الاستشراق الألماني.. والتراث العربي

رمضان خلف محمد رسلان


اهتم أعلام الاستشراق الألماني بدراسة التراث الذي أبدعه العرب على مر التاريخ، وذلك على غرار ما قدمه الاستشراق الفرنسي والإنجليزي باعتبارهما من أولى المدارس الاستشراقية، ولكن ما قام به الألمان من تحقيق ونشر وترجمة لتراثنا العربي والإسلامي، فاق ما قام به غيرهم من السابقين، من حيث الدقة والموضوعية والأمانة العلمية، ولأجل القيام بهذا كله حرصوا على تعلم ودراسة اللغة العربية وآدابها.


أولاً: بداية الاهتمام بالتراث العربي والإسلامي

تعود الجذور الأولى لاتصال ألمانيا بالشرق وبالعرب والمسلمين إلى أيام الحملة الصليبية الثانية (1147 - 1149م)، فقد كان الألمان حينها من المشاركين في الحج إلى الأراضي المقدسة، حيث قدموا وصفاً لتلك البلاد ونقلوا شيئاً من حضارتها بعد عودتهم إلى ديارهم، كما شارك الرهبان في الترجمة عن العربية في الأندلس(1).

وفي القرن الرابع عشر والخامس عشر للميلاد انعقدت النية على إنشاء كراسي لدراسة اللغات الشرقية في ألمانيا، كانت تلك النية متزامنة مع إنشاء الجامعات الألمانية التي تأخر تأسيسها في ألمانيا عن بقية بلدان أوروبا(2). إلا أن القرن السادس عشر الميلادي يعد مرحلة في تاريخ الاستشراق الألماني، لأن الدراسات الشرقية في وقتها لاقت اهتمامًا واضحًا خلال هذا القرن من خلال المساعي العلمية التي قامت بها شخصيات ألمانية، كان لها دور تأسيسي لتلك الدراسات، وعُرفت هذه الشخصيات باسم: أساتذة اللغات الشرقية. ابتداءً عمل هؤلاء الأساتذة بتعليم اللغة العبرية لدارسي اللاهوت مع إعطاء محاضرات في تفسير التوراة، إضافة إلى تعليم العربية والسريانية وغيرها من اللغات السامية (3).

لقد عوّل المستشرقون الألمان إبّان القرن السادس عشر على مخطوطات مكتبة(4) (بوستل Guillaume Postel 1510 – 1581م)في دراسة اللغات الشرقية، ولمع في هذا التوقيت (يعقوب كريستمان Christmann,jacob 1554-1613م)؛ إذ أنشأ كرسياً للعربية في جامعة هايدلبرغ، واستطاع أن يُدرك مقدار الصلة الوثيقة بين العربية كلغة، وبين العلوم الأخرى كالطب والفلك وغيرها، فترجم كتاب الفلك للفرغاني (ت347هـ/861م) لا عن العربية مباشرة بل عن النص العبري ولا إلى الألمانية بل إلى اللاتينية.(5) ووضع فهرسًا مختصرًا للمخطوطات العربية التي اقتناها أحد النبلاء الألمان في هذه الفترة(6). وبالإضافة إلى ما سبق فقد برزت جهود الاستشراق الألماني في القرنين السابع والثامن الميلاديين بمجيء المستشرق (يوهان ريسكه Johann Jacob Reiske 1716-1774) الذي تعلم اللغة العربية ودرس تاريخ الحضارة الإسلامية(7).

وعندما تأسست جامعة بون الألمانية عام 1818م، واختير المستشرق جورج فيلهلم فريتاخ (Georg Wilhelm Freytag) أستاذاً للغات الشرقية، والذي قدم معجمه الشهير (عربى/لاتيني) الذي ما زال يستخدم حتى الآن في الأوساط العلمية والأكاديمية، ومن تحقيقاته لتراثنا العربي نشره لديوان الحماسة لأبى تمام بشرح التبريزى، وترجمته إلى اللاتينية، ونشره كتاب البردة لكعب بن زهير مع ترجمة لاتينية، ونشره لمخطوط وصف فلسطين والشام للشريف الإدريسي، ومعجم البلدان لياقوت الحموي في ستة أجزاء مذيلة بفهارس وملاحق(8).

حفظت المخطوطات العربية والإسلامية في المكتبات الألمانية التي بلغ عددها سبعة الآف مكتبة منها ما هو ملحق بالبلديات الصغيرة، ومنها إحدى عشر تابعة للكنائس، وتعد مكتبة برلين الوطنية أكبرها من ناحية القيمة العلمية في تاريخ الاستشراق الألماني، وقد أنشئت مكتبات ملحقة بجامعات جوتنجين، هايدلبرج، ونظراً لأهميتها –المكتبات– قرر مجلس العلوم الألماني توسعتها وإنشاء مثيلاتها في المعاهد الفرعية، مع محاولة التنسيق فيما بينها منْعاً للتكرار(9). وأما عن متحف الفن الإسلامي ببرلين فقد احتوى على مجموعات كبيرة من أوراق البردي، التي ساعدت المستشرقين الألمان على سهولة البحث في تاريخ العلوم والفنون الإسلامية(10).

أسس (هاينريخ لبرخت فلايشرHeinrich Leberecht Fleischer 1881-1888م) الجمعية الشرقية الألمانية على غرار الجمعيتين الآسيوية الفرنسية والبريطانية، فألفت الرابطة الرسمية بين المستشرقين الألمان وأعضاء الشرف فيها من علماء البلدان العربية والآسيوية والأفريقية، وبين الرأي العام الألماني وسائر نظيراتها في العالم. وقد أخذت على نفسها دراسة تراث العرب والإسلام دراسة علمية، ونشر ذخائره ومواصلة مباحثه في المعاهد والجامعات، وتوثيق صلات ألمانيا بالعالمين الآسيوي والأفريقي.. ثم نقل مقرها إلى مدينة ماينس (1948)(11).

وفي سبيل تحقيق رسالتها أصدرت المجلات الدورية، وعقدت حلقات سنوية للبحوث الجامعية، وعاونت على نشر أمهات الكتب العربية.. وأسست فروعًا لها، أطلقت على بعضها اسم معاهد الآثار الشرقية، وعلى الآخر معاهد الدراسات الشرقية، والمكتبات الفنية.. وفي إسطنبول أنشأ الدكتور هلموت ريتر (Hellmut Ritter ت1971م) المكتبة الإسلامية للمستشرقين الألمان عام 1918، عني فيها بتحقيق النصوص الإسلامية ولاسيما العربية؛ إذ بلغت نشرياتها 23 كتابًا، منها كتاب الوافي لصلاح الدين الصفدي (ت764هـ)، وكتاب مشاهير علماء الأمصار لمحمد بن حسان الضبي (ت230ه)(12).


ثانياً: أبرز المستشرقين الألمان المهتمين بالتراث العربي والإسلامي
 

اهتم المستشرقون الألمان بتحقيق ونشر وترجمة أمهات الكتب من تراثنا العربي والإسلامي في شتّى المجالات والمعارف، في إطار من الموضوعية والأمانة العلمية التي اتصف بها الاستشراق الألماني على مر تاريخه، وفيما يلى عرض جهود بعض المستشرقين:

1. هلموت ريتر Hellmut Ritter (ت1971م) تتلمذ على يد كل من ثيودور نولدكه (Theodor Nöldeke 1836 - 1930)، و(كارل بروكلمان Carl Brockelmann 1868- 1956)، شغل ريتر منصب مدير الجمعية الشرقية الألمانية عام 1927، وقد قضى فترة طويلة في إسطنبول بناء على مهمة قد أوكلت له، فاطلع على المخطوطات العربية، فنشر وحقّق سلسلة كبيرة منها باللغات العربية والتركية والفارسية تحقيقًا علميًا دقيقًا، نذكر على سبيل المثال: كتاب مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري (ت 324 ه) نشر عام 1923، ونشر كتاب الوافي بالوفيات لصلاح الدين الصفدي (ت764هـ) عام 1931، ونشر عام 1954 كتاب أسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني (ت471هـ)، ونشر عام 1959 كتاب مشارق أنوار القلوب ومفاتيح أسرار الغيوب لابن الدباغ (ت699ه)، وقام بترجمة كتاب كيمياء السعادة للغزالي (ت505ه) نشرت عام 1923، وترجمة كتاب غاية الحكيم للمجريطى (ت 398 هـ) نشرت عام 1962(13).

2. كارل بروكلمان Carl Brockelmann (ت1956م) من كبار المستشرقين المعاصرين، وأهم ما قدمه للتراث العربي والإسلامي كتابه تاريخ الأدب العربي في خمسة أجزاء، عرض فيه للمخطوطات العربية وعدد النسخ وأماكن وجودها، وله نشرة نقدية محققة لــكتاب طبقات ابن سعد (ت ٢٣٠ هـ)، وقد سافر إلى لندن وإسطنبول للاطلاع على مخطوطاتها عام 1895م، ولم يكتف بهذه المهمة الموكولة إليه فانتهز الفرصة فنسخ من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة عام 1896م، ونشر كتاب عيون الأخبا (14).

3. فرديناند فستنفلد Ferdinand Wüstenfeld (ت1899م) درس اللغات الشرقية في جامعتي برلين وجوتنجين، فأصبح من مشاهير أساتذتها عام (1842)، قضى ما يقارب الستين عامًا منكبًا على دراسة اللغة العربية وآدابها وتاريخها، إلى أن كف بصره. ساهم بإنتاج علمي وفير وخدمات جليلة بما حققه ونشره من مخطوطات عربية وإسلامية نادرة نسخها بخطه الجميل، منها على سبيل المثال: كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان (ت681ه) بعد مقابلته على عدة مخطوطات، وفيه سيرة 865 رجلاً، بتواريخ ولادتهم ووفاتهم ومصنفاتهم في 12 جزءًا، ونشر كتاب تهذيب الأسماء للنووي (ت676ه) في مجلدين عام 1847، ونشر كتاب المعارف لابن قتيبة (ت 276هـ) عام1850، ونشر كتاب جغرافية مصر للقلقشندي (ت821ه) عام 1879(15).

4. هاينريخ لبرخت فلايشر Heinrich Leberecht Fleischer (ت 1888م) ألم بتراث الشرق، وساعده ذلك في إتقانه للغة العربية على يد المستشرق الفرنسي سِلفستر دي ساسي (Silvestre de Sacy 1758 – 1838)، وعرف عنه – فلايشر-علو كعبه في العلوم العربية والإسلامية؛ إذ ساهم في نشر وترجمة مخطوطاتها، على سبيل المثال: ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة في تسعة مجلدات عام 1843م، ونشر مخطوط تفسير القرآن الكريم للبيضاوي (ت 685هـ) عام 1846، وصنف فهرسًا للمخطوطات الشرقية في مكتبة درسدن الوطنية، عرض فيه حوالي 454 مخطوطاً في 100 صفحة، كما صنف فهرسًا بمكتبة مجلس الشيوخ عام 1839م(16).


الهوامش: 1- العقيقي، نجيب، المستشرقون دار المعارف، القاهرة، 2006، ص: 340.┋2- الشاذلي، عبد الله يوسف، الاستشراق مفاهيم صلات جهود، ط1، (د.م، د. ت)، ص: 435.┋3- الأيوبي، هاشم إسماعيل، أبحاث عربية في الكتاب التكريمي للمستشرق الألماني فولفد يتريش فيشر، ط1، (د. م، 1994)، ص: 11.┋4- فوك، يوهان، تاريخ حركة الاستشراق الدراسات العربية والإسلامية في أوربا حتى بداية القرن العشرين، ترجمة عمر لطفي العالم، ط2، (دار المدار الإسلامي، بيروت، 2001 )، ص: 48 ـ 50┋5- الشاذلي، الاستشراق، ص: 437.┋6-محمد عونى عبد الرؤوف: جهود المستشرقين في التراث العربي بين التحقيق والترجمة، إعدها للنشر د.إيمان السعيد جلال، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ط1-2004م، ص: 22┋7-المرجع السابق- ص: 25.┋8-المرجع السابق – ص: 26.┋9- نجييب العقيقي: المستشرقون- ص: 681.┋10- المرجع السابق- ص: 686.┋11- المرجع السابق- ص: 687.┋12- المرجع السابق– ص: 687.┋13- عبد الرحمن بدوى: موسوعة المستشرقين - دار العلم للملايين – 1993م -ينظر ص: 277-278.┋14- المرجع السابق - ينظر ص: 98-99.┋15- المرجع السابق – ص: 713-714.┋16- المرجع السابق – ص: 707.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها