الآلة والإنسان؟!

د. النية بنعيسى

 

إلى عهد قريب كان الإنسان في حاجة ماسة إلى جهد للقيام ببعض الأعمال، وأحياناً أخرى هو بحاجة إلى إنسان آخر كي يساعده في عمل ما، إلا أنه مع الفتح التكنولوجي الكوني تم التخلي نوعاً ما عن ذلك، وأصبحت الآلة مساعداً رئيساً، بل وأحياناً تكون الآلة هي التي تقوم بالمهمة، وتطور الأمر بشكل أكبر، وأصبحنا نسمح الحديث عن الآلة الروحية. وهنا نسلط الضوء ولو قليلاً عن الآلة والإنسان منطلقين من كتاب "ماذا سيحدث كيف سيغير عالم التكنولوجيا حياتنا" لـ: مايكل ديرتوزوس Michael Dertouzos.
 

 

 التقاء الصوت والصورة والجسم البشري:

يقول مايكل ديرتوزوس: تخيل أن الوسيلة الوحيدة التي تستطيع أن تخاطب بها أبويك أو أقاربك أو أصدقاءك، منذ يوم مولدك، هي لوحة المفاتيح وفارة (ماوس). إنها فكرة بغيضة غير سارة. ومع ذلك فإننا راضون تمام الرضاء عن تقييد أنفسنا بهذا الشكل الشاذ من أشكال الاتصال حينما يتصل الأمل بأجهزة الكمبيوتر. فكيف يحدث ذلك؟
يجيب مايكل لأننا نرى -فرضاً- أن هذا هو أفضل ما يستطيع التكنولوجيون تقديمه نظراً للإمكانات المحدودة للآلات. ولكن هذا غير صحيح، إن التكنولوجيا التي تمكنك من إجراء حوار شفوي مع جهازك في موضوع محدود تعمل بالفعل بصورة جيدة في مجالات البحث. وهي تبشر أيضاً باتساع استخدامها في سوق المعلومات الناشئة خلال السنين الخمس أو السبع القادمة، نتيجة للاتجاهات التقنية والاقتصادية.
ولن تصل سوق المعلومات في نظر مايكل إلى إمكاناتها الكاملة إلا بعد أن يصبح التفاعل بين البشر والآلات أكثر فعالية مما هو عليه اليوم، ويصبح أقرب ما يكون إلى تواصل الإنسان مع أخيه الإنسان.
هذه الواجهات التفاعلية البينية إذن، قد تسمح لنا عما قريب بالعمل في وقت متزامن مع زملائنا في أرجاء العالم، وطلب الطعام من نادل (جرسون) فرنسي باللغة الفرنسية، حتى مع أننا لا نعرف هذه اللغة مثلاً.

▼ التحدث مع الجهاز الشخصي:

إن تكنولوجيا فهم الكلام على وشك إصدار التليفون المترجم. وهو الحلم الذي راود الراحل د. كوجي كوبياشي Dr. Koji Kobayashi، الرئيس السابق لشركة إن أي سي NEC اليابانية العملاقة للإلكترونيات، وهو واحد من أعظم مهندسي هذا العصر. ويقوم د. فيكتور زو، وهو من رواد أبحاث فهم الكلام في معامل معهد ماساشوستس لتكنولوجيا علوم الكمبيوتر، وزملاؤه بتطوير أحد المناهج التي تحول هذا الحلم إلى واقع. وهو يعمل على هذا النحو: نفترض أنك تريد الاتصال من الولايات المتحد بأحد زملائك في اليابان. وبعد اتصالك بزميلك، سوف تتحدث إليه في هاتفك باللغة الإنجليزية، وستسمع تفسيراً يصدره الكمبيوتر لكل ما تفوهت به، لضمان أن الكمبيوتر فهم ما ترمي إليه. وفي الوقت نفسه يقوم الجهاز بترجمة الجملة التي قلتها ونقلها باللغة اليابانية إلى الطرف الآخر. وإذا أخطأ الكمبيوتر في الفهم، فسوف تسمع التفسير الخاطئ، وعندئذ تقوم بالنقر إلى أحد أزرار التوقف. لتحاول نقل رسالتك باستخدام جملة أخرى مختلفة.
وثمة تطبيق آخر هام ابتكره فيكتور زو مع زملائه، وهو "معلم القراءة والكتابة"، وهو برنامج أولي يمكنه سماعك وأنت تقرأ من كتاب يعرف كل ما فيه. ثم يلقنك كيفية نطق الكلمات التي أخطأت نطقها، أو التي لم تستطع قراءتها. ونحن نسخر أحياناً من أن المتعلمين سيتعلمون كيف يقرؤون، ولا بأس في ذلك. ولكن قد ينتهي بهم الأمر إلى النطق بنبرات معدنية رنانة كالتالي ينطق بها معلمهم الآلي، والناس يحققون نجاحاً ملحوظاً باستخدام هذه البرامج؛ لأنهم لا يشعرون بالحرج من أميتهم أمام شخص آخر.

وسوف تنجح منظومات الكلام في المجالات التي يكون فيها النقاش محدوداً ومرسوماً بطريقة جيدة، وسوف يرتفع الأداء حينما يكون الكلام مجرد حوار في شكل تصريحات وإجابات، وليس حديثاً مطولاً من جانب واحد مثل إملاء مذكرة.

▼ واجهة تعامل الإنسان- الآلة النهائية:

كثيراً ما نسمع اليوم عن توصيل عقولنا بأجهزة الكمبيوتر عبر أسلاك، مما قد يلغي الحاجة إلى وحدات تشغيل الكلام المعقدة، بل وشاشات الفيديو، اللازمة لجميع واجهات تعامل الكمبيوتر. ويقول المؤيدون "ولما لا نوجه المعلومات مباشرة داخل المخ وخارجه، ونلغي الوسطاء"؟ إن ذلك يؤدي إلى قوة مطردة عظيمة، ولكنه لا يمثل واجهة التعامل النهائية بين الإنسان والآلة.

وحتى إذا أمكن يوماً نقل مثل هذا المستوى الكبير من المعلومات إلى المخ -وكلمة "إذا" هنا كلمة فنية ضخمة- فلا ينبغي لنا أن نفعل ذلك. إذ إن توصيل نبضات ضوئية إلى قشرة الرؤية في مخيخ شخص كفيف يبرر هذا التدخل، ولكن التنقيب داخل المخ وقياس ما به دن مبرر، يعد انتهاكاً لأجسادنا وللطبيعة وللخلق الإلهي أيضاً.

ويذكر مايكل أن واجهات تعامل الإنسان- الآلة سوف تتحسن في المستقبل حينما نتعلم كيف نبعدها عن أداء الأعمال الشاقة وننقلها إلى مستويات مفاهيم أعلى، تقارب الطريقة التي تفكر بها. وهذه الفكرة تشبه تعليم مساعد النادل (الجرسون) بالتفصيل، كيف ينظف موائد الطعام، ثم نطلب منه بعد أن يقوم بتنظيف الموائد دون أن نعيد عليه من جديد تفاصيل عملية التنظيف. والانتقال إلى مستوى أعلى من التجربة يعد أداة قوية لزيادة إنتاجية الأفراد. وسوف تحدث هذه الخطوة نفسها في واجهات تعامل الإنسان- الآلة، فبدلاً من تنفيذ كل شيء بأنفسنا بتوجيه الفارة والنقر عليها والكتابة، بل وحتى إصدار أوامر شفهية مفصلة، فسوف نغلف مجموعة من التعليمات الخاصة بالآلة ونضعها في أمر واحد، يتمثل في نقرة واحدة على الفأرة أو كتابة كلمة أو النطق بعبارة، وستقوم الآلة بالباقي مما يساعدنا كثيراً.

وتقودنا هذه الملاحظات إلى استنتاج أن واجهة تعامل الإنسان- الآلة النهائية، هي: تلك الواجهة التي تجمع أشكال الاتصال الصحيحة والمناسبة معاً. مثل الأجهزة والبرامج المناسبة التي يتم تفصيلها جميعاً، بحيث تتفق ونوع المفهوم الذي سيسود بين الإنسان والآلة. وفي المحصلة النهائية، لا يهم عدد شاشات العرض المزروعة في جدران منزلك، أو ما إذا كان الكلام سيستخدم بدرجة أكبر أو أقل لوحات المفاتيح والفارات (الماوس)، أو ما إذا كنت تستطيع التحليق خلال بياناتك، وتشاهد حيوانات افتراضية تسبح في الفضاء حينما تصدر أوامرك، أو ما إذا كنت ستستخدم وسيطاً واحداً أو ستة وسائط.

وينبغي أن يركز فنيُّو القرن الحادي والعشرين انتباههم على فهم واجهات التعامل البشرية وتطويرها، مما يعمل على توفير وسيلة اتصال فعالة لمختلف الفئات ذات المفاهيم المتباينة، مثل التنفيذيين والجراحين والمهندسين والفنانين والمدرسين والناس من مختلف المشارب، الذين يحاولون نقل رغباتهم ومهامهم إلى آلاتهم وأجهزتهم وبالعكس. وسوف تقوم بعض الأجهزة بأداء ذلك على أفضل وجه. وفي أحيان أخرى فإن أقل القليل سيكون كثيراً. وتخيل أنه لا يوجد أمام جهازك الشخصي فارة أو وحدات تشغيل الكلام، أو أدوات واقع افتراضي أو وسائط متعددة؛ وإنما مجرد لوحة مفاتيح بسيطة مع ضمان صارم بأن جهاز الكمبيوتر سيفهم كل ما نكتبه كما لو كان إنساناً. فهل تفضل واجهة التفاعل الخيالية تلك، بكل ما تنطوي عليه من ملل وبلادة، أم ستختار واجهات التعامل ذات الوسائط المتعددة الرائعة المركبة في أقوى أجهزة الكمبيوتر العملاقة، التي يمكن شراؤها في الوقت الراهن بمستوى فهمها الحالي؟

وسوف تختلف واجهات تعامل الإنسان- الآلة في المستقبل، من حيث الشكل والوظيفة، وتعمل غالباً على دعم بعضهما البعض. وسوف تعمل على مستويات أداء مرتفعة تكاد تقارب الطريقة التي يفكر ويتفاعل بها الناس في الطبيعة وسوف يتم تصميمها، وهي البرامج التي تشغلها لنقل شيء محدد.

وفي الختام يؤكد مايكل قائلاً: سوف تتيح لك واجهات تعامل الإنسان- الآلة دخول سوق المعلومات بيد أنك ستحتاج دخولك هذه السوق، إلى أدوات تساعدك على حرية القيام بعمليات البيع والشراء وتبادل المعلومات.

هكذا يظهر لنا أن السنين المقبلة سنرى ما لم نكن نعتقد رؤيته، فالثورة التكنولوجية ماضية في طريقها، وهذا دليل قوي على قيمة وقوة العقل البشري على الاختراع. إلا أن ذلك لا يعني أن كل ما هو آت في صالحنا.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها