لماذا القراءة؟

جواب المتوَّجة بجائزة نوبل للآداب الروائية آنّي إيرنو

ترجمة: يحيى بوافي



إحياءً منها للذكرى السبعين لتأسيسها بادرت دار النشر الألمانية سوركامب (Suhrkamp) بالتوجه إلى نخبة من الكتاب ممن نُشِرَتْ أعمالهم بها، بالسؤال عمّا يدفعهم إلى القراءة، فكانت الحصيلة 13 إجابة تم نشرها ضمن كتاب بعنوان: "لماذا نقرأ؟ 13 سبباً وجيهاً (على الأقل)" Pourquoi lire - raisons (au moins) 13 bonnes والذي صدر عن نفس الدار سنة 2020، وصدرت ترجمته إلى الفرنسية سنة بعد ذلك (2021) عن دار النشر (Premier Parallèle).



وقد كانت فاتحة الإجابات الثلاث عشرة التي ضَمَّها الكتاب إجابة الروائية الفرنسية التي تم تتويجها بجائزة نوبل للآداب 2022، لتكون بذلك الكاتبة الفرنسية الأولى التي تفوز بها، والمرة السابع عشرة التي يفوز بها أديب من فرنسا.

آنّي إيرنو التي تبلغ من العمر 82 سنة، والتي وصل مجموع أعمالها 20 كتاباً اختارت الأكاديمية السويدية تتويجها لما طبع عملها من شجاعة في "كشف الجذور ومسافات البعد والإكراهات الجماعية للذاكرة الشخصية"، وبالفعل فقد عادت آني إيرنو إلى أغوار ذاتها فيما يحيط بها فكان أن سعى التتويج إليها! فالكتابة بالنسبة لها طقسٌ يؤدَّى في محراب الذات، ويمتحُ من تفاصيل معيشها، ونسيج العلاقات التي تنخرط فيه مع الأشياء والناس، والهدف هو البحث عن حقيقة تلك الذات وتعريَّة الواقع دون زخرفة لفظية أو تحايل إيديولوجي معبّأ في تضاعيفها؛ وكما تقول: "رغبت في أن أكتب كما لو توجَّب علي أن أكون غائبة عند صدور النص، أن أكتب كما لو كان علي أن أموت، كي يختفي بعد ذلك كل حكم أخير"1.

ومركزية الاشتغال على الذاكرة والتقاط التفاصيل الدقيقة هو ما يتجلى واضحاً حتَّى في هذا النص الشهادة على قصره، فسؤال لماذا نقرأ؟ يصير بالنسبة لها سؤالا عن دور علاقتها بوالدها، ووالدتها ووسطها الاجتماعي، وبالمؤسسة الدينية التي تلقت فيها تعليمها، ودور كل ذلك في توجيهها إلى القراءة، وما اضطلعت به الكتب من دور علاجي في التخفيف من وقع ذلك، وما وفَّرته من مسارب للحرية على المستوى الوجودي، ولأن للقراءة علاقة جدلية بالكتابة، بحيث لا يمكن تصوُّر كاتب غير قارئ، بينما الحالة العكسية تبقى أكثر من ممكنة، فإن التعقيد البالغ أقل ما يمكن قوله عنها، فهي أدنى إلى علاقة اللذة بالألم، والموت بالحياة، مما يجعل من هذا النص ليس إجابةً عن السّبب الوجيه الذي دفع آنِّي إيرنو إلى القراءة وحسب، بل وجواباً عن سؤال لماذا اختارت الكتابة أو بالأحرى لماذا اختارتها الكتابة؟

إن القراءة تضطلع بحركة مزدوجة بالنسبة لها، هي الفصل من جهة والوصل من جهة أخرى، فهي تفصل عن المؤلم في الكائن وعن ما يخنق الأنفاس ويضيّق على الحرية، وهي وصل لأنها تجعل الإحساس بالعالم والآخرين أرهف، وترسي جسور تواصل مع خبرات وألوان معيشين ما كان للمرء الحلم بالنفاذ إليها في الواقع الملموس، وهذه الحركة المزدوجة من فصل ووصل، هي التي تُكسِبُ النص حياةً في حركة توالد تأويلي لا تفتر.

ونفس الأمر يقال عن الكتابة ففيها اقتطاع وإعادة سبك ونسج، تفكيك لأحداث وقدّ لشخصيات، وتعبئةٌ لشحنات عواطف، وحدة صراعات... وإعادة نسج كل ذلك بالكلمات وطلائه بألوان اللغة وفرشاة الخيال، وكما أن القراءة تفْصل القارئ عن الواقع وتعيد وصله به من جديد؛ فإن الأمر يكون كذلك وربما بدرجة أكبر بالنسبة للكاتب، وهو كذلك ولكن بصورة أحَدَّ بالنسبة لإيرنو لأن لغة الكتابة بالنسبة لها ليست بالبريئة في علاقتها بالعالم الاجتماعي؛ فارتباطا بالموضوعة البؤرة التي لا تنفك تعود إليها حركيةُ كتابتها، أو ما أسمته هي بـ"وجع مخجل" نابع من علاقتها الملتبسة والإشكالية بأبيها التي تستدعيها في هذا النص، ارتباطاً بذلك كان عليها "أن ترفض أي إعادة بناء خيالية لحياة أبي، وأن أستخدم اللغة بطريقة نقدية للتحايل على الإيديولوجيا التي تحملُها (في عبارات مثل "البسطاء"، "بيئة متواضعة") وأن أحصر نفسي في نقل الوقائع. كانت الكتابة المحايدة، بلاحنين، وبلا تواطؤ مع قارئ مثقف، كتابة تحمل "مسافة" متفقة مع موقعي كراوية بين عالمين، هي الوحيدة التي تمتلك فرصة إعطاء صورة سليمة لحياة رجل "عادي"2. كما كتبت في المقدمة التي خصَّصتها للقارئ العربي بمناسبة ترجمة روايتها "المكان" إلى اللغة العربية.

الفصل والوصل.. آني إيرنو Annie Ernaux

من سنوات عديدة جاء ابن عمي الذي لم أره مذ أن كنتُ مراهقة لعيادة أمي المريضة، التي كانت نزيلة في مستشفى بنفس المدينة التي أقطن بها، فاغتنم الفرصة لزيارتي في منزلي. وعند عتبة غرفة الجلوس، توقف مذْهُولاً وعيناه لا تفارق رُفوف الكتب التي غطت الجدار الخلفي بالكامل، ثم توجّه إلي بالسؤال والريبة تملؤه: هل قرأتِ كل هذا؟ قلتُ نعم، قرأتُها كلّها تقريباً. أومأ برأسه في صمت، كما لو كان ذلك إنجازاً عظيماً تطلب مني جهداً ومعاناة، إنجاز كان من المفروض بذله في العلاقة بالشهادات التي تحصلت عليها، والكتب التي شرعت بدوري في كتابتها. ابن عمي انقطع عن الدراسة وغادر المدرسة في سن الرابعة عشرة، ليعمل هنا وهناك دون أن يكون له عمل قار، وأسرته لم يكن في حوزَتِها كتبٌ. ولا تعلق بذاكرتي من تلك الأيام إلا قصة طرزان المصورة ملقاة على الطاولة. ومع أن كتباً أخرى أضيفت فيما بعد إلى غرفة الجلوس، لم يطرح علي أي شخصٍ من الأشخاص الذين ولجوها السؤال نفسه؛ لأنه سؤال غير جدير بأن يُطرَحَ في نظرهم، فمن الأمور البَيِّنة بذاتها في نظر القُرَّاء الذين دأبوا بدرجات متفاوتة على القراءة، أن أكون قد قرأت الجزء الأكبر من هذه المؤلفات، خصوصاً وأنها تحيط بي كمكون طبيعي، ومن بين هؤلاء الزوار كان صحفيون ونقاد وطلبة، ممن أتصور أنهم لا بد قد وجدوا أنه يلزمني، بوصفي كاتبة، امتلاك المزيد منها.

غالباً ما تعاودني ذكرى هذا المشهد وأنا برفقة ابن عمي فينتابني القلق؛ لأنها تخفي ذكرى مشهدٍ آخر عنيف؛ كان عمري بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة واضطرت اضطراراً إلى مؤاخذة أبي على "عدم اهتمامه بأي شيء"، وأنه لا يقرأ إلا جريدة الإقليم (باريس- نورماندي) Paris –Normandie، فما كان منه، وهو الهادئ جداً والمتصالح تماماً مع وقاحات ابنته الوحيدة، إلا أن أجابني بقسوة قائلاً: "الكتب جيدة ومفيدة لك، أما أنا فلست بحاجة إليها لأعيش".

اخترق هذا الكلام الزمن ولبث منغرساً في داخلي كمعاناة وواقع غير مقبول. لقد فهمت تماماً ما كان يقصده أبي، فما كان يريد قوله هو أن قراءة ألكسندر دوماس Alexandre Dumas وفلوبير Flaubert، وكامو Camus لا فائدة عملية تُذكر لها في ميزان ما يزاوله من عمل بوصفه صاحب مقهى، ولا في العلاقات التي تجمعه بزبنائه.

 في المقابل، هو يعرف حتى وإن لم يكن يتبيَّن ذلك بوضوح أن للكتب أهمية في المستقبل الذي يرنو إليه أو بالأحرى يأمله لي، وأنها تشكِّل جزءاً من المجموعة –"الحقيبة" الشهيرة- التي تعرِّف وتُحَدّدُ إلى جانب المسرح والأوبرا والرياضات الشتوية، عالماً اجتماعياً أعلى وأسمى. لقد فهمت كل هذا وكان أمراً غير مقبول، لذلك رفضْتُ أن يظل عالم الكتب مغلقاً إلى الأبد في وجه الكائن الذي كان، إلى جانب والدتي، الأقرب إلي. لقد كان ذلك الكلام علامةً أحدثتْ انفصالاً، لا أعرف كيف أسميه، بَيْنهُ وهو صبي المزرعة بعمر الاثنتي عشرة سنة وأنا التي تابعتُ دراستي، كان الأمر كما لو أنه أدار لي ظهْرهُ، فلم يفعل ببساطة سوى أن قد أعاد إلي الجرح الذي سبق لي أن ألحقته به، فكانت القراءة بيني وبينه جرحاً متبادلاً.

في لحظة استدعاء أسباب القراءة واستحضارها، تُلِحُّ كلمات أبي هذه في العودة إلى ذهني كإحراج شخصي يتعذر تجاوزه. كلاَّ ليست القراءة هي الحياة، ومع ذلك أنا أعيش دوماً برفقة الكتب. أقيس، والشك يساورني والتَّصديق يُجافيني، تلك الفجوة الفاصلة بين كل ما عَنتْهُ القراءة ولا زالت تعنيه بالنسبة لي، وبين غياب دلالتها، بل وحتى بُطلانُها المطلق في حيوات أخرى، لا أقوى على أن أضع نفسي مكان غيرِ قارئةٍ ولا أقدر على أن أَحُل محلَّها؛ وحتى عند تأجيلها إبَّانَ ما شهدته حياتي من فترات مظلمة، سواء كانت فترة حداد أو فترة انفصال، حيثُ كل الكلمات تصيرُ تافهة وسخيفة، أو على العكس أثناء تلك الفترات المُترَعة بعاطفة وبسعادة تجعل كل قراءة دون طعم، وتضعها في مرتبة أدنى من الخَفْقِ الذي يعمّرُ راهن اللَّحْظة.

مذْ عرفت القراءة وأنا بنت السادسة، انجذبتُ إلى كل ما هو مكتوبُ وفي متناول فهمي، من القاموس إلى كتب المكتبة الخضراء، تلك المنتخبات من كتب كُتَّاب بعد تكييفها لتُناسب سن الشّباب والتي كانت أمي تمنحني إياها بانتظام، وهي التي كانت تحب القراءة. كانت الكتب أنداك غالية الثمن، وما كنت أملك منها الكثير، وحتى تكون في حوزتي المئات منها، راودني حلم أن أصير بائعة كتب، لقد كانت لذة القراءة واضحة بيّنة وضوح بداهة لذة اللعب التي ساهمت فيها الكتب أيضاً، ما دامت ألعابي كانت في الغالب تتمثل في تخيُّلي لنفسي شخصيةً من الشَّخصيات؛ هكذا كنت، على التوالي، جان إير Jane Eyre وأوليفر تويست Oliver Twist وديفيد كوبرفيلد David Copperfield و"الفتاة حافية القدمين" « fille aux pieds nus » الغربية، وقد خرجت من بين دفتي رواية ألمانية لبرتولد بريشت (Berthold Auerbach)، حسب إفادة الإنترنيت، وشخصيات عديدة أخرى. وحده ضَرْبٌ من الرَّقابة اللاواعية يتعين أن يكون قد منعني من تذكُّر أيّ سن متقدمة توقفت فيها عن صيرُورتي بطلةَ كتابٍ من الكتب في غمار قراءته، وأنا أخطو خطواتي على الطريق إلى المدرسة، بيد أنني أعرف يقيناً الدور الذي لعبته الكتب، بقوة جَلْبها للذكريات، في إيقاظ حاجتي الجنسية؛ وتلك قصة كاملة كانت بدايتها لمّا بلغتُ سن الثانية عشرة، مع رواية "الشيطان في الجسد" Le Diable au corps لريموند راديجيه Radiguet التي حصلت عليها سراً، فقد انجذبت إلى عنوانها الواعد، لقد منحت الكُتُب وضعياتٍ وحتى فاعلين لإيروسيتي المراهقة، جاعلة بذلك الحق في صفّ المؤسسة الدينية التي كنت أذهب إليها، والتي كانت ترى في القراءة الباب المفتوح للرذيلة في أوساط الفتيات (وإلى اليوم لا زالت الكلمات تبدو لي أكثر إثارة من الصُّور ونص "قصة أو" Histoire d’O أكثر إزعاجاً من نسخته السينمائية، بعد أن تم تحويله إلى فيلم).

إذا كانت جملة أبي، في سن مراهقتي، دفعتني إلى التمرد ومزَّقتني بعنف؛ فلأن القراءة صارت بالنسبة لي بحثاً عن بدائل للخطابات المؤسّسة الخاصة بالمدرسة الداخلية الدينية حيث كنت أتابع دراستي، وخطابات وسطي الاجتماعي الشعبي بمعتقداته وقواعده واحترامه للنظام القائم، فكنت أبْحَثُ بغموض وحيرة عن كتاب يرُجُّني ويقدِّم لي أفكاراً جديدة، فكانت كتبٌ لأنها محاطةٌ بهالة المنع، صارت مرغوبةً أكثر ولها سحرُ عناوين من مثل "اللاأخلاقي" لأندري جيد L’Immoraliste (Gide)، الإنسان المتمرد لألبير كامو L’Homme révolté (Camus)، ولكن أيضاً تلك الكتب التي تُعلن بحثاً، ليس عن الزمن المفقود إذ لا وجود له في سن الخامسة عشرة، لأنّ موعد بروست سيأتي لاحقاً، ولكن بحثٌ عن معنى للحياة، كما هو الحال بالنسبة للبحث عن المطلق لبالزاك La Recherche de l’absolu (Balzac)، ودروب الحرية لجون بول سارتر Les Chemins de la liberté (Sartre) أو صعوبة الوجود لجون كوكتو La Difficulté d’être (Cocteau). بحثتُ فوجدت في الروايات المعاصرة صُوَّر حياةٍ ألقتْ بي في المستقبل؛ لأن القراءة في هذه اللحظة من الوجود تلعب دوراً مُتقدماً على الحياة (وربما تكون كذلك دائماً حتى في سن متأخرة -بوصفها نضالاً ضد الموت)، وقد دفعتني معرفة ما تعنيه إرادةُ قولِ أنكِ امرأة، وأن تعيش بوصفك كذلك نحو الكاتِبتيْن سيمون دو بوفوار وفيرجينيا وولف، تلك هي حقبة الاقتباسات المنقولة في دفتر حميمي وسري، بوصفها تمثل حقيقة للذات ومن أجل الذات، وتمثل دليلاً عملياً.

واليقين بأنك لست وحيداً في تجربتك للأشياء نفسها، ومتعة أن تكون في صورة شخصين –على الأقل- يتقاسمان إحساساً أو/ عزاءَ مواساةٍ عن صعوبة الحياة وقساوتها. ومن هذه المسافة الزمنية لا زلت أرى حركةَ نقلي للجمل كتأكيد على أنني منغمسة في القراءة، وفي كل اقتباس أضيفه، كان هناك احتجاج على جملة أبي، كحال هذا الاقتباس المسجَّل في دفتر ملاحظات نجا بأعجوبة من أثر كل التحركات والانتقالات، والمأخوذ من الجريمة والعقاب: "هل يعيش ليوجد؟ لكنه كان مستعداً في كل وقت أن يبذُل وجودَهُ لأجل فكرة، ومن أجل أمل، بل وحتى من أجل هَوام أو تخيل. دائماً كانت له القليل من حالات الوجود الخالص والبسيط، ودائماً كان يريد المزيد منها". لكن أين وكيف كان بإمكاني في هذه المرحلة، النفاذ إلى العالم الداخلي لمجرم في مكان آخر غير رواية دستويفسكي؟

في هذه الفترة من حياتي كنتُ، دون أن أعلم، في قلب التناقض الذي تُمثِّله القراءة: لقد فصلتني عن أهلي، عن لغتهم بل وفصلتي حتى عن ذاتي، التي شرعتْ في قول نفسها بكلمات أخرى غير كلماتهِم. لكنها وَصلَتْني أيضاً بضمائر أخرى عبر الشخصيات التي تماهيت معها، ووصلتني بعوالم أخرى توجد خارج تجربتي. إن فعل القراءة يفصلُ ويوصلُ. إنه أولا وقبل كل شيء انفصال ملموس: القراءة تفترض القطيعة عن كل تواصل لفظي، إنها انعزال عن المحيط. وهي كذلك انفصال ذهني؛ فأن نقرأ، هو أن ننتقل إلى داخل عالم جديد، سواء أكان خيالياً بشكل خالص كما هو حال عالم هاري بوتر، أو كان يحيلُ، على العكس، إلى الواقع، سوسيولوجياً كان أم تاريخياً، كما هو حال (يوم في حياة إيفان) Une Journée d’Ivan Denissovitch، أن نقرأ هو أن نصير لحظياً ومؤقَّتاً منفصلين عن الذات وأن نترك كائناً خيالياً، أو "أنا" الكاتبِ تحتلُّ وتَشْغَلُ تماماً فضاءنا الداخلي، لتحرّكنا وتقودنا نحو مصيرها.

أن نقرأ هو أن نقبل بأن يُحدث صوتٌ انكساراً في وعينا ويقوم مقام صوتنا نحن، كثيرًا ما آويت إلى سريري في ساعة مبكرة4.

أن نقرأ هو أن نقبل أيضاً أن يتم إزعاجنا ورجُّنا، ليتحقَّقَ تحوُّلُنا في نهاية المطاف. لكن القراءة، داخل نفس الحركة، تقرِّبُ من الآخرين، وبها نتخذ موقعاً داخل رأس المجرم راسكولينكوف، ورأس المنشق عن طبقته مارتن إيدن، ونوجد وسط سيل أفكار السيدة دلاواي وهي تسير في لندن. إن القراءة تفتَحُ مسام الحساسية تجاه ما يعيشه الناس وما عرفوه وما تحمّلوه وكابدُوه. لقد عرفت منذ الطفولة بوجود معسكرات الإبادة النازية، غير أن بريمو ليفي Primo Levi وروبير أنتيلم Robert Antelme، وفيما بعد كُتب إيمري كيرتس، Imre Kertés هي التي جعلت المحسوس والواقعي واللاَّمفكر فيه منها في متناولي، على حين جعلني كتاب كريستا وولف Christa Wolf "إطار الطفولة" Trame d’enfance أفهم الكيفية التي استطاعت بها النازية القيام والازدهار في الثلاثينات من القرن العشرين. إن القراءة تُنمِّي قدرات فهم العالم وفهم تنوُّعه وتعقيده، في اللسان الفرنسي يحتوي فعل القراءة (lire)، وفعل الربط (lier)على الحروف نفسها.

أنا على وعي بأن القراءة مَا عادت كما كانت بالنسبة لي ولآخرين في الماضي، مصدراً لكل المعارف، وأنا مثل غيري ما عدت أستشير القواميس بل الانترنيت، وأشاهد على شاشة التلفزيون البرامج حول الصراعات وموضوعات المجتمع، أشاهد الأفلام في السينما والأفلام الوثائقية، ومنها أنهل المعرفة وأجد الملاذ والمتعة والعاطفة، على غرار ما يحصل لي حين قراءة كتاب. لكن ما مصدر استحالة تعويض الكتاب بحسب ما يبدو لي؟ مصدر ذلك أوّلا كامنٌ في يسر استعماله ومرونته؛ يمكننا أن نتصفحه ونقلِّب أوراقَهُ، وأن نشرع في قراءته من بدايته، من أي موضع أردنا، ويمكننا أن نسرع في قراءة النص، كما يمكننا أن نبطئ الوتيرة، ويمكننا أن نتوقف عن القراءة لنرفع رأسنا لأجل تأمل جملة، وفي مقدورنا تركُ الكتاب لأسابيع لنعاود تناوله من جديد واستئناف قراءته.

إن القراءة لا تندرج في مدة زمنية محدودة. إنها الفعل الثقافي الأكثر اتصافاً بالحرية؛ فالعلاقة التي نعقدها مع الكتاب هي من طبيعة حميمية جداً، وغالباً ما تكون مسجَّلة ومنغرسة بكامل الدقة في الزمن والمكان، وعلى ارتباط بلحظات من الحياة وبأمكنة لها؛ بمدينة بعينها وبغرفة في فندق، أو بقطار يتحرك صوب إيطاليا.

إن القراءة تجربة تُشرِكُ مجموع الوجود بشكل غير مرئي؛ ففيها يستدعي الخيال كل الحواس وفيها يبقى مرابطاً ما لا يمكن تعريفُه أو تحديدُه؛ إنه صوت الكتاب، هو ما ينقص ويُفْتَقَدُ حين نقل الرواية وتحويلها إلى فيلم سينمائي، إنه صوتٌ يظل جرسُه ولونه ونعومتُه أو عنفه صامداً وحيّاً في الذاكرة.

من بين المشاهد الأكثر إزعاجاً التي شاهدتها في السينما مشهد نهاية فيلم فرنسوا تروفو فهرنهايت 451؛ حيثُ منعُ كل الكتب وحرقُها ليعمل كل واحد من اللاجئين، رجالاً ونساء، على حفظ كتاب عن ظهر قلب وبصوت مرتفع.

كتبت منذ سنوات عديدة في مذكرتي ما يلي: اليأس كما يلوح لي هو الاعتقاد بأنّه لا وجود لكتابٍ يكون قادراً على مساعدتي على فهم ما أعيشه، والإيمان بعجزي عن كتابة كتاب من هذا القبيل".

في صغري رافقني والدي بعد القُدّاس إلى مكتبة البلدية الواقعة في مبنى البلدية والتي لا تفتح أبوابها إلا صبيحة الأحد، وقد كانت تلك هي المرة الأولى التي نلج فيها إليها؛ كان المكان مهيباً ومهجوراً بأرضية خشبية مصقولة، ومنضدة يقفُ خلفها رجل توجَّه إلينا بالسؤال عن الكتب التي نريدها، ولم نكن نعرف عنها أي شيء، فاختار الرجل لي رواية كولومبا Colomba لبروسبير ميريميه Mérimée واختار لوالدي Le Rosier de Madame Husson لغي دوموباسون Maupassant.، وهو الكتاب الوحيد الذي رأيته يقرؤه على طاولة المطبخ.

كانت بدايتي مع الكتابة في سن العشرين، أرسلت مخطوط روايةٍ لأحد الناشرين فرفضه. أصيبت أمي بخيبة أمل، أمَّا أبي فلا، بل كان مرتاحاً تقريباً. وخمس سنوات قبل موعد نشري لأول كتاب، توفي والدي. واليوم أتساءل مع نفسي ما إذا لم تكن الغاية العميقة لكتابتي أو الزخم الدافع لها هو أن تقرأ من قبل من لا يقرأون في العادة.

 


الهوامش
1. آنّي إيرنو، الاحتلال، ترجمة، إسكندر حبش، منشورات الجمل، بيروت - بغداد (2011)، ص: 15.
2. آني إيرنو، المكان، ترجمة أمينة رشيد وسيد بحراوي، دار شرقيات للنشر والتوزيع، الطبعة 1، القاهرة، (1994)، ص: 10.
3 - Annie Ernaux SÉPARER, RELIER, in « Pourquoi lire - 13 bonnes raisons (au moins), (Premier Parallèle, (2021).
https://fr.scribd.com/document/508169762/Annie-Ernaux-Philippe-Garnier-Collectif-Pourquoi-Lire-13-Bonnes-Raisons-Au-Moins
4. إحالة من آني إيرنو إلى الجملة الشهيرة من رواية "بحثا عن الزمن المفقود"، وهي الجملة التي يذهب بعض النقاد إلى أنها توجز الرواية بأجزائها السبعة، وهذه تتمة المطلع الذي يؤكّدُ فكرة الروائية حول القراءة:" كثيراً ما آويت إلى سريري في ساعة مبكرة، وكانت عيناي أحياناً حالما أطفئ شمعتي، تغتمضان بسرعة لا تدع لي متسعاً من الوقت أقول فيه: "إنني أنام". وبعد نصف ساعة توقظني فكرة أن الوقت حان للبحث عن النوم، فأبتغي وضع المجلد الذي أظن أنه لا يزال بين يدي وإطفاء شمعتي؛ إذ إني ما كففت في نومي عن التفكير في ما قرأت منذ قليل، ولكن هذه الأفكار أخذت مجرى خاصاً بعض الشيء فبدا لي أنني بنفسي ما يتحدث عنه الكتاب"، ولا بد من الإشارة إلى أن التذكر النفس البروستي الذي يؤسِّس الكتابة حتى عند آني إيرنو، بخصوص بروست.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها