لم تكن تقنية الحُلم كما كانت في الرواية التقليدية؛ فلم يصبح الحلم معتمدًا على الكلمة السردية وحدها، وإنما وظف معه الوسيط السمعي البصري في آن واحد، وهذه سمة تفاعلية افتراضية لم تكن في رواية ما قبل الإنترنت، وإنما كانت وسيطًا سرديًّا للكلمات دون وسيط سمعي وبصري معًا.
ومعلوم أن الحلم وسيلة تسلية للإنسان، ومعبر عما يجول بخواطره أثناء يقظته؛ "إننا نحلم في معظم الأحايين بالأمور التي نتجه إليها أشد انفعالاتنا، ومن هذا نرى أن انفعالاتنا لا بد أن يكون لها تأثيرها في إحداث أحلامنا"1، وقد كانت (رواية الزنزانة رقم 06 ) للروائي (حمزة قريرة) إحدى الروايات الرقمية التفاعلية التي رسمت واقع قضايا الوطن العربي المعاصر، عبر الوسيط الرقمي التفاعلي، ليس من خلال التقنيات السردية التقليدية فحسب؛ وإنما من خلال التقنيات التكنولوجية المعاصرة التي أدخلت الأدب حقل الرقمنة، وهي (المالتيميديا)، المعروفة بـ(الوسائط المتعددة: صوت، صورة، حركة، روابط...)، وقد استخدم الروائي تلك المعطيات في تشكيل الزمن النفسي لشخصياته الافتراضية؛ فشخصية (مراد) الشخصية الافتراضية الرئيسة التي تمثل رمز العربي المغترب عن وطنه؛ فلا مكان له ولا مأوى، لما فيه الواقع العربي من اضطرابات ومخططات هدم، فكان مصير (مراد) وضعه في الزنزانة، وسيتضح هذا من خلال الآتي:
أولًا ◂ عتبة العنوان ودورها في تشكيل الحلم الافتراضي:
لقد لاقى (مراد) أجواء نفسية وحسية بالزنزانة، خاصة أنه كان في زنزانة انفرادية؛ فتناسبت (تقنية الحلم الافتراضي) بتوظيفها في الواقع الافتراضي للرواية؛ فالشخصية الرئيسة (مراد) وحده حبيس زنزانة ضيقة، لا أحد يؤنسه، أو يسامره، أو يخفف عنه آلامه؛ ولهذا جاءت تقنية الحلم الافتراضي عوضًا له عن هذا كله؛ وقد صرَّح السارد بتلك المعاني، في قول (مراد) على لسان السارد: "الحلم شيء جميل، خصوصًا عندما تعيش في زنزانة لأكثر من سنة، إنه الطريقة الوحيدة للخروج من هذا المكان العفن، لا أحد يمنعك عن الحلم، لا حراسات ولا بوابات ولا جدران، والجميل في الحلم أنك غير مقيد بأي ضابط، كل شيء مباح ومتاح... ولجمال الحلم لم أحظ به إلا مرات قليلة في محنتي هذه"2، وقد وردت تقنية (الحلم الافتراضي) أكثر من مرة في الرواية.
ثانيًا ◂ المالتيميديا وتقنية الحلم الافتراضي:
وقد اتضحت تقنية (الحلم الافتراضي) في الرواية، فيما حلم به (مراد) حينما رأى (الضاوية) الشخصية الرئيسة المساعدة الافتراضية لـ(مراد) -الشخصية الرئيسة الافتراضية- كما في قوله على لسان السارد: "ليلة البارحة كانت أفضل كهرباء تصعقني، فقد حلمت بالضاوية"3، ثم يحيل من خلال تفعيل جملة (حلمت بالضاوية) في صورة رابط كلامي، إلى صفحة جديدة بعنوان (حلم بنفسجي) تحوي وسيطًا سمعيًا وبصريًّا ليصف فيه (الضاوية)، وقد ضمن المبدع صورة شخصية بصرية للضاوية.
هذا الوسيط البصري تظهر فيه صورة (الضاوية) وكأنها فتاة حيية في خدرها، تنظر بعينيها وكأنها تود أن تعبر عنه في حياء وخجل، إلى جانب شعرها المنسدل فوق ناصيتها وعلى جانبي صُدغيها، وأمامها (وزغ أو جراد أو ما يشبهه) فهي في حقل أخضر، فطبيعي أن يكون به بعض هذه الحشرات الزاحفة، ولم يكتف المبدع بتوثيق الوسيط السمعي البصري فحسب؛ وإنما وظف إلى جوارها الكلمة السردية الإخبارية؛ فيقول السارد على لسان (مراد) واصفًا جمال تلك الفتاة في لباسهما وبيان شوقه إليها: "كانت ترتدي فستانًا أبيض، وأنا أراقصها في حقل أخضر، الحلم يشبه فيلم الكارتون.. كان جميلًا، لأول مرة لم أستيقظ على مصيبة... ربما ما زال الوقت مبكرًا عليها.. كانت جميلة جدًّا4، شعور غريب ومجنون، تراه هو الذي يسمى الحب، كان قلبي يخفق بشدة أمسكتها من يدها، وكأني أعرفها منذ زمن طويل، استيقظت وصورتها مرسومة في مخيلتي، أنا أراها إلى الآن شفافة كالحلم، خفيفة كالريح، مغرية كالحياة، إنها الأروع، يكفي أن أعيش معها في الحلم أتراني ألقاها يومًا... أففف ما هذا5؟ ومن خلال الوسيطين السمعي البصري والسردي النصي يتضح جمال تلك الفتاة وما هو فيه من لوعة واشتياق للقائها؛ فهو استباق أمنيات وتفاؤل مستقبلي في تمنِّيه الخروج من الزنزانة ليبحث عنها ويلتقيها، كما أن تراقصهما يعبر عن حالته النفسية المستقبلية بما سيكون فيها من سعادة وفرح... فحاله الآن حبيس زنزانة، وكأن ذلك الحلم شعاع أمل مستقبلي لانطلاقته وحريته بعدما يخرج من تلك الزنزانة.
ثالثًا ◂ الزمن النفسي لتقنية الحلم:
اتخذ السارد المجاز وسيلة لرسم حلمه المنامي، متخذًا منه معادلًا ومماثلًا لواقعه الحقيقي في الزنزانة حال اليقظة؛ فيقول السارد على لسان (مراد): "مرة منها حلمت أني أحلق فوق الشاطئ مع النوارس، وأرى الجميع في الأسفل، أعجبتني تجربة الطيران.. لم تدم طويلًا؛ إذ سقطت في الحلم بعد أن اصطدمت براية الوطن على أحد القوارب، وسقطت في البحر وبدأت أتبلل وأغرق، فاستيقظت منزعجًا ووجدت نفسي على أرض الزنزانة، وقد بللت المكان، كان الجو جدًّا باردًا، ولا أغطية كافية في الزنزانة تلك المرة التي يحدث لي مثل هذا الموقف المخجل، بكيت كثيراً، لكن ضحكت بعدها أكثر على ما حل بي؛ فالمشاعر تساوي عندي..."6، فهذا الحلم مماثل موضوعي لحالة (مراد) في زنزانته؛ فالزنزانة لا غطاء فيها يتغطى به أثناء نومه، رغم شدة البرد القارص، فكأن درجة برودته الحقيقة الواقعية في يقظته، مثل إنسان وقع في البحر فتبللت ثيابه وارتعدت فرائصه من شدة البرد، وبهذا وظف (الحلم) ليعبر عن حالته الحسية في الزنزانة، التي قضاها بلا غطاء صيفًا وشتاء، مما كان وسيلة تعذيب له في الزنزانة، مع ما كان من ضيق مكان وقلة طعام وشراب وصعق بالكهرباء، وبهذا نخلص إلى معادلة المماثلة السيميائية الدلالية الآتية: (الحلم المنامي مبتل بالماء = اليقظة بلا غطاء).
رابعًا ◂ التداخل الأجناسي:
من أهم التجديدات للتداخلات الأجناسية عند الكاتب في هذه الرواية، أنه وظف تقنية الحلم في صورة حسية حداثية مجازية، ليشكلها بإحدى الوسائل الحداثية المعروفة في حقل الشعر، إنها وسيلة (تراسل الحواس)، فقد أورد الكاتب أورد نوعي الصورة الحسية الأدبية (الشمية، التذوقية)؛ لما كانت المذكرات لـ (مراد) شغله الشاغل أثناء يقظته؛ فجلُّ نهاره يفكر فيها منذ وجدها في الزنزانة حتى بعد خروجه مما كان مبررًا نفسيًّا ليراها في رؤياه المنامية، فيقول على لسان السارد: "مرة حلمت أني أقتات على الورق، كان الورق ذا رائحة جميلة، رغم كونه جافًا، أما طعمه فكان جدًّا لذيذًا، استيقظت لأجل المذكرات في اليوم التالي"7، وبهذا يتضح أن كثرة ملازمته للمذكرات بمطالعتها والتفكير فيما، ومحاولة تلمسها في الواقع المعيشي لليقظة؛ فالمذكرات في يقظته أشبعت الجانب الروحي لـ(مراد) فكان الحلم المنامي الجانب الآخر لإشباع الجانب الحسي؛ فالمذكرات صارت في منامه مصدر غذاء حسي كالطعام والشراب والرائحة الذكية، خاصة أن (مراد) في يقظته كان أحيانًا يشتم تلك المذكرات من حين لآخر.
هوامش: تفسير الأحلام : سيجموند فرويد، ترجمة د. مصطفى صفوان، دار المعارف ـ القاهرة، الطبعة الثامنة، 1929م، 48.
مسار" حزن مسافر": https://www.litartint.com/2018/11/normal-0-false-false-false-fr-x-none-ar_52.html
المسار السابق: https://www.litartint.com/2018/11/normal-0-false-false-false-fr-x-none-ar_52.html
المسار نفسه: https://www.litartint.com/2018/12/dream.html
المسار نفسه: https://www.litartint.com/2018/12/dream.html
المسار نفسه: https://www.litartint.com/2018/11/normal-0-false-false-false-fr-x-none-ar_52.html
نفسه: https://www.litartint.com/2018/11/normal-0-false-false-false-fr-x-none-ar_52.htm