بيوتُ الشّعر أعـادت للشّعر وهَجهُ

حوار مع الشاعر الفلسطيني حسن قطوسة

حاوره: ‬أحمد‭ ‬اللاوندي

حسن قطوسة؛ شاعر فلسطيني، ولد في عام 1984م بقرية دير قديس بمحافظة رام الله، ينتمي لأسرة فلسطينية محافظة تمتهن الزراعة، فتجذر حب الأرض في نفسه منذ الصغر. درس المرحلة الابتدائية والثانوية في مدارس القرية، حتى تخرج في الثانوية، ثم التحق بجامعة بيرزيت، ليدرس تخصص اللغة العربية وآدابها، إذ كان شغوفاً بالشعر والأدب منذ نعومة أظفاره، ويُحكى أن اسمه كان يُكتب على جدران القرية مسبوقاً بكلمة الشاعر، وكان يطبع القصائد ويلصقها على أبواب الدكاكين.

 بعد تخرجه في الجامعة؛ عمل معلماً للغة العربية في المدارس الحكومية القريبة من قريته، وظل الشعر رفيق رحلته في عمله كمعلم، ثم التحق بجامعة القدس لدراسة الماجستير في اللغة العربية، وقد تخصص في مجال النقد الأدبي. بعد عام 2000م بدأ يكثف نشاطه في الكتابة والنشر، حيث نشر كثيراً من المقالات النقدية بجريدة الحياة الفلسطينية والمواقع الإلكترونية التي كان يتابع فيها آخر الإصدارات الأدبية، وتعد البداية الحقيقية له كشاعر؛ تأهله لتصفيات مسابقة أمير الشعراء في الموسم الثامن عن قصيدته (في انتظار الفراشة)، ثم توالت بعدها الإنجازات.

 

 نشأتك حاضرة في نصوصك، وهي أحد أهم روافد ومنابع الإبداع لديك. كيف كانت؟

الشاعر ابن بيئته وزمانه ومكانه، وقد قيل كي تكون عالمياً لا بد أن تكون محلياً. عشقت الشعر منذ صغري، وقد تعودت أن أعتلي المنابر في المناسبات الوطنية والاجتماعية، وقد كان الشعر رفيقي منذ الصغر، وقد ساعدني تخصصي باللغة العربية على الاطلاع على كثير من التجارب، وأذكر أنني اقتنيت ديوان المتنبي والأعمال الشعرية الكاملة لنزار قباني ومحمود درويش، في مرحلة مبكرة من عمري، حين كنت أجمع من مصروفي اليومي ما تيسر لأكثر من سنة، وحين اقتنيتها أحسست أنني أملك الدنيا وما فيها.

أقرأ للجميع دون استثناء، حتى لو تجربة لشاعر جديد، سحرني نزار قباني حين كان يحول اليومي لقصيدة عظيمة، وأذهلني درويش الذي كان يلمس التراب فيحوله لأغنية من المحيط إلى الخليج، وأعجبت بقوة المتنبي وزعامته وكبرياء قصيدته.

قريتي الأم التي ما زلت أراها أم البلاد ومنها خرجت للعالم؛ هي مسرح طفولتي، وتجاربي الأولى في الحب، وعشق الأرض والشعر، ولا تزال حتى هذه اللحظة أهم روافد قصيدتي، بسهولها وجبالها ووديانها وأشجارها وشوارعها وأهلها وقصصها، ومن خلالها تتفتح براعم القصيدة، وتحلق في أقصى سماوات المجاز.

أيضاً؛ من روافد الإبداع؛ انحداري من عائلة تحب الأرض وتمتهن الفلاحة والعشق والزراعة، كذلك؛ قراءتي المكثفة للشعر والنقد والأدب في فترة مبكرة من حياتي (أذكر أنني قرأت كتاب اللغة العربية المقرر للصف الأول حين كنت بالمشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة، ولقد تغلبت على وحشة الليل بتلك المطالعة). من كل هذه الأشياء وغيرها؛ ولدتْ قصيدتي، وتسلل لها الحقل والسهل والجبل والفراشة والأم والأرض والحبيبة المتخيلة.

◈ علاقتك باللغة والشعر بدأت بسن مبكرة. لمن قرأتَ من المبدعين والشعراء والكتاب ومن كان سبباً في تطور ملكة الشعر لديك؟

أذكر جيداً ذلك الطالب المثالي الهادئ، الذي أراد أن يشارك في احتفال مدرسي بيوم المعلم، فنظم سبعة أبيات، ولم يكن متوقعاً أن يقدمه معلم اللغة العربية في ذلك الاحتفال، وأن يؤكد للحضور أن هذه الأبيات من نظم هذا الطالب، الذي أطلق عليه الجميع بعد هذا الحفل لقب (الشاعر)، فسُحِرَ بهذا اللقب، الذي أدرك بفطرته البسيطة، أنه لقب إلهي لا يمنح إلا لذوي الكشوف والفتوحات العظيمة، فنقشه على جدران القرية وشوارعها وأصر عليه، وطبع قصائده الأولى وألصقها على أبواب الدكاكين، واعتلى كل منبر في كل مناسبة وطنية واجتماعية، وكان يدرك أن الشعر هو أن تأتي بما لم يأت به من قبلك، وأن تتجلى اللغة فيه كعروس فيها من الطهر والجمال؛ ما لا يختلف عليه.

أزعم أنني طورت ملكتي الشعرية بنفسي، بإيماني المطلق بأن القصيدة بنت الروح. لم يكن في بيتنا المتواضع مكتبة، ولم يكن أبي أو جدي شاعراً بالمعنى الحرفي للكلمة، لقد كانوا شعراء بحبهم للأرض وتعلقهم بها، ولم أخرج من رحم مؤسسة أو حزب. كان لقراءاتي المتواصلة والتي لم ولن تنقطع؛ الدور الكبير في تطور تجربتي الشعرية وتخلصها من الكلاسيكية والمباشرة والتقريرية.

 مؤخراً تم تكريمك من قبل الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة لفوزك بجائزة القوافي الذهبية عن قصيدتك (أغنية أمام السور). ماذا يمثل لك هذا التكريم؟

فوزي بجائزة القوافي وتكريمي من قبل الشيخ سلطان القاسمي؛ بمثابة إشارة إلهية من السماء، وقبلة ساخنة من عروس الشعر، لطالما حلمت بها وانتظرتها، حتى صرت على شفا حفرة من اليأس. لقد شكلت هذه الجائزة لي أجنحة من مجاز، لأحلق في أقصى السماوات، ولا أعود إلا بالقصيدة الحلم، الهدي التي لم يمسسها بشر، فقد كرستني هذه الجائزة كشاعر، وتوجت تجربتي الشعرية بإكليل حب، وما زال أثرها العظيم عليَّ حتى هذه اللحظة. فقريتي احتفلت بي على عادة القبائل في الجاهلية، ومدرستي رقصت بي ومؤسستي شكرتني، وأدرك الجميع بعدها أن الحرف يمكن أن يفتح ما لم يفتح بغيره، وأن القصيدة لا تخون صاحبها، بل تدفعه ليكون. فشكراً للشارقة على ما سكبته في روحي من جمال، وعلى ما قدمته لي من دعم منقطع النظير.

 في كثير من لقاءاتك تتحدث عن أمك ونجدها موجودة بمعظم قصائدك. تعتقد أن الشعراء يعشقون أمهاتهم أكثر من غيرهم؟

ببساطتها ونقائها وعفويتها؛ تختصر كل العالم على سجادة صلاتها في كل فجر. الدنيا الأم، والقصيدة أم، والأرض أم أمي (زينب خليل قطوسة)، أم محمود منحتني الثقة والطمأنينة، وتعلمت منها أن الله لن يضيعنا. ولذا؛ عليَّ أن أواجه الدنيا بقلب محب صابر.

 وسائل التواصل الاجتماعي كانت سبباً رئيساً في بزوغ اسمك كشاعر. أليس كذلك؟

تجربتي الشعرية الحقيقية بدأت عام 2014م، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وأذكر أول أربعة أبيات نشرتها في تلك الساعة، هالني حجم التفاعل والدعم من ذلك الفضاء الأزرق، فالنص يصل إلى أكبر عدد ممكن من الناس، ولا يوجد إغراء أكبر من أن يكون لك قراء ومتابعون، وأن ما تكتبه يلامس أوجاعهم وأحلامهم (لولا الفضاء الأزرق لما كنت معك الآن في هذا الحوار) اطلعت من خلال وسائل التواصل على كثير من التجارب الشعرية الناضجة، وتحاورت مع كثير من الشعراء الأكبر مني تجربة وشعراً، وقد انعكس هذا على قصيدتي، التي تخلصت من كلاسيكيتها ومباشرتها وتقريريتها في وقت قصير جداً.

وسائل التواصل أعطتني الكثير الذي لم يعطه لي كتاب أو جامعة، فهي نافذة ومختبر ووسيلة من لا وسيلة له في هذا الزمن.

 في شهر يناير الماضي شاركت في فعاليات الدورة التاسعة عشرة من مهرجان الشارقة للشعر العربي. حدثني عن أجواء هذه المشاركة؟

من خلال متابعتي لكافة الفعاليات والنشاطات الثقافية محلياً وعربياً؛ أعرف أن مهرجان الشعر العربي بالشارقة، فارق نوعي ومختلف، وهو حلم كل شاعر حقيقي، كنت متابعاً له وحالما أن أكون جزءاً منه في يوم ما، وما حدث هو أن الحلم صار حقيقة مجسدة على الأرض، كانت أجمل أيام حياتي حين التقيت بأهم التجارب الشعرية العربية، واقتربت منها وحاورتها، وقد كانت قصيدتي وتجربتي حاضرة وبقوة.

لقد أدركت حينها أن القصيدة تفتح كل الأبواب الموصدة، وأن الشعر الحقيقي سيثبت في الأرض، ولو طال الزمن. عشت التألق والنجاح والفرح، وأخذت على نفسي وقصيدتي ميثاقاً وعهداً؛ أن لا أجعل مع القصيدة شريكا آخر، وأن أعود لهذا المهرجان وأنا أسيل بالياسمين والعطر والندى. إنني أيقنت أن الشعر هو ما يحافظ على إنسانيتنا من التلاشي. وسوف تظل الشارقة ومهرجانها الشعري السنوي؛ قبلة، ومزاراً، ومحجاً لأهل الشعر والأدب.

 المرأة في شعرك كائن طيفي أثيري غير ملموس أو محسوس. هل هذا صحيح؟

أكتب عن امرأة متخيلة، أراها وألتقيها في أرض الأحلام فقط، جزء منها ينتمي للواقع، والجزء الآخر في السماء والمخيلة، فهي رمز الجمال الذي يتجسد في الأرض، وأظن أنني أتفق مع الصوفية في هذا الطرح، بل وأتبناه، وأضيف؛ المرأة هي لحظة التوازن في هذا العالم، والحب هو الأوكسجين الذي أتنفسه،) يأوي لعينيك من أرض تحمله وليس يعصمه سفح ولا جبل(.

 ما الهاجس الأكبر الذي يسيطر عليك دائماً أثناء الكتابة؟

هاجسي؛ أن أصل لمناطق قصية، لم يصل إليها أحد من قبلي، وما دليلي في هذه الرحلة إلا قلب فلاح له قلب يمامة، وأن أعود بعدها إلى قواعدي سالماً معافى، فهي رحلة مرهقة للروح والجسد، لكن متعتها لا تضاهى. هاجسي؛ هو أن ينتصر القلب على هواجسه وقلقه وتخوفاته، وأن أكتب ما لا ينسى، فقد سئمنا من المكرر ومن العادي.

 لديك منجز شعري كبير إلا أنك لم تصدر أية دواوين حتى الآن؟

لدي من القصائد ما يشكل مجموعة شعرية جيدة، لكني لم أكن في عجلة من أمري، ربما كنت قاسياً على قصيدتي بعض الشيء، وأظن أن عزوف دور النشر العربية، أو سهولة النشر لدى البعض الذين يظنون أنهم من أهل الشعر، جعلتني حذراً ومتوجساً من إصدار مجموعتي الشعرية الأولى.

