يعني فنّ تربية الأطفال استخدام مجموعة من المهارات والأساليب التّربوية التي تهدف إلى تنشئة الأطفال بطريقة تعزّز نموّهم الجسديّ والنفسيّ والاجتماعيّ بشكل صحّيّ ومتوازن، وهذا الفنّ يتطلّب التّوازن بين الحبّ والانضباط والقدرة على تقديم التّوجيه والدّعم بطريقة فعّالة، كما يتطلب وجود مجموعة من الأساليب والمهارات الّتي تساعد الأهل في تقديم أفضل رعاية وتوجيه لأطفالهم، ولا بدّ من إظهار الحب غير المشروط للطّفل من خلال: العناق والكلمات الطيّبة والدّعم المستمرّ، واستخدم لغة بسيطة في التّحدّث معه وتجنب النّقد السّلبيّ، ممّا يعزّز شعور الطّفل بالأمان والانتماء، مع التّركيز على نظام التّعليم بالمثال أيّ التّعامل مع الطّفل بنموذج القدوة الحسنة، واستخدام المواقف اليوميّة كفرص لتعليم القيّم والأخلاق، لأنّ الأطفال يتعلّمون من خلال ملاحظة سلوك البالغين، لذا كُنْ مثالاً جيداً في التّعامل مع أطفالك والآخرين وإدارة المشاعر.
أهمّيّة فنّ تربية الأطفال:
يكتسب فنّ تربية الأطفال أهمّيّة كبيرة في تطوير الأفراد والمجتمعات، فهو يشكّل الأساس لنمو الأطفال ليصبحوا أشخاصاً بالغين مسؤولين ومتوازنين، فالتّربية السّليمة تساعد في تعزيز ثقة الطفل بنفسه وقدراته، ممّا يجعله أكثر استقلاليّة واعتماداً على نفسه، وبالتّالي تحقيق التّواصل بفعّاليّة إيجابيّة مع الآخرين، مما يساعد في بناء علاقات اجتماعيّة صحيّة ومستدامة، ومن خلال التّربية الجيدة يتعلم الأطفال القيّم الأساسية مثل: الاحترام والأمانة، مما يسهم في تشكيل شخصيّاتهم الأخلاقيّة واندماجهم مع أفراد المجتمع، وبالتّالي تحقيق التّعاون والمشاركة والتّواصل المفيد، وهي بمجموعها مهارات ضروريّة للحياة الاجتماعيّة والمهنيّة.
ويؤكّد الغزاليّ -رحمه الله- على أهمّيّة التّربية، وخصوصاً في حالة الصّغر بقوله: "اعلم أنّ الطّريق في رياضة الصّبيان من أهم الأمور وأوكده والصّبي أمانة عند والديه، وقلبه الطّاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كلّ نقش وصورة، وهو قابل لكلّ ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه، وسعد في الدّنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبوه، وكلّ معلّم له ومؤدّب، وإن عُوّد الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم عليه والولي له"(1).
أنواع أساليب التّربية الأسريّة:
من خلال ملامستي للواقع في مجتمعاتنا أبيّن أنواع أساليب التّربية الأسريّة حسب وجهة نظري، وهي:
1. الأسلوب التَّعَسُّفِيّ الدِّيكْتَاتُورِيّ: للأسف هذا الأسلوب في التّربية مستخدم بكثرة في المجتمع، ويُحرم فيه الطّفل من أبسط حقوقه، وهي السّؤال والرّد عليه، وعليه أن يطيع أسرته وكأنّه مسلوب الإرادة والحرية، ويقوم الآباء بفرض إرادتهم على أطفالهم بمنتهى الديكتاتوريّة، وهذا الأسلوب هو وراء أغلب الانحرافات الأسريّة، وسبب تدمير الأسرة، ويتناقض تماماً مع متطلّبات وأحكام الدّين الإسلاميّ الحنيف، وينتج عن هذا الأسلوب أبناء مطيعون بداية منحرفون نهاية، لا يشعرون بالثّقة والاضطرابات النّفسيّة تعصف بهم دائماً.
2. الأسلوب الإهمالي المفرط: الوالدان في هذا الأسلوب يتّصفان بعدم المسؤوليّة الحقيقيّة عن تربية أولادهما، ويكتفيان بتقديم الطّعام والشراب، وتوفير المنزل والإقامة للأولاد، ويظهر هذا الأسلوب عند الآباء الأكثر فقراً، ويعانون من حالة اقتصاديّة صعبة، حيث يقضي الوالدان جلّ وقتهما في سبيل تأمين لقمة العيش، وكان الأولى إعطاء الأولاد جزءاً من وقتهما، وتعميق أواصر المودّة والحنوّ والاقتراب نفسيّاً من أولادهما، وينتج عن هذا الأسلوب أبناء غير مطيعين، ولا يملك الأبناء هنا الثّقة بالنّفس، ويكونون عرضة للمشاكل والتّأقلم مع الواقع.
3. الأسلوب الواعي: يعتمد هذا الأسلوب على الحوار الهادف والتواصل الآني مع الأولاد. الآباء هنا يراقبون أولادهم خصوصاً في مرحلة المراهقة بأسلوب هادئ ويحدّدون لهم المعايير الصّحيحة للتّعامل، وتكون أساليبهم توجيهيّة تربويّة لا عقابية تسلطية، وهذا الأسلوب يجعل الأولاد منضبطين متزنين نفسياً وعاطفياً، وتنعم الحياة الأسريّة بكل مشاعر الدّفء والحنوّ والتّعاون، وينتج عن هذا الأسلوب أبناء متميّزون، لديهم ثقة بالنّفس وسعداء في مجتمعهم قادرين على تجاوز الصّعوبات المستقبلية الّتي قد تعترضهم.
تنظيم المهمّات الأسريّة:
إن تنظيم المهمّات الأسريّة كل في اختصاصه من أهم معالم التّربية الأسريّة الصّحيحة ولكلّ منا مهمته في هذه الدّنيا، فمهمّة الوالدين: إنشاء أسرة سعيدة، ورعاية الأولاد في كلّ مراحل العمر منذ ما قبل الولادة حتّى نهاية الحياة، ومهمّة الأولاد: طاعة الوالدين والتّعلم منهما والأخذ عنهما، ومهمّة الأجداد: تجميع الأولاد والأحفاد وتوجيه النّصح من خلال سرد القصص والتجارب الّتي مرّوا بها؛ لينتفع بها أولادهما وأحفادهما، وهذا العمل والاجتماع عند الأجداد من أهمّ عوامل تعميق الأواصر الاجتماعيّة، وخلق الدّفء وتنمية عنصر الحنو عند الأحفاد.
وهنا نطرح السّؤال الذي قد يراود الكثيرين: هل يمكن أن تكون الأمّ بديلاً عن الأب في التّربية الأسريّة؟ من الشائع في مجتمعاتنا أن البنت تحتاج لوالدتها أكثر من حاجتها لوالدها، وأن الابن يحتاج لوالده أكثر من حاجته لوالدته، فما مدى صحة ذلك؟
بدايةً؛ فإنّ الأب والأمّ كلاهما على حد سواء لا يمكن الاستغناء عنهما لإنشاء أسرة سعيدة، فالوالد بالإنفاق والوالدة بالإشفاق، وإن كان فقد الأم أشدّ قسوة من فقد الأب، فهذه جبلة بشرية قد فطر النّاس عليها، ولقد سمّت العرب قديماً فقيد الأب باليتيم وفقيد الأمّ باللطيم، وإنّه في الوقت الذي تحتاج فيه البنت لحنان والدتها، فهي تحتاج إلى والدها الّذي يمدّها بعوامل قوة الشّخصيّة، وحسن التّعامل مع الذكور عامة، كما أنّ الولد بحاجة لحنوّ والدته وصدرها الدّافئ دائماً.
فالنّتيجة: إنّ الأمّ والأب كلاهما يكمل الآخر، وهما مصدر العطف والقوة لأولادهما، ولا يمكن الاستغناء بأحدهما عن الآخر في نطاق التّربية الأسريّة، ومن أهمّ وسائل الوقاية في التّربية الأسريّة أن نربّي أولادنا على علوم الدّين الإسلاميّ الحنيف، وندربهم على العمل بأركان الإسلام مع توفير كافّة سبل التّحصين من مصائد الشّيطان، وكلّ ذلك يكون بالقدوة الحسنة وتقوية الوازع الدّينيّ، وغرس المثل والقيم في نفوس أولادنا، وإنّ التّربية مهمّة شاقة تحتاج لصبر وحكمة وعلم؛ ليجني الآباء والأمهات ثمرة تربيتهم في أولادهم، فكما يخاف الآباء والأمهات على أبنائهم من برد الشّتاء وحر الصّيف، فلا بُدّ من الخشية عليهما من الوقوع في نار جهنّم؛ لذلك التّربية الأسريّة الإيمانيّة هي القاعدة الأسمى والنموذج الأصح لتّربية الأبناء.
أهداف فنّ تربية الأطفال:
إنّ الطّفل الّذي يتلقّى رعاية وتربية أخلاقيّة سليمة في بيئته المنزليّة، سيكون أكثر قوّة في مقاومة الأمراض الاجتماعيّة المنتشرة في المجتمع، وسيكون محصناً من الانحلال والفساد ووسائل الاغراء الأخرى، وأرشدنا الإسلام إلى سبل تربية الأبناء وذلك من خلال: التّقرّب والتّودّد للولد ومحاورته ومخاطبة العقل من أجل إقناعه، كما لا بدّ من الابتعاد عن أسلوب القهر والعنف والإكراه في التّعامل معهم، وضرورة اللجوء إلى أسلوب العطف والكلمة الطيبة، فالرّفق بالأبناء أفضل وسيلة؛ للتّعامل معهم ولتربيتهم تربية قويمة أساسها التّمسّك بتعاليم الإسلام والأخلاق الفاضلة، وقال عليه الصلاة والسلام: (إنّ الرّفق لا يكون في شيء إلّا زانه، ولا ينزع من شيء إلّا شانه)(2).
إن فنّ تربية الأطفال ليس فقط مسؤوليّة تجاه الأبناء، وليس مجرد مجموعة من القواعد والطّرق المحدودة، بل هو استثمار طويل الأمد في المستقبل، وعمليّة مستمرّة تتطلّب الصّبر والفهم والحبّ، وبالتّالي فإنّ الاهتمام بالتّربية السّليمة يمثّل خطوة أساسيّة نحو بناء جيل قوّيّ ومجتمع متوازن.
الهوامش:
1- أبو حامد، محمد بن محمد الغزالي، إحياء علوم الدين، عمل بدوي طبانة، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية، د.ت، الجزء: 2، ص: 70.
2- أبو الحسين، مسلم بن الحجاج، صحيح مسلم، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، بيروت، دار إحياء التراث العربي، ط1، 1374هـ/1955م، كتاب الوصية (45)، باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (23)، حديث (2594)، الجزء: 4، ص: 379.