عرف الإنسان الفن من قبل أن يعرف العلم، فنجد الإنسان البدائي كان يواجه دنياه بالفن والسحر قبل أن يواجهها بالعلم، فكانت الفنون هي أقدم آثار الإنسان. وصناعة النسيج كانت من الممارسات اليدوية لدى الإنسان، وعرفها قبل التاريخ منذ أقدم العصور1. وقد بدأ النسيج بداية محدودة كحرفة يمارسها الإنسان ليقوم بصنع ما يستر جسده، ويقيه برد الشتاء وحرارة الصيف، أو لإنتاج ما يستخدمه في حياته اليومية كالأغطية والستائر. واعتبر علماء تاريخ الفنون أن النسيج هي المادة الأولى التي مارس الإنسان البدائي عليها فنونه التلقائية، فزخرفها بالدم والصبغات المختلفة.
ويرتبط النسيج اليدوي وطرق تصنيعه بعقائد شعبية، وطقوس تعتبر من معالم الفولكلور، وبحكم ارتباطها بالمعتقدات والموروثات مثل اتقاء الحسد، أو الرغبة في جلب الخير، إذ إن زخارفها أو طريقة تطريزها لها مدلول ومعنى يرتبط بحياة الشعوب، بل أحياناً ترث عصوراً سبقتها.. وإن احتفظت بمظهرها العام فإنها تعيد تكيفها حسب حاجيات الذوق الشعبي، لذلك وجب الرجوع إلى التاريخ لتتبع مدى ارتباط النسيج اليدوي بالتراث القومي، وعلاقة تراثنا القديم بالأزياء وأنواع الثياب.
أولاً: تاريخية النسيج اليدوي التونسي
يختلف المؤرخون والكتاب فيما بينهم في معرفة وتحديد نشأة فن النسيج، أن عمليات النسيج ترجع إلى بلاد العراق فيما قبل الميلاد، ومنها انتشرت في آسيا وأوروبا. وقد ظهر النسيج في بلاد متعددة في وقت واحد، والدليل على ذلك وجود آثار من المغازل والأنوال، وأقمشة منسوجة في بلدان متفرقة وأعوام متقاربة، وقد كانت عمليات النسيج تتم باستخدام لحاء الأشجار في عمل السلال، والحبال، والحصير، ثم تطورت المنسوجات شيئاً فشيئاً، فنهضت وبلغت درجة عظيمة من الدقة والإتقان2. وقد اعتقد المصريون القدامى أن نسيج الصوف من المنسوجات غير الطاهرة، ولذلك كان يندر استخدامه، ولكن في العصر الإسلامي أصبح الصوف يلي الكتان في أهميته كمادة خام لصناعة المنسوجات.
لقد كان النسيج من أقدم الحرف التي عرفتها البلاد التونسية، والذي كان يميز هذه الحرفة بكل منطقة أو جهة هو صنف النسج، واختصاصه، وأنواع المنسوجات المنتجة وتسمياتها. فالنسيج قد يكون أفقياً أو عمودياً، والحرفة قد تكون رجالية أو نسائية، أما المنسوجات فتتراوح بين الثياب والبسط والأغطية والمفروشات3.
رغم أن نسجَ السّجاد اليدوي تقليدٌ متوارث في تونس منذ قرون، فقد أدى تراجع الإنتاج والأساليب العصرية لتزيين المنازل داخلياً إلى تقليص مبيعات الزربية، والنسيج المحفوف بدرجة ملموسة. ولتشجيع التونسيين على شراء "الزربية" وإحياء حرفة النسج اليدوي، نظمت الحكومة حملة لترويج السجاد التقليدي. وفي القيروان تنسج نساء وفتيات تونسيات أنواعاً مختلفة من السجاد يدوياً على أنوال مصنوعة من الخشب، باستخدام خيوط الصوف، وبتصاميم تقليدية متوارثة منذ مئات السنين.
واقترن اسم القيروان بالزربية القيروانية، أو السجاد التي فاقت شهرتها الحدود التونسية، فهي باختلاف أحجامها ورسومها تعبر عن إبداع الناسجات وتمثل منتوجاً فريداً، كما تميزت القيروان بمنتوجات تقليدية أخرى على غرار الفخار، وصناعة المواد الفضية وتحويل الجلود. وفيما يتلق بتاريخية الزربية القيروانية، يحكى أنه في القرن التاسع عشر كانت ابنة الوالي العثماني أولى من نسجت السجاد الصوفي في القيروان لإهدائه لأحد مساجد المدينة، ثم تدعم التقليد مما جعل القيروان عاصمة السجاد أو الزربية في تونس، وفي الواقع منذ العصور المتأخرة كانت تونس تصنع جميع أنواع السجاد، من "الكليم" إلى "المرقوم" و"القطيف" (وهو سجاد سميك بألوان زاهية من منتوجات الجنوب التونسي أو الأرياف).
وظلت القيروان مركزاً لصناعة السجاد اليدوي في تونس على مدى أكثر من 13 قرناً، حافظ خلالها الحرفيون على تلك الصناعة العريقة، بالتمسك بأساليب النسيج التقليدية والخامات الطبيعية، ويقدر عدد الحرفيين المقيمين في القيروان والعاملين فيها، بنحو 28 ألفاً، يمثلون نحو 10% من إجمالي عدد الحرفيين في تونس. وأعلنت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة «يونسكو»، ضم القيروان إلى مواقع التراث العالمي عام 1988، وفي العاصمة تونس يلصق متخصصون في النسيج على ظهر كل سجادة مصنوعة يدوياً، شهادة خاصة تثبت أصالتها. وتعرض المتاجر منتجات مختلفة من الزربية والنسيج المحفوف للمواطنين والسائحين على السواء.
كما اشتهر سكان منطقة الساحل التونسي كذلك بممارسة النسيج اليدوي، فقد جسدت الحياكة بمختلف أنواعها وأشكالها، ولا سيما حياكة "التخليلة" أو" الملية"، النشاط الاقتصادي الأبرز في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، خاصة في مناطق مثل قصر هلال والمكنين وبوحجر، وذلك في إطار ما يعرف بـ"الحوانت" أو الورشات التقليدية. وقد بدأت حرفة الحياكة في البروز تبعاً لتطور النمط الزراعي من السقوي إلى البعلي، ومن الزراعة اليومية إلى الزراعة الموسمية4. والملاحظ أن هذه المنطقة الجغرافية اشتهرت تاريخياً بزراعة المواد الخام لحرفة الحياكة والنسيج، فقد عرفت زراعة القطن والكتان والنيلة (مادة معدة للصباغة) منذ القرن الثامن عشر. كما لا يخفى على البعض أن هناك عوامل سياسية ساهمت في تغلغل وتطور حرفة النسيج بالجهة، ومنها ثورة علي بن غذاهم سنة 1864م، وما أعقبها من إثقال كاهل الرعية بالجباية، حيث مثل مجال الحياكة سبيلاً للنجاة من إجحاف الجباية، فأقبل عليها السكان إقبالاً مكثفاً5.
وإلى جانب حرفة الحياكة، وما تضمنته من أنسجة مختلفة نشطت بجهة الساحل التونسي حرفة أخرى نسوية، تشترك في نفس المادة الخام لحرفة الحياكة، وهي بلا شك حرفة "الزربية"، وذلك بداية من خمسينيات القرن العشرين، باعتبار قرب المنطقة من مدينة القيروان التي تعد عاصمة الزربية التونسية6.
ثانياً: النول والنسيج اليدوي في القيروان
يعتبر النسيج على النول من أقوم أنواع التقنية النسيجية لما لها من كفاءة عالية في العمل، خاصة من حيث الجودة في الإنتاج، وأبسط أنواع الأنوال هو عبارة عن إطار لا يهم إن كان من الخشب أو من الحديد، حيث تشدد عليه الخيوط الطويلة (السادة)، ثم تبدأ عملية النسيج بالخيوط العرضية (اللحمة)، وفي هذا النوع من النسيج يمكن استخدام أنواع مختلفة من خامات الخيوط لسهولة إجراء عملية النسيج عليها.
