إن العلاقة بين الموسيقى والفن البصري تتجلى عند حدود ما هو محسوس وما هو متعالٍ عن المادة، حيث يتحرك كل من الفنيْن في فضاء زمني مختلف: الموسيقى تنساب عبر الزمن، بينما يُثبت العمل الفني -البصري- لحظة أبدية. في هذا التوتر، يتجلى التوافق الجوهري بينهما، حيث تسعى الموسيقى إلى تحقيق الرؤية الداخلية التي تجسدها الأعمال الفنية، فيما تتوق اللوحة (أو المنحوتة أو المنشأة...) إلى تجاوز سكونها نحو حركية النغمات والأحاسيس. إذْ إنّ العلاقة بينهما ليست علاقة محاكاة، بل هي علاقة خلق متبادل، حيث تعبر الموسيقى عن تموجات الروح كما تفعل الألوان، وتكشف الأثار البصرية عن نغم داخلي يشبه ما تبثه الموسيقى في النفس.. بعدّ الموسيقى "تُصوّرُ الإرادة نفسها مباشرة وتعبّر عما هو ميتافيزيقي في العالم المادي، أي جوهر كل ظاهرة" (نيتشه، ميلاد التراجيديا).
بينما يعمل الفن البصري على تجسيد هذه الإرادة التي تطاردها الموسيقى في لحظة مكثفة للزمن نفسه، كأننا نضغط كل الألحان المكونة لمعزوفة ما في نغمة واحدة، قادرة على الانفجار إلى ما لا نهاية من الشظايا البصرية، التي تتكيّف مع أذن/عين المتلقي.. فتتحول العين إلى مطية للإصغاء ومسوغ للسمع (l’écoute). أو مثلما أوصى بول كلوديل ِClaudel "زوار المتاحف بأن تكون آذانهم متيقظة مثل أعينهم؛ لأن البصر هو عضو الموافقة النشطة، والغزو الفكري، في حين أن السمع هو عضو الاستقبال" (كلوديل، العين تسمع).

وهي الدعوة عينها التي يتبناها عبد القادر مسكار في معرضه الموسوم "صدى العيطة" (مراكش، 2025)، حيث يدعو ناظري أعماله أن يمعنوا السمع جيداً لأنغام وأصداء و"صيحات" لوحاته ومنحوتاته ومنشآته المنطبعة بألوان تعمل عمل نوتات موسيقية، ما أن تتراكب وتتصاف وتمتزج في مساحة واحدة حتى تؤدي دورها في تحول "الفوضى" إلى "نظام". ولأن فن العيطة دعوة للمتلقي أن يكون "غالباً في سَوْرة التفاعل الجماعي"، مستدعياً "خبرته الإدراكية [التي] تتضمن ما هو ثقافي وما هو اجتماعي. ومن ثم يحدث نوع من التماهي مع حامل القول الشعري (الشيخة أو الشيخ)، نوع من التواطؤ الجميل الذي يقتضيه تضمان لغوي، ثقافي، جمالي، فني..." (حسن نجمي، غناء العيطة: 2). فبالمقابل فمتلقي هذه الأعمال التصويرية الصباغية مدعو للقدوم عبر إعمال للأذن والعين؛ للتألب الجمالي الذي يحوّل المرئي إلى مسموع، والمسموع إلى علامة.
عند هذه النقطة يتقاطع الفن البصري والموسيقي مع مفهوم الإرادة في الوجود، حيث تتجسد الطاقة الحيوية التي تحرك الحياة في كلتيهما. فكما يمكن للوحة -نموذجاً بصرياً- أن تفيض بألوانها لتعبر عن الإيقاع الداخلي للأشياء، يمكن للموسيقى أن تكون ذات طابع بصري، تنحت في الزمن مجسمات سمعية تحمل هالة تشكيلية. وهكذا تُرسَم بجمالية الاستماع من خلال الإيقاع الموسيقي للوحة الذي يتأرجح بين النور والظلام، والامتلاء والفراغ، والظهور والاختفاء، أو حتى البطء والتأخير في تكوين الشكل؛ إذْ "يُذهل المرء بالبطء الذي تبدأ به النغمة، المتأخرة باستمرار بسبب كل لعبة الفروق الدقيقة، في أن تصبح واضحة في خط وشكل" (كلوديل، نفسه). هذه الجدلية بين الموسيقى والتصوير ليست مجرد لقاء بين حسّين، بل هي تجربة كونية تسعى إلى تجاوز المحدود نحو ما هو جوهري. هنا، يتلاشى الفرق بين الصوت والصورة، ويصبح الإبداع الفني هو الحقيقة المطلقة التي تعبر عنها "الإرادة الجمالية".

"العين تسمع" نشيد العيطة
إن فهم العلاقة بين الموسيقى والتصوير يتطلب تجاوز النظرة السطحية إلى العالم الحسي، والغوص في عمق التجربة الجمالية التي تتجاوز الانفعالات العابرة لتصل إلى التعبير الأصيل عن طبيعة العالم وجوهر الوجود الداخلي المتحقق في التعبير بالتصورات المجردة، التي تتجسد صوراً عبر الصباغة وعبر الموسيقى من حيث إنها "لغة الإرادة". فليس الفن تمثيلاً للواقع بقدر ما هو إعادة خلقٍ له، وليست الموسيقى مجرد نغمات بقدر ما هي طاقة تحولية تمس الجوهر العميق للأشياء والذوات. إن التقاء الموسيقى بالفن البصري ليس مجرد تزاوج بين الخط والأشكال والمواد والنغمة واللحن، بل هو انصهار في جوهر واحد يعبر عن تناقضات الحياة في أجمل صورها، لـ"إخراج الصورة الرمزية بأرفع دلالاتها" (نيتشه، م.م.)؛ ما الذي يفعله بنا ذلك العمل الفني ذو الحجم الضخم، لمسكار، حيث يتخذ الأزرق مجمل الحيز التصويري، بوصفه خلفية وأفقاً مفتوحاً وإطلالة سماوية مشيّدة لنوافذ آدمية، بورتريهات نسوية -في أعمها- لشيخات العيطة الرائدات، اللواتي امتلكن "إرادة القول" الغنائي وقوة الموسيقى الصادحة.. كأنهنّ "نجوم" يضئن تلك السماء ذات الزّرق والزُرقة.
إن إدراك هذا البعد يجعلنا نرى كيف يتعامل الفنان مع هذه العلاقة، لا كمجرد موضوع شكلي، بل كحالة وجودية تتجسد عبر الإيقاعات اللونية والبنية التشكيلية. هنا، يصبح اللون حركة، والصورة تصبح صدى، والتكوين التشكيلي يتمدد نحو الزمن، كما تتمدد الموسيقى في الفضاء، وهو ما نلمسه ونحن ننظر/نسمع لمنحوتة "سمفونية منحوتة" (2024) لمسكار وهي تتحول عمودياً إلى أذن، وأفقيا إلى حرف صاد أو ما يشبه الأمر بالصمت: "صَهْ"! حيث يحول الفنان الحيز المكاني إلى حامل ومبرز للامرئي-الموسيقي. لهذا فإن كل محاولة لفصل الموسيقى عن التصوير تظل قاصرة عن إدراك هذا الامتزاج العميق بين الشكل والصوت، بين السكون والحركة، بين المرئي واللامرئي، بين الملموس والمحسوس، بين الوجود والإرادة.
في هذا السياق، تأخذ منجزات عبد القادر مسكار حول فن "العيطة" بعدًا ظاهراتيا وجماليًا يتجاوز مجرد تمثيل هذا اللون الموسيقي الشعبي المغربي إلى استنطاق جوهره التعبيري، ومَظْهَرَةِ المسموع. فـ"العيطة"، بما تحمله من أبعادٍ تاريخية وشعبية، ليست مجرد غناء، بل هي نداءٌ متجذر في الذاكرة الجماعية، يحمل في طياته سردًا عاطفيًا ومقاومًا في آن واحد، أي إنها تحمل قابلية التمثيل والتجسيد والتصوير، التي تحملها "السيمفونيات" و"أعمال الأوبرا" نفسها. حيث في أعمال الفنان، لا نرى فقط المغنين أو الشيخات، بل نرى نسيجًا بصريًا يعيد تشكيل الإيقاع الصوتي في تكوين تشكيلي يجمع بين الحدة والتموج، بين الكثافة والفراغ، بين الذاكرة والمشهد الحي.

يتميز أسلوب مسكار بتفاعل دينامي بين الرموز والألوان، حيث يستلهم من أصوات "العيطة" تقاطعاتٍ وتناقضاتٍ بصرية تحاكي التوتر القائم في الموسيقى ذاتها. نلاحظ في أعماله طغيان الحركة في التكوين، وكأن الموسيقى تخرج من الإطار، وكأن اللوحة تهتز بانفعال الصوت المتراكم في عمق التراث الشعبي. من خلال تنويع المواد والخامات، يخلق الفنان تجربة حسية تدمج بين المعاصرة والتقليد، بين التجريد والتشخيص، ليعبر عن "العيطة" ليس فقط كفن موسيقي وغنائي، بل كحالة وجودية موشومة في الوجدان المغربي. وتتجلى في تجربة الفنان جدلية جمالية تتجاوز حدود التصوير لتتصل عضوياً بالموسيقى، ليس فقط بوصفها موضوعاً أو محركاً للإلهام، بل كآلية تأويلية تُحيل إلى بنية فكرية متشابكة، حيث يصبح اللون إيقاعاً، والخط نغمة، والملمس طبقة صوتية في سيمفونية بصرية متداخلة. لا يتوقف هذا التداخل عند حدود التعبير التشكيلي، بل ينفذ إلى عمق المعنى الذي يحاول الفنان مساءلته، وهو العلاقة المتناقضة بين الاحتفاء العلني بالموسيقى وإدانتها في الحياة الخاصة، بين الرقص الجماعي في الفضاء المفتوح.
لقد استطاع مسكار أن يجعل التصوير وسيلة لنقل الطابع التعبيري العميق لـ"العيطة"، إذ يمنح منجزاته صفة التعددية، مستفيدًا من تجربته التشكيلية المتنوعة التي تمتد بين باريس وميلانو والمغرب، ومن تطوير لهذه التجربة التصويرية-الموسيقية التي ابتدعها منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي.. بل إنه استرجاع لذاكرة طفولية لم تمح، إذ يقول "من خلال هذا المعرض، حاولتُ الإجابة عن سؤال ظل يلازمني منذ الطفولة... فقد كنت أحضر بعض الأفراح العائلية برفقة والدي، حيث كان حضور الشيخات والموسيقيين يشكل جوًّا من البهجة والفرح"، وتتخذ أيضاً هذه الأعمال حضوراً بوصفها فعلا مضاداً للنكران والإقصاء الثقافي الذي تتعرض له "نجوم"/شيخات العيطة في التفكير الشعبي المغربي، أو مثلما يخبرنا الفنان، "لكن المفارقة كانت تحدث عند العودة إلى المنزل، حيث تنقلب الأجواء رأسًا على عقب، وتصبح الموسيقى فجأة أمرًا محرّمًا ومُدانًا. رغم وجود الأسطوانات وجهاز التورن ديسك في بيتنا، كان والدي يفرض حظرًا صارمًا على هذا العالم، إلى درجة أنني تعرضتُ أكثر من مرة لكسر العود فوق رأسي، وكأن قمع الموسيقى في ذاتي كان ضرورة للحفاظ على منظومة قيمية متناقضة".
لهذا يحوّل مسكار من صور النسوة في الأعمال إلى أيقونات، تتشابك في لوحاته مع الخطوط وتتداخل مع العلامات، وكأنها محاولة لتجسيد الترددات الصوتية التي تتشكل منها "العيطة"، وتنتصر لهن جاعلا منا أن نمعن النظر ونصغي إليهن من خلال الأعمال بوصفهنّ "قديسات". وهذا التفاعل بين الكتل اللونية والانفعالات البصرية والأيقونية يمنح أعماله طاقة موسيقية روحانية، حيث تتحول المساحات إلى نغمات لونية، وتتحول الخطوط إلى إيقاعات وجدانية، فيصبح الفن مساحة للتعبير الصوتي في بعده التشكيلي على مكنونات الروح وشطحات الجسد. بينما يستخدم مسكار تقنيات الكولاج الرقمي ليس فقط كممارسة بصرية، بل كاستراتيجية لزحزحة الثابت وإعادة تركيبه. فهو، في هذه العملية، لا ينقل فقط صوراً، بل يُعيد توليدها، يطمس ويُظهر، يُحيل الوجوه إلى ذاكرة مشوشة، حيث لا تعود الهوية محددة بمعالم صلبة، بل تصبح تدفقاً مستمراً بين الواقعي والمتخيل. ويصبح العمل الفني بحد ذاته موقعاً للتفاوض بين ما يُقال وما لا يُقال، بين ما يُرى وما يُحجب.
تستدعي تجربة مسكار العلاقة بين الموسيقى والتصوير، وهي علاقة تكاد تصير مركبة ومربكة، فكيف يمكن للوحة أن تستحضر الزمن الموسيقي؟ وكيف يمكن للألوان أن تترجم الانفعالات الصوتية؟ هنا، يتخطى الفنان مجرد التصوير التوضيحي إلى تأويل بصري للموسيقى، حيث تصبح "العيطة" ليست مجرد موضوع، بل تجربة حسية تتقاطع فيها الإيقاعات اللونية مع الطابع الدرامي الذي تحمله هذه الموسيقى الشعبية.

إن العلاقة بين التصوير الصباغي والموسيقى، كما يطرحها مسكار، ليست علاقة وصفية، بل هي علاقة تكوينية وتضمينية، إذ إن اللون لا يقتصر على تمثيل الصوت، بل يتماهى معه، يصبح امتداداً لحركته، نوعاً من التدوين البصري للزمن، حيث تتردد في اللوحة صدى الألحان القديمة، لكن في صياغة جديدة، مشحونة بالذاتية وبالتوترات الاجتماعية التي تشكل البنية العميقة لهذا الفن. ويستحيل الثوب إلى لباس للعمل يكتسي بهن مثلما تكتسي فنانة العيطة بأحلى أثوابها وهي تصدح بأعلى صوت. هكذا، يتحول الفضاء التشكيلي إلى مساحة للارتجال، (لنمعن السمع في عمله التركيبي-الصباغي corrida sonore)، تماماً كما هو الحال في العيطة، حيث لا تُكرر الجملة الموسيقية ذاتها أبداً بنفس الشكل، بل يعاد تشكيلها وفق الحالة اللحظية للمؤدي والجمهور معاً.
من هذا المنظور، يمكن فهم تجربة مسكار كنوع من المقاومة الجمالية، حيث يُستعاد الصوت المقموع في شكل صباغي، وحيث يُبعث الجسد المُدان كحامل لذاكرة مرئية، مشحونة بتلك الهالة التي تحدث عنها والتر بنيامين، إذ رغم الوسائط الرقمية والتعديلات الكولاجية، تظل هذه الأعمال مشبعة بعمق تاريخي، حيث كل صورة هي بقايا حكاية، وكل سطح صباغي هو أثر لماضٍ لم يختفِ تماماً، بل يُعاد ترميزه من جديد. بهذا المعنى، يُمكن النظر إلى أعمال مسكار بوصفها محاولة لا لتمثيل الموسيقى، بل لإنْطاقِ اللون والمواد والأشكال، لجعل الفراغ يُغني، ولتحويل السطح الصباغي إلى فضاء زمني، حيث يمكن لصوت الماضي أن يجد طريقه إلى الحاضر، لا كاستعادة حنينية، بل كفعل نقدي، كتحليل للقطيعة والاستمرارية، وللمكانة المتذبذبة للفن بين الحرية والرقابة، بين النشوة والمنع، بين أن يكون صوتاً مُطلَقاً، أو صمتاً مفروضاً