لا أريد لهذه المجموعة أن تمر مرور الكرام، وأن تكون مجرد رقم في مكتبة يعلو رفوفها الغبار، أتمنى أن تتصدر كما يجب أن يتصدر الشعر الحقيقي الصافي. على أية حال؛ قريباً جداً ستكون لي مجموعتي الشعرية الأولى، التي سأجسد فيها خلاصة روحي، وخلجات قلبي وأحلام أهلي الفقراء، ودعوات أمي، وتاريخ جدي وأبي، وأنّات المعذبين في الأرض فكونوا بالقرب.

 من وجهة نظرك؛ أي الصور لها دلالاتها وتأثيرها في الأدب عموماً؟

اتفق العرفان النقديان القديم والحديث على أن الصورة هي المؤشر الحقيقي التي تقاس به الشعرية، ولولاها لاستطاع كل من يجيد القراءة والكتابة أن يكون شاعراً، ولكان عدد الشعراء أكثر من عدد سكان الصين الشعبية. وبرأيي؛ يجب أن تدقق الصورة الآن في تفاصيل الحياة اليومية، وفي الكلام اليومي، فخلف كل هذه التفاصيل تُخبَّأ قصيدة عظيمة، وبرأيي؛ يجب أن نكتب ما يشبهنا ويشبه عصرنا، وأن نعيد قراءة موروثنا العظيم بجمال ووعي:

 وقصيدتي دون الأحبة جثة لا الدمع يحييها ولا الصلوات

لقد أسعفتني ذاكرة الطفولة بهذه الصورة، التي قال لي أحد الشعراء: إنها بديوان كامل.

 أنت حاصل على درجة الماجستير في النقد الأدبي. إلى أي مدى تضع النقد في اعتبارك وأنت تكتب؟

كثير من الأصدقاء والمتابعين؛ يرون فيَّ ناقداً مختلفاً، ويصرون على أن ما أكتبه من نقد، مدهش ويستحق القراءة. مارست النقد قراءة وكتابة، في أكثر من مناسبة، وحاليا؛ لا تستهويني إلا الدراسات النقدية الحقيقية التي تكتشف جماليات النص، وسر إكسيره الساحر، ورؤيا صاحبه، دون أن تكون أسيرة للمنهج أو الأكاديمية الجامدة، وقد انعكس كل هذا على قصيدتي وتجربتي الشعرية، فصرت عارفاً بأسرار العميلة الإبداعية أكثر من أي وقت مضى.

النقد منحني أرضية صلبة أستطيع الوقوف عليها دون أن تهتز قداماي، وربما أعود له في أي وقت، لكن ليس على المدى القريب المنظور. وصدق من قال: (في داخل كل شاعر حقيقي ناقد حصيف).

 فكرة إنشاء بيوت الشعر العربية والتي كانت بمبادرة من صاحب السمو حاكم الشارقة. كيف تراها؟

لقد أعادت هذه البيوت للشعر بعض وهجه، وأوقدت جذوته التي أوشكت على الانطفاء. أتابع بيت الشعر بالأقصر ويعجبني حضوره العربي الذي يلقي حجرا في المياه الراقدة، وأعرف أن هذه البيوت (تطوان، مراكش، والمفرق، وغيرها...) تضخ الدماء الجديدة والنقية في جسد القصيدة.

كلمة الشكر قليلة على هذه المبادرة العظيمة من هذا الرجل العظيم الذي يصر على أن يتحفنا بكل ما هو جميل، وبكل ما ينهض بالثقافة العربية، ابتداء بمهرجان الشعر العربي، ومجلة القوافي، وجائزة النقد في الشعر، وإنشاء بيوت الشعر في العواصم العربية، وليس انتهاء بجائزة القوافي الذهبية. وحلمي؛ أن أرى بيتا للشعر في فلسطين.

 في نهاية هذا الحوار. ما الذي يتمناه الشاعر حسن قطوسة؟

أن يكتبَ ما لا يُنسى، وأن يصلَ لشاطئ القصيدة المشتهاة، وأن يكونَ وارثاً حقيقياً للشعر الفلسطيني على امتداد تاريخه، وأن يصلَ صوته إلى أقصى مدى.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها