كيمياء الأدب وأدبية الكيمياء

د. سمر الديّوب


 

ننطلق من فرضيّة ترى أنّه يمكن لنا تناول الأدب بمنظور علميّ كيميائيّ، وتناول الكيمياء بمنظور أدبيّ، فتجتمع الكيمياء والأدب فيما يعرف بالكيمياء الأدبيّة، وتتفاعل العناصر الكيميائيّة بطريقة شعريّة، وتتفاعل مشاعر الأديب بطريقة كيميائيّة، فتتأدّب الكيمياء، ويتكمّى الأدب، وتتواصل الحروف في الأدب تواصل الذرّات في الجزيئات، وللجزيئات جمال شكليّ، وتتشكّل الكلمات في الأدب جماليّاً، وسنتخذ من الشعر أنموذجاً في هذا المقام.

إنّ التفاعل العاطفيّ في الشعر عمليّة كيميائيّة، والنفور من أمر ما ناجم عن تفاعل كيميائيّ، وموسيقى الشعر فنّ مسموع ذو علاقة بكيمياء المشاعر.

وتخترق الكيمياء أجزاء حياتنا، فكلّ ما فيها متأثّر بالكيمياء، ومقابل الروابط الكيميائيّة روابط إنسانيّة، ويعني ذلك أنّ العلاقات الإنسانيّة كالروابط الكيميائيّة، فثمّة تفاعل مشاعر، وتأثير متبادل، ومشاركة.

وننظر إلى لغة الكون على أنّها لغة واحدة مهما اختلفت وتعدّدت، ويواجهنا مصطلحا الكيمياء والخيمياء، والخيمياء هي علم الطبيعة، وفنّ يسمح من جهة بتحقيق كمال المعادن، ومن جهة أخرى بصناعة مادة تشفي المرضى، وتمنح الشباب القوة، وهو علم خفيّ يقوم على تحويل معدن خسيس إلى معدن ثمين كالذهب، وتحضير إكسير حياة، وهو دواء لعلاج ما يصيب الإنسان من آفات، ويعمل على إطالة عمره، وتمثل الخيمياء المرحلة البدائية من الكيمياء القائمة على تفاعل العناصر لإنتاج مركب جديد، فللخيميائيّ كنزه الذي يسعى إليه، وللشاعر كنزه الشعريّ، وكلاهما يجده، ويسعى إلى التحوّل نحو الأفضل، والأرقى.


كيمياء الأدب دلالة واصطلاحاً

نجد في المعاجم اللغويّة إشارة إلى جذر لغوي للكيمياء، فهي تعود إلى الأصل الثلاثيّ "كمي"1 وكمى في العربيّة ستر، وأخفى، وكمى الحقيقة يكميها، وأكماها: كتمها، والفارس الكميّ هو الذي يظهر، ويختفي:
إذا الكماةُ تنحَّوا أن تصيبهم
حدّ الرماحِ وصلناها بأيدينا2

وكيمياء كلّ شيء جوهره، قال أبو تمّام معاتباً عليّ بن الجهم:
فإمّا جازَ مني الشعرُ فيهم
وإمّا جاز منك الكيمياءُ3

ويؤكد الخوارزميّ أن اسم صناعة الكيمياء عربيّ، واشتقاقه من كمى يكمي: إذا استتر وأخفى، ويقال: كمى الشهادة يكميها: إذا كتمها4

أما علمياً فالكيمياء هي العلم الذي يهتمّ ببنية المادة، وتركيبها، وخواصها، وتفاعلاتها، وسلوكها5 فثمّة كيمياء صبر، وقناعة، ورضا، وألم، وسعادة، فلأبي أحمد الغزالي كتاب ذو مضامين فلسفية بعنوان "كيمياء السعادة"، فيربط علم الكيمياء العناصر المتفرّقة في نسق واحد، أمّا الخيمياء عند العرب فهي الكيمياء التي تحوّل المعادن الرخيصة إلى ثمينة، كتحويل الرصاص إلى ذهب، وهي خفيَة، لا يعرف أسرارها غير الخيميائيين، وهنا يلتقي الجذر اللغوي، والمصطلح العلمي في معنيي: الستر والإخفاء.

ويدرك الخيميائيّ أسرار المواد الصلبة والسائلة، ويعرف لغة الرموز والإشارات، فينجم عن ذلك تركيبة خيميائيّة ذات سمة شعريّة في تناغمها وانسجامها، أو سبيكة إبداعية.

ويسعى الخيميائي إلى المعرفة، ويتأمل في تركيب الوجود بعقله الكيميائيّ، وحدسه الشاعريّ، فيرفع المادي إلى مرتبة عليا حين يحوّل المعدن الخسيس إلى معدن نفيس، وتنجم دراسة العلاقة بين العناصر عن حب، وليست دراسة موضوعية مستقلة.

ويعني ما سبق أن الخيمياء تلجأ إلى الرؤية القلبيّة الحدسيّة في تعليل الظواهر، فتحوّل المعادن الخسيسة كالحديد والرصاص إلى معادن ثمينة كالذهب عن طريق التوصل إلى حجر الفلاسفة، أو تحضّر إكسير حياة، وهو دواء يراد منه علاج كلّ ما يصيب الإنسان من آفات وأمراض، ويعمل على إطالة الحياة والخلود، فالجزء السائل في الخيمياء هو إكسير الحياة الذي يمنع الخيميائي من أن يهرم، والجزء الصلب هو حجر الفلاسفة، وله قدرة على تحويل كميّات كبيرة من المعادن الرخيصة إلى ذهب، فتسلب خصائص جوهر مادة، وتفيد منها مادة أخرى.

ويعني ما سبق أن الطبيعة مكتوبة بلغة كيميائيّة، فثمّة علاقة بين الأدب والكيمياء، وهي علاقة جدليّة، فتبني الكيمياء نظريّاتها العلمية على الفرضية، والخيال، ومبدأ الاحتمال، وتثبت التجربة والتفسير العلميّ صحة الفرضيّة، وفي الأدب خيال خصب، وفرضيات، ومبدأ احتمالات، فتلتقي العلوم في التجريب، والخيال، والاحتمالات.

ولم تعد الخيمياء خفيّة، لا يعرف أسرارها سوى الخيميائيّين، بل توسعت، ودخلت نواحي الحياة، ففي الكيمياء رموز، وللأدب رموزه أيضاً، والكيمياء علم تحويل المادة، ويحوّل الأدب الانفعالات والمشاعر إلى قصيدة، وتحيل كيمياء الشعر الفكرة المجرّدة إلى صورة جميلة، والشيء غير الملموس إلى نصّ مشاهَد عيانيّ، فتحدث في الغزل -على سبيل المثال- تفاعلات كيميائيّة، تغيّر لون الوجنتين إلى الأحمر، ويذيب العشق جسم العاشق، ويتحوّل لون الخمر –في الخمريات- نتيجة تفاعل كيميائيّ، فثمة كيمياء مواد، وكيمياء نفوس، أو مشاعر، وثمّة علاقة بينهما.

الشاعر خيميائي في هذا العالم الذي يعيش فيه، فالكون -في نظره- لغة من الإشارات والرموز، واللغة نظام من الإشارات، فثمّة علاقة قويّة بين اللغة وما يفصح عنه الكون.

يعني ما سبق أنّ الشاعر خيميائيّ، تضطرب في داخله انفعالات تُخرج مركّباً هو القصيدة المشتملة على نظام من الإشارات، ففيها رموز تحتاج إلى تأويل، والشاعر والكيميائيّ يصلان إلى المعرفة بالتجربة، فإذا كان هدف الخيميائي تحويل المعدن الخسيس إلى معدن ثمين، عمل الشاعر على تحويل الفرد في مجتمعه إلى فرد سام، وكلاهما يصل بالتأمل، فلن يتغير الرصاص إلى ذهب إلا إذا حدث تغيير كيميائيّ في تركيبته، ويتغير الإنسان حين يحدث تغيير كيميائيّ في انفعالاته، ومشاعره، فالخيمياء الكيميائيّة تولّد ذهباً، وتولّد الخيمياء الشعريّة نوراً، ومعرفة.

ويفهم الكيميائيّ لغة الكون، ويفهم الشاعر لغته، فيقرأ كلّ منهما الإشارات، ويتبع قلبه وحدسه، ويدرك أنّ الكل يرتد إلى وحدة، وكلاهما يحتاج إلى فهم لغة الكون، ولكل عنصر في الكون وظيفته في إطار الكلّ.

إنّ كيمياء الشعر لغة رمزيّة خاصّة؛ لأنّها تعبّر عن العالم غير المحدود، لغة حدس ورمز وإشارة، لغة يقول صمتها أكثر مما يقول بوحها، ولدى الشاعر المنشغل بكيمياء شعره الكثير من الخصوصيّات التي تهدف إلى تنقية النفوس، وتحويلها إلى ذهب خالص، فما بين الكيميائيّ والشاعر اكتشاف ما خفي، أحدهما يرحل في المادة، والآخر يرحل في النفس البشريّة.

وحين يتأمّل الشاعر تضطرب دقّات قلبه، وتنفّسه، وبدنه، فيحقّق أعلى امتلاء بالطاقة الداخليّة، ويتناغم كيمياء الجسد وكيمياء الشعر؛ لتحقيق تناغم روحيّ. فخيمياء النفوس جزء متعلّق بالمشاعر الخفيّة التي تحتاج إلى تأويل، إنّها تقوية الروح الداخلية، وتركيز الأفكار.

وتهدف الكيمياء إلى ثبات المواد المستخرجة من المادة الخسيسة، بخلاف كيمياء الشعر التي تتناغم من الداخل؛ لتخرجه برموز وإشارات.

وننتهي إلى أنّ القصيدة نتاج تفاعل كيميائيّ، تمتزج فيه عناصر مختلفة، ينجم عنها إنتاج جديد من تفاعلها، ترتبط بعلاقة الشاعر بمن حوله، فيوازن بين ما في داخله وما يقدّمه، بين المادة والروح.

 


الإحالات: 1- ابن منظور: 1994، لسان العرب، ط3، دار صادر، بيروت، مادة كمي.┇2-البيت لبشامة بن حَزن النهشليّ، ينظر: عبد القادر البغدادي: 1418هـ، خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، ط4، مكتبة الخانجي، القاهرة، 8/301.┇3- أبو تمام، حبيب بن أوس الطائيّ، ت: 231هـ: د.ت، الديوان، فسّر ألفاظه ووقف على طبعه: محيي الدين الخياط، طبع مرخصّ من نظارة المعارف العمومية الجليلة، ص: 394.┇4- محمد بن أحمد الخوارزمي، ت: 287هـ: 1989، مفتاح العلوم، ط2، تحقيق: إبراهيم الأبياري، دار الكتاب العربي، بيروت، ص: 277.┇5-روحي الخالدي: 2012، الكيمياء عند العرب، ط1، مؤسسة الهنداوي للتعليم والثقافة، القاهرة، ص: 59.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها