها.
خلاصة القول: أنَّ المُبدع أصبح محورًا مُهمًا من محاور دراسة الكثير من العلوم والفنون، مثل علم الأنثروبولوجيا، وما يحتويه من علوم مثل علم النفس والاجتماع وعلم اللغة، والنقد الأدبي وعلم الفولكلور، وغير ذلك من العلوم الإنسانية.
الأداء والإبداع: إن (القُدرات الإبداعية) للرواة، والتصدي لـــ(عناصر الأداء) في السيرة الشعبية ومهما يكن من أمر القدرات الإبداعية، وما يمثله الأداء في الأنواع الشعبية المُتعددة، مثل السيرة الهلالية، فإن هُناك مجموعة من الأسئلة يجب التوقف عندها مثل:
ما الأداء؟ ما طبيعته وعناصره؟ ما أدواته؟ وهل يختلف الأداء باختلاف المكان أو الوقت أو عدد مرات الحكي؟ ما الأوضاع التي يتخذها المؤدون في الحكايات الشعبية: هل يتميز الأداء في الحكايات بأوضاع معينة لا نجدها في غيرها؟ وهل تختلف كثيرًا عن أوضاع المؤدين في الأنواع الشعبية الأخرى؟ وما العوامل التي تؤثر على درجة إجادة الأداء.. (هل هي القدرة؟ أم الموهبة؟ أم المكان والوقت؟ أم نوعية الجمهور)؟ وهل هناك أثر للحالة الشعورية للمؤدي على الأداء؟ وأخيرًا، هل هناك مُصطلح مُعين يطلق على رواة الحكاية الشعبية؟
ويمكن تحليل عناصر الأداء في الظاهرة القصصية (الحكاية الشعبية خاصة) على نحو متكامل (مؤدي/ نص/ متلق) مع الالتفات إلى أثر كل عنصر من تلك العناصر في تفاعله مع العناصر الأخرى.
فالأداء يرتبط بعدد من الوظائف يمكن إجمالها في الآتي:
1. التسرية عن النفس.
2. قطع ملالة الوقت.
3. مؤانسة الوحدة.
4. محاولة نسيان مشقة الجهد المبذول.
ولا يمكن الاستغناء عن المتلقي، حتى مع وجود وسائل الاتصال الحديثة، مثل الإذاعة المرئية والمسموعة، والانترنت؛ حيث لا يستطيع مقدم البرنامج أو المذيع تقديم حكاياته دون وجود مجموعة من الأطفال (مشاهدين أو مستمعين) بالقرب منه داخل الاستوديو.
عناصر الأداء وأوضاعه: من العناصر التي أكد عليها تعريف الدكتور "أحمد مرسي" للأداء:
(أ) الأداء (وضع معين للمؤدي).
(ب) أمام جمهور (المتلقون).
(جـ) اختلاف هذا الوضع بدرجات متفاوتة عن الوضع العادي؛ أي (تدرج الأداء).
ويرى الكاتب أنَّ هُناك عوامل لشكل الأداء تختلف من شخص لآخر في أي عمل، فوجود الموهبة والخبرة، هي التي تجعل المؤدي واثقًا من قدراته الإبداعية وعمله، ولكن بشرط عدم الثقة الذائدة.
كما يتحكم المؤدي في الوسائل التي يستخدمها الرواة كوسائط للأداء، من حركة وإشارة وتلوين صوتي واستخدام الأدوات المُختلفة. وأن للأداء عدة أوضاع في الحكاية ربما تزيد على وضع الأداء في الأنواع الشعبية الأدبية الأخرى، تخضع جميعها لعدد من الشروط والقواعد الثابتة والمتعارف عليها.
طرائق الرواة وأساليبهم: إن أسلوب الرواة وطريقتهم في تقديم الحكايات هو المعيار الذي يمكن أن يُفرّق ويميز بين مهارات الرواة، إضافة إلى عدد من العوامل الأخرى التي تليه في الأهمية مثل:
أ- قدرة المؤدي على جذب الجمهور.
ب- أسلوبه في القص.
جـ- تنوع الجمهور أمامه.
د- عامل الثقافة والتعليم.
ه- عامل العمر، وعامل الجنس (رجل – امرأة – فتى – فتاة – شاب – شيخ...إلخ).
و- عامل المهنة والأصل الاجتماعي.
حيث تؤثر تلك العوامل مجتمعة على عملية الأداء. والتي يستعين فيها الرواة بوسائل مُتعددة من خلال النص ذاته، بمؤثرات مُختلفة، ما يُمكن أن تسمى (وسائل الأداء) التي يمكن إجمالها بحسب ترتيب أهميتها، وشيوع استخدامها في الأوضاع المُختلفة للأداء في السيرة هي:
◅ التلوين الصوتي، درجة الصوت ارتفاعًا وانخفاضًا.
◅ الإيماءات والإشارات التمثيلية بالوجه واليدين والأصابع.
◅ النظرات المعبرة عن الحالات المُختلفة (خوف – اندهاش – سعادة – رعب – ندم.. إلخ).
◅ استخدام الأدوات المساعدة (العصا – الحبل – جريدة النخل، وغيره من الأدوات).
◅ استخدام الجسم في تجسيد المشهد من الرأس إلى الجذع في حركات تعبيرية.
◅ الوقوف فجأة على القدمين لتمثيل المشهد.
◅ الدق بالقدمين لإحداث صوت قوي يتلازم مع حدث يعبر عن الصراع والقوة.
◅ استخدام اللوازم الصوتية والصيغ التعبيرية الخاصة والعامة. الصيغ الخاصة هي تلك التي تتعلق باللوازم التعبيرية التي يختص بها كل راوٍ. أمَّا الصيغ العامة فهي التي يستخدمها الرواة في حكاياتهم، مثل (عبارات وصيغ البداية والنهاية) تلك التي تُقال في أوائل الحكايات ونهاياتها أيضًا.
الخلاصة:
إنَّ الحكاية الشعبية إبداع فنّي أدبي، انتقل إلينا عن طريق المُشافهة جيلًا بعد جيل. والأداء الفني للحكاية هو الخطوة المُكمِّلة لعملية الخلق، واكتمال القُدرات الفنية ونضجها، مما يؤهل المُبدع لإنشاء العمل الفني الشعبي أمام جمهوره. فرغم أنَّ الأداء في الحكاية الشعبية يتميز نسبيًا بالثبات، إلَّا أن ذلك لا يمنع أن يكون لكل مُؤدٍ أسلوبه الخاص في تقديم روايته، مما يؤكد على التنوع في الأداء.