وقد كانت الأنوال اليدوية القديمة من حيث التركيبة لا تختلف كثيراً عن تركيبة الأنوال الكهربائية، حيث تختلف عنها من ناحية القوة المحركة، فتقوم الطاقة البشرية بتحريكها عوضاً عن الطاقة الكهربائية، ولما كان العمل في هذه الأنوال يتطلب جهداً عضلياً كبيراً؛ فإن عدد العمال على هذه التقنية النسيجية اليدوية قليل نسبياً. وقد اشتهرت دمشق وعرفت منذ أقدم الأزمنة بصناعاتها التقليدية القديمة، وكانت صناعة النسيج اليدوي أهم صناعة أتقنها أهلها وتفننوا فيها، وظلت هذه الصناعات مزدهرة في سوريا حتى أثناء الحرب العالمية الأولى، ثم انحدرت حتى انهارت في عهود الانتداب الفرنسي، إلا أنها حافظت على نفسها في بعض الأحياء حتى يومنا هذا، وأهمها حي الأكراد في دمشق.
والنول هو الآلة التي يستخدمها النساج لإنتاج قماش منسوج، ويختلف شكل النول وحجمه ومكوناته (عناصره) تبعاً لمساحة النسيج ومواصفاته، وبقي النول حتى يومنا هذا محتفظاً بشكله وتصميمه الأفقي المصنوع من الأخشاب. وهو عبارة عن خشبتين مثبتتين عمودياً، يعلوان عن الأرض بمسافة متر تقريباً، تتدلى من الضلع الأمامي حلقات مستديرة توضع بها خيوط النسيج. فيما تفرق الخيوط الأخرى المثبتة بشكل أفقي، لتمرّ من بينها أعمدة خشبية مرصوصة بشكل أفقي ورأسي لتشكل مربعًا كبير الحجم، ومشدوداً حول العموديْن الرئيسيين. وتتداخل الخيوط العرضية الرقيقة في الخيوط الطويلة عن طريق أداة تسمى "اللحامة" أو "النزق"، وهي عبارة عن خشبة اسطوانية صغيرة ملفوف حولها خيط نسيج، ينقلها النساج ويحرّكها يمينًا ويسارًا بالتزامن مع حركة رجليه على "الدوسات"، لنسج الخيوط وتكوين القطعة التي يريد نسجها. وتستغرق بعض المفارش أكثر من أسبوع حتى تكتمل7.
وتعد أنوال المعلقات والسجاد والكليم من الأنوال البسيطة في تركيبها، حيث تتكون في غالبيتها من اسطوانتين، واحدة للسداء والأخرى للقماش، وأداة شد للحفاظ على شد السداء طوال فترة النسيج. ومن خصائص سداء المعلقات والسجاد والكليم أنه يكون مشدوداً بدرجة عالية جدّاً.
هناك نوعان أساسيان من هذه الأنوال النول الرأسي والنول الأفقي، وكلاهما يقوم بنفس الوظيفة مع اختلاف وضعهما بالنسبة للأرض، وتكون خيوط السداء في النول الأفقي موازية للأرض، أما في النول الرأسي فتكون عمودية على الأرض، وهي تمتاز بأن ما تشغله من مكان أقل مما تشغله الأنوال الأفقية، كما أن الناسج يستطيع رؤية المنتج بأكمله، أو يرى الجزء القائم على تنفيذه حالياً. في الصورة التالية نول أفقي، وواضح على المنتجات المنفذة أن أحد هذه المنتجات بدون وبر، وهو الكليم أو المعلقات والباقي بوبر. ويتم استخدام النير الخيط لرفع خيوط السداء، وتكوين النفس المطلوب لإمرار اللحمة. والنير يتكون من حلقة خيط تحتوي على حلقة أخرى يمر بها خيط السداء، بحيث عند جذب النير يسحب معه خيط السداء المار به.
لكن رغم تلك الصعوبات، يشير بعض الحرفيين إلى أنّ حرفة النسيج اليدوي ما زالت تحافظ على رونقها، خاصة وأنّها تنتج بضائع لا يمكن إنتاجها في المصانع مثل "البرنس"، و"الحايك"، و"السفساري". كما أنّها ما زالت توفر مواطن شغل هامة، وتوفر مداخيل لا بأس بها، مستغربين عدم إقبال الشباب على تعلّمها، والحال أنّه يشكو البطالة، وقد أضافوا أنّ عودة الحرف القديمة المحلية من شأنه أن يحلّ جزءًا من أزمة البطالة، ويشجّع على الإنتاج المحليّ.
ثالثاً: المنسوجات اليدوية القيروانية: فن السجاد والمعلقة الحائطية
تاريخياً يلتقي مفهوم الفن مع ممارسة الإنسان للرسم والحفر والنحت في كهفه وكوخه، وهو المكان الذي وضع فيه بذور التقاليد الإنسانية، بعد أن انفعل بالبيئة والأحداث من حوله، وانعكست انفعالاته على ما أنتجه من أثار الرسم والنحت، وهكذا كشف الفن عن محتواه الاجتماعي، فكان فناً وظيفياً لتلبية حاجات اجتماعية مادية ومعنوية للعيش، وتأدية الطقوس، وطرد الأرواح الشريرة، وجلب الخصوبة التي من خلالها تتحقق مصلحة الجميع8. ولد مع هذا كله مفهوم الفن واكتشفت العلاقة بين الشكل والوظيفة بهدف التكيف مع البيئة، وما زال التكيف هدف الفن والثقافة، فالتكيف عملية يتوافق بواسطتها الكائن الحي مع الأشياء المنفصلة عنه في البيئة9، وهذا ما نلمسه في فن النسيج اليدوي أو التقليدي.
وتعتبر النباتات الطبيعية هي المصدر الأول، والرئيس لألياف النسيج، والتي استخدمها الإنسان كأول وسيلة لصناعة النسيج، ويعد القطن من أكثر النباتات استخداماً في النسيج؛ لأن أليافه تنتج أنسجة ممتازة، تستخدم في صناعة الملابس، وغيرها من المنسوجات الأخرى. يستخدم أيضاً الكتان كنوع من أنواع الألياف الطبيعية، ويعتبر أكثر متانة من القطن، ويتميز بأنه يحافظ على تصميمه لفترة زمنية طويلة، وتوجد العديد من الألياف الطبيعية الأخرى، التي تستخدم في الكثير من المنسوجات المعروفة.
وقد برع النساج العربي والمسلم في فنون السجاد، فقدم أشكالاً مختلفة منها البيضاوي وذو الشكل المثمن الأضلاع، أما الألوان فكانت مختلفة من الأحمر والأصفر، والأزرق الفاتح والغامق، وقد كسب السجاد الإيراني شهرة عامة، وتطوّر عمل نساج السجاد بعد ذلك حتى استطاع أن يقدم الرسوماتٍ وصوراً للنباتات، وأشكالاً هندسية على المنسوجات، وفي القرن الأول الهجري استطاع أن يقوم بالكتابة العربية على هذه المنسوجات10.
جمالية الزربية القيروانية
تراوحت زخارف المنسوجات الصوفية بالقيروان، بين الأشكال الهندسية والنباتية والحيوانية. وقد لاحظنا أن مختلف أنواعها حتى وإن كانت بسيطة المظهر موحدة اللون؛ فإنها لا تخلو من بعض نقاط الزينة، وخاصة في أطراف عرض القطع (الزربية، المرقوم، العبانة، الفراشية..)، أو في وسطها مثل "المنشف"، وهي زينة يغلب عليها النمط الهندسي، وأبسطه الخطوط المستقيمة، وهي ميزة من ميزات الفنون الزخرفية البربرية التي عرفتها البلاد المغربية سابقاً11.
والذي اختلط لاحقاً بالأنماط الزخرفية المحلية والواردة، وأصبح جزءاً من أجزاء الفنون الإسلامية بصفة عامة. وهي فنون من صفاتها التجريد لعناصر الطبيعة، والاعتماد الكبير على الزخرفة الهندسية، وأيضاً التكرار12؛ أي تكرار نفس العنصر عدة مرات. ويبدو التكرار واضحاً في منسوجات القلعة الكبرى، وهو تكرار هندسي تغلب عليه الخطوط المستقيمة. أما تشابك هذه الخطوط وتداخلها، فقد أحدث وحدات تكرارية أخرى بدت في بعض القطع مثل "الكليم" الذي زخرف، إما بشكل واحد بأحجام صغيرة ومتوسطة وكبيرة، أو أيضاً بأشكال مركبة ومتماثلة، وهي المعين والأطباق النجمية (وهي تسمى محلياً نجمة). وهنا لا بدّ من الإشارة إلى صعوبة أسلوب التكرار الهندسي الذي يحتاج إلى دقة متناهية ومهارة فائقة، أتقنتها نساء القلعة الكبرى وجسدنها فوق منسوجاتهن. وهي منسوجات غنية بالرموز والدلالات الظاهرة والخفية. فالفن الشعبي (والرسم أو التصوير جزء منه) "فن فطري يخضع لتقاليد متوارثة عبر الأجيال، يقوم به أناس من عامة الشعب". فهو يعبر عن روح الجماعة ويتماشى مع ذوقها، والرمز يعد من أهم عناصر هذا الفن. فهو "الوحدة الفنية التي يختارها الرسام من محيطه ليزيّن بها إنتاجه الفني، ويكسبه طابعاً خاصاً بشرط أن يكون الرمز محملاً بقيم المجتمع الثقافية13.
إن اتباع أسلوب غير منتظم في تكرار العناصر يمكن أن يحقق إيقاعاً أو نمطاً زخرفياً، ومع ذلك يمكن استخدام أسلوب غير منتظم لا يهدف إلى إحداث النمط الزخرفي، أما بالنسبة للألوان فإن تكرار الواحد منها في أكثر من موقع على سطح اللوحة يزيد في فعاليته ويعزز من تأثيره14. إن البيئة الطبيعية حافلة بالألوان على اختلاف الفصول والأيام والأماكن، لذلك استخدمها الإنسان في حياته المختلفة وأغراضه المتعددة، فهي قادرة على استدعاء المشاعر والانفعالات وتغيير الأمزجة، لذلك يمكن للإنسان توظيفها كرسائل بصرية تعبّر عن أحاسيسه وخلجاته، وتعددت النزريات والتصنيفات في تحليل اللون وتأثيره15. لقد انتشر فن الزخرفة بالبلاد العربية الإسلامية منذ القديم. ورغم أنّ الهدف الأساسي للزخرف كان الرغبة في إضفاء البهاء والجمال على القطع المنتجة، إلا أن وظيفتها تجاوزت التجميل والتزيين لتصبح محامل للفكر الرمزي، وصارت ألوانها وأشكالها عبر العصور مليئة بالإيحاءات ومشحونة بالدلالات الثقافية16.
لقد مثلت الألوان في مختلف الثقافات محامل للفكر الرمزي، وألوان المنسوجات هنا تحيل على معانٍ خفية، قد لا يعيها الفنان الذي أنتجها بحكم ترسخها في الذاكرة الجماعية، وإعادة تجسيدها بعفوية موروثة. وعلى كل فإن الكثير من الألوان ترمز للعناصر الأربعة، فيحيل "اللون الأحمر والبرتقالي على النار، والأصفر والأبيض على الهواء، والأخضر على الماء، والأسود أو البني على الأرض". كما "ترمز الألوان للفضاء أيضاً، حيث يرمز اللون الأزرق الفاتح لقمة السماء... والأحمر للبعد الأفقي. أما الأسود فيرمز للزمن، والأبيض للمطلق.. وجميع ما يتعلق بالزمن من تعاقب النور والظلام والقوة والضعف والنوم واليقظة"17.
يصنف السجاد في تونس إلى ثلاثة أنواع : وهي الزربية وتصنع من صوف رفيع جداً، وتزين بألوان صريحة، أما الكليم فتميزه الألوان الغامقة الزاهية والمتناقضة، مع وجود رسومات الأشخاص والحيوانات والأشكال ذات الدلالات المجتلفة، والنوع الثالث هو المرقوم وسيتخدم فيه لون واحد فاتح وآخر غامق لا غير. وقد اختصت مدينة القيروان في إنتاج الزربية في مرتبة أولى، والمرقوم و"الفراشية" في مرتبة ثانية.
وأصل كلمة "زربية" في اللجهة التونسية مستمد من اللغة العربية، كما وردت في القرآن الكريم إذ قال الله تعالى في سورة الغاشية {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ، لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ، فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ، لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَة،ً فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَة،ٌ فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَة،ٌ وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَة،ٌ وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَة"} [الغاشية: 8-16].
وتعتبر "الكاملة" أول زربية قيروانية تنسج في تاريخ المدينة، واسمها يعود إلى صانعتها "الكاملة بنت محمد الشاوش"، شرعت في نسجها سنة 1828 لتنتهي منها سنة 1830، ثم أهدتها لمرقد الصحابي أبي زمعة البلوي، وما يميز هذه الزربية هو أشكالها وزخرفتها المستوحاة من التراث الإسلامي، والمخيال الشعبي على غرار جناح الخطاف، وعود المشموم والفانوس وخمسة "للا فاطمة". واختلفت الروايات بشأن المصدر الرئيس لسجاد الزريبة، إن كان فارسياً أم تركياً، لكن الموروث البربري (قبل الفتح الإسلامي وانصهر لاحقاً في الثقافة الإسلامية) ترك بصمته في التّصاميم والنقوش، وأهم ما يميز الزربية القيروانية، وأشهرها على الإطلاق الزربية "علوشة" (نسبة إلى الضأن ويسميه التونسيون علوش)، وهي تحمل ألواناً طبيعية زاهية (بيضاء وبنية وأصفر).
تعزز قطاع الصناعات التقليدية بالقيروان، بإحداث مركز فني للابتكار والتجديد في الزربية والحياكة والإحاطة بالحرفيين. وتتمثل مهام المركز في التشجيع على الابتكار والتجديد، وتنمية الكفاءات والمهارات الحرفية، مع المحافظة على الأصالة والتراث الوطني في حرف النسيج، والغزل اليدوي والصباغة التقليدية، والمفروشات والمنسوجات الحائطية والأغطية الصوفية. كما يتولى الإحاطة بالحرفيين لتطوير طرق العمل، وتحسين جودة المواد الأولية وتنويعها والعمل على التحكم في كلفتها ومساعدتهم في عمليات التسويق. ورغم أن صناعة الزربية، أصبحت خلال وقت لاحق مصدر رزق لآلاف العائلات التونسية، إلا أن غياب آليات تسويق تتماشى مع تحولات السوق والواقع المتحرك، أوقع قطاع الزربية في أزمة حقيقية، عدا عن التحولات الإقليمية والأحداث الأمنية بعد الثورة، التي انعكست سلباً على موارد رزق الحرفيين والتجار والإنتاج والسياحة.
أما "المرقوم" فيعتبر أحد أهم الرموز للجنوب التونسي، وهو أحد أنواع النسيج الصوفي الذي يستعمل غالباً بساطاً أرضياً، ويتميز عن "الزربية" بنماذجه المنسوجة، واحتوائه على الكثير من الرموز التي تختلف أحجامها وألوانها، إضافة إلى الأشكال الهندسية من مثلثات ومعينات، والتي تم توارثه عن الأمازيغ، وظل متداولاً إلى الوقت الحالي، وهو يتشابه مع الكليم يتراوح طوله 4.5 و5.5 م، ويتميّز المرقوم بألوانه الفاقعة: الأزرق الداكن، الأحمر البنفسجي والبرتقالي، وينتشر إنتاج المرقوم التقليدي في الكثير من جهات البلاد التونسية، وخاصة مناطق الجنوب كقفصة ووذرف. ويتميز المرقوم القيرواني بألوانه الفاتحة، والأشكال البسيط التي تزينه مقارنة بأنواع المرقوم الأخرى.
ويعتبر فن المعلقات النسجية في مدينة القيروان من الفنون الراقية الأكثر ثراء في مجال الفنون التشكيلية، فهو من أقدم وأشهر الفنون النسجية، وله جذور متأصلة، والمعلقات النسيجية لا تختلف من حيث أغراضها الفنية وتصنيفاتها عن أعمال التصوير الحائطي، حيث يشبه تصميم المعلقات إلى حد كبير تصميم اللوحات الفنية ذات القطعة الواحدة من حيث الشكل والمضمون، وطريقة التكوين، وموضوع التصميم وخصائصه الفنية، إلا أن عملها أكثر صعوبة ودقة لما تتطلبه من مهارة في التنفيذ.
وتختلف الملعقات الحائطية التي تنسج بأيادي قيروانية من حيث تقنية التصميم أو أسلوب النسج، حيث يمكن أن يشاهد زائر الأسواق العتيقة بمدينة القيروان معلقات نسجت عن طريق تقنية تمشيط الحبال الملفوفة، أو عن طريق تقنية التدرج بصنفيه المتمثلين في النسيج المعري والنسيج الملطائي، أما المعطى الثاني الذي يمكن أن يميز هذه المعلقات فيتجسد في طبيعة المادة المنسوجة، والتي يمكن أن تكون في صور متداخلة ومتقاطعة من حيث خيوط النسج والألوان، فالمعلقة يمكن أن تجمع بين مواد الصوف والقماش والسعف في ذات الوقت، كما يمكن أن تضاف إلى هذه المواد، عناصر أخرى كالجلد والحلفاء تتمازج في ألوانها الطبيعية، وبذلك تعطي هذه المعلقات القيروانية لوحات فنية وإبداعية رائعة، تحمل خصوصية البيئة الثقافية للجهة.
***
كم نحن بحاجة ماسة إلى معرفة الثقافة التقليدية لمختلف الجماعات المحلية داخل وطننا العربي الإسلامي، معرفة تفصيلية شاملة تمسح المكونات التاريخية والسوسيولوجية والأنثروبولوجية، وتصف وصفاً دقيقاً هذه المجموعات البشرية، وما تقوم به من أنشطة ساهمت في كثير من الأحيان في إعادة إنتاج المقومات الثقافية الخاصة بها. لذلك يمكن اعتبار هذا العمل حفرية أنثروبولوجية من أجل فهم التحولات التي حفت بحرفة النسيج اليدوي في مدينة القيروان (عاصمة السجاد التونسي)، ولا سيما بعد انتشار العلاقات الرأسمالية، وما يرافقها من تحول في نمط الإنتاج الحرفي، وبروز مفاهيم دخيلة تكرس هيمنة المؤسسات الصناعية الكبرى، وتعمل على تهميش الوحدات الحرفية التقليدية التي مثلت دائماً مصدر رزق للعديد من الفئات الاجتماعية، وغرست فيها عقلية الجودة وإتقان النسيج كفن لا كمهنة اقتصادية.
الهوامش: 1. نصر، إنصاف، كوثر الزعبي، دراسات في النسيج، دار الفكر العربي، القاهرة، 2005، ص: 62. ┇ 2. نصر، إنصاف وكوثر الزعبي، دراسات في النسيج، دار الوفاء للطباعة والنشر، مصر 1999، ص: 269 -270. ┇ 3. بوغلاب، نجوى: النسيج التقليدي بالقلعة الكبرى، مجلة القلعة الثقافية الإلكترونية، أبريل 2016. ┇ 4. إبراهم، الحبيب، قصر هلال من النشأة إلى الاستقلال 2000، ص: 25. ┇ 5. بوزيد، عادل، المجتمع المحلي بالساحل التونسي ومسارات التحول الاجتماعي، الثقافية للطباعة والنشر تونس، 2018، ص: 194. ┇ 6. الناصري، مريم، النسيج اليدوي، يوفى مال الجد وتبقى صنعة اليد، الموقع الإلكتروني الترا تونس، 12، 2019. ┇ 7. الشاروني، صحبي، فن النحت في مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين، الدار المصرية اللبنانية، 1933، مصر، ص: 47. ┇ 8. محمد عطية، محسن، الفن والحياة الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1997، ص: 13. ┇ 9. ظاظا، عصام، فيصل الشناق، شعبان عبد الفتاح، المنسوجات، دار الباروني العلمية، 2004، ص: 153-156. ┇ 10. الرفاعي، أنور: تاريخ الفن عند العرب والمسلمين، دار الفكر 1977، ص: 163. ┇ 11. قانصو، أكرم، التصوير الشعبي العربي، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت نوفمبر 1995، ص: 15. ┇ 12. قانصو، أكرم، نفس المرجع السابق، ص: 99. ┇ 13. شوقي، إسماعيل، التصميم عناصره وأسسه في الفن التشكيلي، دار زهراء الشرق للنشر والتوزيع، مصر، 2000، ص: 152. ┇ 14. عبد الله، إياد حسين، نظرية الجمال في التصميم، عالم الكتب للنشر، مصر، ط2، 2009، ص: 56-57.┇ 15. عبد الرحيم محمد، مصطفى، ظاهرة التكرار في الفنون الإسلامية، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1997.┇ 16. أيوب، عبد الرحمان، رموز ودلالات بالبلاد التونسية، وكالة أحياء التراث والتنمية الثقافية، تونس 2003، ص: 26.┇17. السويفي، عيد، بحث في فن النسيج اليدوي في مصر، 2014، مصر، ص: 20.