طريق آخر

مفيد عيسى أحمد


كان عليّ أن أختار بين طريقين أحدهما يمضي عبر الغابة وآخر يلتف حولها وهو الأطول. اخترت الذي يخترق الغابة وعرفت فيما بعد أنه طريق خطر لكني لم أتراجع. زميلي في العمل حذرني من ذلك، منذ مباشرتي العمل في مركز حماية الغابة كمهندس زراعي "اختصاص غابات"، الذي يقع في وسط الغابة تقريباً.

كل صباح أصل بالسيارة إلى طرف الغابة الجنوبي، من هناك أكمل مشياً عبر طريق ترابي من الصعب على سيارة أن تسلكه.

سألت زميلي: ما المخيف في هذا الطريق؟

نظر إلي نظرة العارف للجاهل وقال: كل شيء.. لكن المخيف أكثر هو البني آدم، ليس هناك من كائن يخيف أكثر من البني آدم.

لم أصادف بني آدم، رأيت حيوانات معروفة؛ ثعالب وبنات عرس، ومرة واحدة فقط خَيّل إلي -أو أنني رأيت فعلاً- ضبعاً رافقني كالظل مسافة قصيرة بين الأشجار على جانب الطريق.

سألته: هل تعرّض أحد ممن عبر هذا الطريق لحادث ما.

قال: لا... لكن من وقت لآخر يُسمع غناء غير مفهوم، كلمات متآكلة بألحان مرتبكة متداخلة، يقال إن من يغنيها مجنون مخيف.

- هل رآه أحد؟

- لا أدري.

- هل هناك وقت محدد لهذا الغناء؟

- غالباً ما يسمع باكراً، مع طلوع الشمس.

- أنا أعبر الغابة قبل ذلك.

قلت بحس من الطمأنينة لم يستمر سوى دقائق.

عدت وسألته بشيء من التوجس:

- هل قلت لي إنّ الغناء يُسمع قبل طلوع الشمس؟

نظر بابتسامة ظفر وقال:

- نعم .. لكني قلت غالباً، فهناك من سمعه في أوقات أخرى.

بزغ حذر ممض في نفسي، فأنا لست من أبناء المنطقة ولم أعتد على التعامل مع مثل هؤلاء الأشخاص لو صادفتهم. صرت أتأخر في عبور الغابة، مما دعا مديري لتوجيه ملاحظة بخصوص تأخري، أعقب ذلك بقوله:

- إن كنت خائفاً من عبور طريق الغابة عليك بالطريق الآخر.

واظبت على عبور الطريق، متلفتاً حولي متسقطاً أية حركة أو صوت، في رد على ما قاله المدير وبعناد لم أتبينه في نفسي من قبل.

لم أصادف ما يخيف، ولم أسمع غناء غير مفهوم ولا عادي، كل شيء كان معتاداً؛ صمت تخرقه أصوات معتادة، تناوب للظل والضوء. هذا الاعتياد جعلني أشرد أحياناً فلا أحس بنفسي إلا وقد وصلت.

كنت قد قطعت منتصف الطريق تقريباً ووصلت وسط الغابة، عندما تناهى إلى سمعي غناء للحن شعبي سمعته مراراً. لم أكترث في البداية، لكن جفلت عندما اقترب الغناء أكثر بكلمات متآكلة وملتوية، ما لبث المغني أن انتقل إلى لحن آخر وآخر بصوت ناشز وحاد.

تذكرت ما قاله زميلي فتوقفت، خطر لي أن أعود، لم أكد أستدير حتى ظهر من طرف الطريق الآخر رجل توّقف حال رآني، قطع غناءه وركّزَ نظره علي، كان يرتدي ثياباً غير متسقة، تهدلت على جسد طويل مائل إلى اليمين، كأنه يتكئ على شيء غير مرئي، لم أتبين ملامحه بدقة؛ لكن وجهه كان يميل إلى الطول بعدم اتساق واضح.

انتابني خوف من ينتبه إلى غفلته بعد فوات الأوان، أبقيت عيني على الرجل ونظرت إلى يميني بشكل موارب، فكرت أن أندس في الغابة؛ لكن لن يفيدني أن أنتقل من خوف إلى آخر.

وقفت مترقباً والرجل على وقفته، خطر لي أن أتراجع إن تقدّم، لكنه بقي واقفاً مركزاً نظره علي.

بدأت أغني كرد فعل غريزي، تقدمت باتجاه الرجل، بعد عدة خطوات تحرّك هو أيضاً متقدماً نحوي مكملاً غناءه، مع كل خطوة كنت أرفع صوتي والرجل يرفع صوته أيضاً.

تقاطعت خطواتي مع خطواته، وغنائي مع غنائه لحظة تجاوزته لكنني لم ألتفت نحوه ولم يلتفت نحوي، وجهه إلى الأمام ووجهي أيضاً.

بعدما تجاوزته تحاشيت الالتفات إلى الخلف، رغم إحساسي بذعر يدهم الناحية الوحشية من كياني... بعد مسافة انتبهت إلى أن صوتي صار وحيداً، سمعت غنائي كأنه غناء رجل آخر، ألحان متداخلة مرتبكة وكلمات متآكلة ملتوية، غناء يشبه غناء رجل مجنون مخيف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها