عِيدُ الأَضْحَى المبارك يطرق أبواب المدينة معلنًا قدومه الوشيك، والأضاحي تغزو الأحياء السكنية والعمارات. الأطفال يتراكضون خلفها بفائض من السعادة. والحشائش اليابسة والأعلاف تترامى على امتداد البصر في الأرصفة، وتقتطع ما شاءت من الشوارع لتزاحم الرّاجلين وتعزّز حنق سائقي السيارات من زحمة المرور.
تسلّل إلى شارع "العربي بن مهدي" من حيث لا ندري. انتصب واقفاً بشعره الأشعث ولحيته الكثّة معتمراً قبعة وكأنه استعارها من "تشيجيفارا" منذ حين. استلّ جيتارته، وبدأ بالعزف بعد أن وضع صحناً من الألومنيوم أمامه... انتشرت نغمات الموسيقى لتغمر الشارع. تقاطر المارة إلى مصدر الموسيقى. ضجّ الجمهور بالتصفيق. فتساقطت بعض الدريهمات على خجل في الصحن.
اقترب منه شخصان بزيّ مدنيّ وطلبا منه بطاقة هويته، وسألاه بفظاظة: هل لديك ترخيص للعزف؟ ظلا ينتظران الإجابة وهو غاصّ في ذكرياته. لقد بلغ مدينة برشلونة دون تأشيرة ولا أوراق ثبوتيّة متأبطاً خوفه وجوعه. لقد وفرت له الموسيقى القوت والأمان في تلك المدينة التي تعشق الحياة. كان ينتظر أماسي الربيع والصيف ليذوب وسط السياح في ساحة "الرامبلا". يتفقد المكان في تجواله، ثمّ يختار موقعاً وسط التشكيليين، وفناني الاستعراض. فيشرع في عزق موسيقى ساحرة وغريبة على أسماع الأوروبيين. كانت السعادة تغمر قلبه عندما يندفع أحدهم ليرقص على أنغام موسيقاه، فيدرك بحدسه أنه أحد أبناء موطنه حرّكت الموسيقى شجونه فالتهب رقصاً. لم يكن أحد يعير اهتماماً لبطاقة هويته أو جواز سفره لأن موسيقاه جواز سفر تستوقف الجميع بما فيهم رجال الشرطة، الذين يتريّثون أمامه ثمّ يواصلون دوريتهم بعد أن يسمعوه بعض الكلمات التشجّيعيّة اللطيفة بلغة أهل كتالونيا فتأنّس غربته.
تحجّرت الكلمات في فمه.. وعجز عن القول: هل يحتاج نشر موسيقى البهجة والفرح في المدينة إلى تصريح؟
تحلّق الناس حول العازف وهو يتوسل راجيّاً منهما السماح له بالانصراف، لكنّهما أصرا على أن "يشرفهما" إلى حيث يوقّع على المحضر.
تشجّع أحد المارة وتقدم من الشخصين ليسألهم: ما الذنب الذي اقترفه هذا الشاب العازف؟ نهره أحدهما بالقول: وما شأنك أنت؟ إنّه يدري ما فعل. تظاهر بأنّه لم يسمع الجواب، فأعاد السؤال: ما ذنب هذا الشاب الذي يريد أن يحرّرنا من الحزن؟ فجاءه الرد حازماً: إنّه يمارس التجارة دون ترخيص، ويحثّ الناس على التجمهر في الشارع العام، ويعيق حركة المرور...
طأطأ الشاب رأسه مطيعاً، وتبعهما إلى حيث أرادا بعد أن وضع جيتارته في حقيبتها، وترك صحن الألمنيوم في مكانه وكأنه يريد أن يتخلص من دليل إثبات ما اعتبراه تهمة. تعاطف معه صبي وسارع للحاق به، وأفرغ ما في الصحن من دريهمات في جيبه.
مشى بخطوات متثاقلة.. مُلتفتاً بين الحين والآخر ليرى تجمهر قطيع الخرفان والبشر في المكان الذي برحه. تحولت ضوضاء الشارع إلى صوت شجيّ. إنه صوت والدته وهي تحتضر. كانت تترجاه أن يعود من ديار الغربة ليعزف لها موسيقى أغنية المطربة الوافية "أنا الوحدانية أنا قليلة الوالي" التي كانت تداوي ترملها بعد وفاة والده. شاطت دمعة في مقلته معلنة عن احتضار الموسيقى في هذه المدينة بعد أن غادرت أمه إلى دار البقاء.