الزِّراعةُ والحصادُ في مِصرَ القديمة

مواسمُ العَرقِ المُستَطاب

سامي أبو بدر



إن علاقة المصريين بالزراعة قديمة قِدَمَ تاريخهم المسَجَّل، فمنذ أن تحوَّلوا من العيش على ما تمنحهم البراري والصحاري من طعامٍ إلى الاعتماد على ما تُنتجه الحقول من محاصيل متنوعة؛ ارتبطت حياتهم بالزراعة ارتباطاً شَرطيًّا، إذ وفرت لهم سُبل العيش والبناء والإعمار، ووجهتهم إلى الاستفادة من مياه النيل، وعلَّمتهم العمل المنظم والإنتاج والادخار، ودعتهم إلى السَّكنِ بجوار حقولهم، فكوَّنوا تجمعات سكانية متجاورة كانت سببًا في تقاربهم وترابطهم، ما ساهم بشكل رئيسٍ في بناءِ دولة موحَّدة قوية تنعم بالاستقرار والازدهار في أغلب عصورها، وتشييدِ حضارة استثنائية على طول جانبي النهر الذي جعل من مصر البلد الزراعي الأشهر بين بلدان العالم القديم، ينتج غذاءه، ويصدره إلى جيرانه، وكثيرًا ما أنقذ شعوبًا أخرى من مجاعات مُهلِكة، كمجاعة سنوات القحط السبع حين وَلِيَ النبيُّ يوسف عليه السلام خزائن أرض مصر.
 

تنظيم المواسم الزراعية:

كان الفلاح المصري يعرف موعد فيضان النيل، وينتظره مُتلهِّفًا آمِلًا ألا يتأخر عن موعده، متخوِّفًا من أن ينخفض منسوبه فيُسبب الجفاف، أو أن يزيد عن الحد فيُغرق القرى، فإذا فاض النهر معتدلًا راقب جريانه إلى التُّرع والأودية، وغَمْرَهُ للسهول الفيضية المحاذية، ثم جلس يترقب انحسارَه وارتداده إلى مجرى النهر، مُخلفًا رواسب طينية عبارة عن طبقة من الطَّمي الغني بالعناصر العضوية المفيدة لتخصيب التربة حمَلَها معه في رحلته الطويلة من الجنوب إلى الشمال، ومُسببًا زيادة للمساحات الطينية على حساب الرملية، وفي هذه الأثناء تكون قد بدأت السَّنة الزراعية المصرية، التي قسَّمها إلى ثلاثة فصول أو مواسم، الأول (أَخِتْ)، وهو موسم الفيضان وتهيئة الأرض للزراعة، ويضم أربعة أشهر مصرية هي تُوتْ (أول شهور السنة، ويوافق أوله الحادي عشر أو الثاني عشر من سبتمبر من السنة الميلادية، حسب كون السنة بسيطة أو كبيسة)، وبَابَهْ، وهَاتُورْ، وكَيْهَكْ، وفي هذا الموسم يتهيأ الفلاح لرحلته مع الحرث والزرع، ثم يليه الموسم الثاني (بِرْتْ) أي الظهور أو الخروج، وهو موسم البَذر والإنبات، ويضم شهور (طُوبَهْ وأَمشِيرْ وبَرْمَهَاتْ وبَرْمُودَةْ)، وفي بدايته تصبح الأرض صالحة للزراعة، فيصطحب الفلاح ماشيته وأدواته مُتسليًّا بالأهازيج، ليشرع في حرث الأرض بالمحراث، أو عزقِها بفأسه، ثم يُسَمِّدها برَوث البهائم (السِّماد البلدي/ السِّباخ) الذي يعمل على تحسين التربة ويساعد على نمو الزرع ووفرة إنتاجه، وقليلًا ما كان يستخدم السماد الأزوتي المستخرج من مواد عضوية في التربة (يدخل اليوم في تصنيع الأسمدة)، خاصة إذا كانت البذور لِخضروات حسب ما ذكر المؤرخ الروماني بليني (بلينيوس الأكبر توفي 79م).

وبعد التسميد يقوم الفلاح ببَذر الحبوب في الحقل، وغرسها بيديه أو قدميه أو باستخدام قطعة خشبية في يده سمَّاها المصريون فيما بعدُ (الْمِزراع)، أو تغطيتها بلَوح خشبي سُمِّي (الْمَهَّادَة) يجرُّه عرضيًّا أحد الثيران، أو بسَوق الماشية الخفيفة كالأغنام والخنازير فوقها، ثم تَنبُت البذور فيتعهدها بالرعاية والسقاية وإزالة الحشائش، ومن ثم ينمو المحصول تدريجيًّا حتى يوشك على النضج، ثم يَحينُ موسم الحصاد (شِمُو)، الذي يَضمُّ شهور (بَشَنْسْ وبَؤُونَةْ وأَبيبْ ومِسْرَى)، وخلاله يجفُّ النهر لتبدأ من بعد الجفاف دورة سنوية جديدة، ومع مطلع (شِمُو) يكتمل نُضج المحصول، ثم يبدأ الفلاح حصاده خلال فترة زمنية عُرفت بعد التعريبِ بأيام الحصيدة، أو أيام الضَّم؛ لأنه كان يضمُّ المحصول بعضه إلى بعض في حِزَمٍ صغيرة، ويربطها بحبال مصنوعة من ألياف الكتان أو غيرها، لتنقل على الأكتاف أو على ظهور الحمير إلى مكان (جُرْن) مجهز مسبقًا، فتُرَصُّ متجاورة لِتُكوِّن شكلًا مربعًا أو دائريًّا، ثم تُسحب أو تُساق الثيران والأبقار فوقها حتى تهرسها، فتفرغ السنابل من حُبوبها، في عملية يُطلَق عليها الدَّرسُ أو الدِّراسُ، وكان مِمّا يُنشده الفلاح مُسلِّيًا نفسه وماشيته أثناء الدِّراس: "ادرسي أيتها الثيران، فإن التبن سيكون عَلَفًا لكِ، والحب من نصيب أصحابك، فليطمئن قلبك، ادرسي إن الجو صحو جميل"، ثم تأتي بعد ذلك عملية التذرية لفصل الحبوب عن القش أو التبن باستخدام المذراة، ثم الغربلة، على إثرهما يُجمع المحصول في أكوام لوزنه من أجل تقييم إنتاجية الحقل واستقطاع ضريبة الدولة، وللتصدق بشيء منه على الفقراء لإعانتهم في ظاهرة تكافلية يسمونها (ماعو)، وهو المصطلح الذي ربط كثيرون بينه وبين اللفظ العربي (الماعون) الذي فسره ابن كثير وغيره بالزكاة، بعد ذلك يقوم الفلاح بمعاونة أسرته بتجفيف الحبوب وتحميصها تحت أشعة الشمس، والبعض كان يحمصها على النار في أوانٍ فخارية على درجة حرارة منخفضة، لتطهيرها من الحشرات والرطوبة، ثم يبدؤون في تخزينها داخل صوامع فُخاريَّة، أَو غُرَفٍ حجريّة كالتي رأَيتُ آثارها في معبد الرَّامِسيُوم بالأَقصر، أو طِينية كالتي كانت موجودة في بيوتنا الريفية لما قبل ثلاثين سنة مضت، أو في سلال صنعت من بوص الغاب، أو من القش، أو تخزينها عن طريق الكَمْر في حفرة في مرتفع رملي بعد تبطينها بالطين، ونادرًا ما كان يتم تخزين الحبوب في سنابلها دون دَرس، في حظائر أو غرف معدة لذلك، وبالتخزين ينتهي موسم الحصاد، إلا أن كثيرين من الفلاحين مِمَّن بكَّروا بزراعة حقولهم قمحًا أو شعيرًا وبالتالي بكروا بالحصاد؛ كانوا يتمكنون من زراعة الذرة كمحصول تَالٍ، وهو ما كانوا يسمونه بالانقلاب الشتوي، وجدير بالذكر أن الفلاحين كانوا يزرعون على مدار السنة محاصيل أخرى وخضروات ونباتات وأشجارًا تتناسب زراعتها مع درجة الحرارة المتفاوتة للفصول، وكشأن الفلاح المصري اليوم كان أجداده القدماء يصطحبون زوجاتهم وأبنائهم معهم إلى الحقل؛ لمساعدته في أعمال الزراعة والحصاد، إذ ظلَّت الزوجة المصرية على مرِّ العصور معينة لزوجها في أعمال الزراعة والحصاد والتخزين، وتربية الماشية وإطعامها.

أَدوات الرَّي في مصر القديمة:

بالإضافة إلى رَيِّ الحقول بالغَمْرِ؛ دَعَت الضرورة الفلاح إلى اختراع أدوات لرفع المياه من مجرى النهر أو الترعة إلى سطح الأرض وتحويلها إلى حقله، بعد انحسار الماء إلى النيل والترع والقنوات، فابتكر (الشادوف) الذي يُعد أقدم آلة للري في مصر، ويعود اختراعه إلى عصور ما قبل الأسرات، وقد عُثر على رسوم له في المعابد المصرية، وأكثر أشكاله انتشارًا ذلك الذي يتكون من قائم خشبي مثبت في الأرض رأسيًّا، ومثبت في أعلاه أُفقيًّا عارضة خشبية قابلة للتحريك تتدلى من طرفها المجاور للمياه عصا نحيفة رُبط في نهايتها دَلو من الجلد أو الفخار أو المعدن، يَسحبه الفلاح إلى النهر أو الترعة لغَرفِ الماء، وفي الطرف الآخر للعارضة ثُبِّتت قطعة حجرية تمثل ثِقَلاً مناسبًا يساعد الفلاح في رفع الدَّلو الممتلئ بالماء لتفريغه إلى الحقل مباشرة، أو إلى مصب في قناة تنقل المياه بعيدًا، ولا يزال الشادوف مستخدَمًا حتى اليوم في مناطق مصرية محدودة ولمساحات زراعية صغيرة، كذلك اخترع الفلاح المصري (الساقية)، ولا يُعرف على وجه الدقة تاريخ ظهورها في مصر، إلا أن عثور العالم الفرنسي هنري دارسي (توفي 1858م) على رسم لساقية من عصر الدولة الحديثة عندما كان ينظف إحدى آبار الدير البحري بالأقصر؛ يُؤكد أنها كانت موجودة في ذلك العصر وربما قبله، وفي شكلها الأول كانت عبارة عن دائرة خشبية، تعلق عند حافتها مجموعة من الدِّلاء لغَرف المياه من النهر أو البئر، ثم تدور لتفريغها في الجهة المقابلة في قناة تنقل المياه إلى الأماكن البعيدة، ثم تطور شكلها في العصور اللاحقة إلى أن بلغت الشكل الذي يعمل حتى اليوم في مناطق نادرة في مصر، وفي بادئ الأمر تم تشغيلها يدويًّا، ثم استُخدمت الثيران والأبقار والحمير لتشغيلها، وأقدم ساقية مكتشفة توجد حاليًّا في منطقة تونا الجبل (تاحنت القديمة) بمركز ملوي في محافظة المنيا، ويعود تاريخ إنشائها إلى عصر حكم الرومان لمصر الذي بدأ سنة 30ق.م.

ومن الأدوات التي صنعها واستخدمها الفلاح المصري القديم (الطنبور)، مُختَرَعُ العالِمِ اليوناني أرشميدس في القرن الثالث قبل الميلاد، وقد استخدم في مصر في العصر البطلمي، وهو عبارة عن أسطوانة خشبية أو معدنية، طولها ثلاثة أمتار تقريبًا، وقُطرها نحو نصف المتر، بداخلها بَرِّيم حلزوني، يُنصب مائلاً على حافة النهر ليغطس في المياه أحد طرفيه المُعَدُّ للغَرف، ثم يقوم الفلاح بتدوير الطنبور باستخدام مِقود في طرفه الآخر فيسحب المياه إلى أعلى، ومن ثم يصبها الطنبور في الحقل أو القناة، وكذلك استخدم الفلاح المصري الجِرار لنقل المياه إلى المساحات الصغيرة جدًّا، لكن الرَّي بها كان يستغرق جهدًا ووقتًا كبيرين.
 

أَدوات الزراعة والحصاد في مصر القديمة:

كذلك دعته الحاجة إلى اختراع أدوات تساعده على الحرث والزرع والحصد والدَّرس، فصنع للحرث (الفأس)، وهي آلة لِعَزق الأرض ونَبشها، استخدمها المصري منذ عصر الأسرات المبكرة (3200_2686ق.م)، وظهرت في رسوم لطوابع أختام أسطوانية كانت تُحلِّي أغطية أوان كبيرة عثر عليها في منطقة نقادة (نبيت القديمة) بمحافظة قنا حاليًّا، وكانت صورتها أحد نقوش الهيروغليفية الشكل الأول للغة المصرية القديمة، صُنعت أولًا من الخشب، ثم من النحاس في زمن الأسرة الخامسة، واخترع أيضًا (المِحراث)، وهو أداة على شكل فأس كبيرة استخدمها لحرث الأرض أو لِشَقها خطوطًا متجاورة أو متباعدة، كان يُجرُّ أولاً بواسطة الإنسان، ثم استُخدمت الثيران والأبقار والحمير لجرِّه، وأول اكتشاف له كان في آثار قرية ميدوم بمركز الواسطى في محافظة بني سويف، ويعود إلى الأسرة الثالثة (عصر الدولة القديمة 2686_2181ق.م)، كما اخترع الفلاح المصري (الْمِزراع)، وهو أداة لحفر جُورات (حُفر سطحية دائرية قُطرها وعمقها يترواحان بين ثلاثة وخمسة سنتيمترات) في الأرض المحروثة، لوضع البذور بها، وتغطيتها به مباشرة، صُنع أولاً من الخشب ثم من الحديد، أما للحصاد فقد اخترع (المِنجَل)، وهو أداة الحصد (الحَشّ) الرئيسة في تلك العصور، يشبه السكين الكبير أو السيف، معقوف من ناحية اليد، مقوس قليلًا ومحدب، ومنه ما سُنَّت له أسنان قصيرة طولها مليمترين تقريبًا، وُجدت صورته محفورة في مقابر الأسرة الأولى، ومقابر الدولة القديمة، وقد صنع في أول الأمر من حجر الظِّرَّان، ثم صنع من الخشب ثم من الحديد، ولا يزال حتى اليوم أحد أدوات الحصاد الرئيسة، ولا يكاد يفارق قبضة صاحبه طالما كان موجودًا بالحقل، وصنع لِلدِّراس (النَّوْرج) من جذع شجرة سميك جاف، طوله حوالي متر وربع المتر، مُثبَّت به عدد من العجلات الحديدية النحيفة المحدبة، يجره ثوران ليدور فوق المحصول بغرض دهسه وهرسه، فيفصل السنابل عن أعوادها ويفرغها من الحب، ظهر لأول مرة في مصر في العصر اليوناني وظل يستخدم إلى ما قبل أربعين سنة من الآن، واخترع الفلاح المصري (المذراة) للتذرية، وهي أداة خشبية مكونة من ثلاث قطع تُربط في بعضها بالحبال، تشبه ذراع الإنسان بأجزائها الثلاثة الكف والأصابع والراحة، ولعله استلهم فكرة اختراعها من شكل ذراعه، صنعها لتذرية الْحَبِّ المدروس من خلال رفعه بها في الهواء عكس اتجاه الريح ليتساقط الحب أسفلها، والتبن بعيدًا مع اتجاه الريح، وهي موجودة في مصر منذ عصور ما قبل الأسرات.

ويعرض المتحف المصري بالقاهرة ضمن مقتنياته أكثر من عشرين أداة للفلاحة في مصر القديمة، وبعض تلك الأدوات ما زال مستخدَمًا حتى اليوم رغم اختراع آلات حديثة كبدائل لها، فالفلاح المصري الذي حافظ على عادات وطقوس أجداده في الزراعة والحصاد على مدار آلاف السنين يأبى أن يتخلى عن بعض أدواتها؛ لارتباطه الروحي بها وبآبائه وأجداده الذين ورَّثُوه إياها، فضلًا عن بساطتها، واحترافه العمل بها.

المحاصيل الزراعية في مصر القديمة:

تعددت أنواع المحاصيل التي زرعها المصري القديم، إلا أن القمح كان أهمها وأشهرها، نَبتَ طبيعيًّا فعرفه المصريون واستزرعوه، ثم انتشر في أرجاء مصر، وفاض عن حاجتها فصُدِّر إلى بعض بلدان العالم القديم، ومن أسمائه القديمة بونت وبُرت وقَمحُو، ويبدو أن الأخيرين قد عُرِّبا إلى بُرّ وقمح، وتشير أبحاث عديدة إلى وجود أكثر من صنف للقمح في مصر القديمة، أشهرها (الحِنطَة) الذي كان يشبه الشعير، إلا أنه اختفي خلال القرن الأول الميلادي وحل محله في الأهمية والشهرة النوع المنتشر حاليًّا، ومن المحاصيل أيضًا الشعير، ثاني أهم المحاصيل المصرية القديمة، صنع منه الخبز ومشروب الجعة الكحولي، ومن أسمائه القديمة جِت، وأت، وتشير بعض النصوص القديمة إلى وجود نوعين منه آنذاك، هما الشعير الصعيدي والشعير البحري، ومن المحاصيل القديمة أيضًا الذرة، ومن أسمائه القديمة دوراتي، ومحصول الكِتَّان، الذي كان يُصنع منه النسيج والحبال، وعَثَر العالمُ الإنجليزيُّ فلندرز بيتري (توفي 1853م) على بذور له بمقبرة هوَّارة (هوارة المقطع) جنوب شرق مدينة الفيوم، تعود إلى عهد الأسرة الثانية عشرة (الدولة الوسطى)، وكذلك زرع محصول الفول، ومن أسمائه أور، وفور التي يبدو أنها عُرِّبت إلى فول، وزرع العدس، ومن أسمائه القديمة عرش، وله نقوش على معابد الأسرة التاسعة عشرة (الدولة الحديثة 1550_1069ق.م)، وزرع قَصَب السُّكر الذي عُثر على أقلامٍ صُنعت منه وكتاباتٍ بها في توابيت للموتى.

وإلى جانب ما ذُكر فقد زرع الفلاح المصري القديم البصل والثوم والقثاء والخيار والخس والكراث، والفجل والكوسة والملوخية، والباذنجان والكرنب والبازلاء واللِّفت، والكزبرة والبقدونس والسمسم، ودوَّار الشمس والتين والعنب والرمان والقاوون (الشمام)، وأشجار النخيل والنبق والسنط، والزيتون، والخروع، والأثل، والجميز والصفصاف اللذين كان لهما أهمية تبلغ حد التقديس في بعض المناطق، وكذلك زرع النباتات المستخدمة لأغراض طبية، والنباتات الصبغية التي احتاجها لصناعة الألوان التي يستخدمها في الرسم والتزيين، ولا يمكن أن نغفل تعلُّقَه الشديد بالزهور، فزرع بعضها كالورد والريحان والنرجس والأقحوان والآس، واحتفى بالبشنين (اللُّوتس) الذي كان ينمو طافيًا على سطح الماء في الترع والقنوات، وأُعجب بزهرته بلَونَيْها الأزرق والأبيض أَيَّما إعجاب، حتى غدَت أكثرَ الزهور انتشارًا في رسوم المصريين القدماء، وللكثير من المحاصيل والنباتات والأشجار والزهور نقوش على جدران المعابد ورسوم في لفائف البردي، كما أن للعديد من المحاصيل الزراعية في مصر القديمة ذِكر في كتب التاريخ القديم، وكتب الرسالات السماوية، ما يؤكد أن مصر كانت عامرة بها.

كانت الدولة تفرض ضريبة على الفلاحين تتراوح ما بين الخمس والعشر بحسب إنتاجية الحقول وتوفر المياه لديهم، فبينما تقل الضريبة في الجنوب كانت تزيد في الشمال حيث تكثر فروع النيل آنذاك، وتغمر المياه منطقة الدلتا وتبقى لفترة أطول، كان يجمعها عقب انتهاء الحصاد موظفون مختصون مُسجلِّين تفاصيلَها في أوراق من البردي، ومقابل تلك الضرائب كانت الدولة تهتم بشؤون الزراعة، فتستصلح مزيدًا من الأراضي، وتشيد السدود والمقاييس، وتُنشئ العديد من الإدارات الزراعية، والكثيرَ من الشُّوَن (المخازن) والصوامع، ومنذ عرف المصريون الزراعة، وإلى اليوم، ظلَّ الاهتمام بها قائمًا لاعتبارها العمود الفقري للاقتصاد المصري، الذي يحقق الأمن الغذائي لعموم المصريين، ولذا بقي المصريون رغم ما يمرون به أحيانًا من فترات عصيبة قادرين على البقاء والبناء.
 

أَعياد الفلاح في مصر القديمة:

ارتبطت بمواسم الفيضان والزراعة والحصاد طقوس تعكس الفرح والابتهاج، أفرزت العديد من المناسبات السعيدة التي اتخذها المصريون أعيادًا، كعيد رأس السَّنة (وِبِتْ رِنْبِتْ)، الذي يوافق ظهور النَّجم سُوبدِتْ (نَجم الشِّعرَى اليمانيَّة)، ويتزامن مع قُدوم الفيضان، وأَطلق المصريون عليه (عيد وفاء النِّيل)، وفيه كانوا يخرجون للاحتفال في الشوارع وبجوار قنوات المياه، وجاء في أخبار الإغريق عن مصر القديمة أنهم كانوا يلقون للنهر عروسًا بكرًا جميلة في كل عيد لظهور سُوبدِت، وعيد البَذر، الذي يتزامن مع بدء البذر والزرع، ثم عيد الحصاد، وهو اليوم الذي يقوم فيه الملك بحَصدِ أولى السنابل بمنجل ذهبي، إيذانًا ببدء موسم الحصاد، وعيد (شمو) الذي يعقب الحصاد، (وهو أحد أيام فصل الربيع حاليًّا)، كان الناس يخرجون فيه للتنزه فيما تبقى من مساحات خضراء، ويتناولون أكلات موسمية معينة كالفسيخ (سمك البوري المملح)، وما زال المصريون يحتفلون به ويمارسون خلاله الطقوس نفسها حتى اليوم، ويُطلقون عليه (عِيد شَمِّ النَّسيم).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها