سيمفونية التشكيل في الشعر العربي

محمد نجيب قدورة


همسة في أذن التصوير الفني

إذا كان عالمنا الجاحظ عرّف الشعر بأنه (فن التصوير)، فهذا يعني أن الجاحظ كان ينظر إلى معنى بيت القصيد، أو لنقل: هو أراد أن تكون القصيدة لوحة فنية مستوحاة من الواقع، ويحق للشاعر ما لا يحق لغيره في أن يحرز الشاعر فكرة (الهيمان)، أو ما نسميه التحليق فيما وراء ذلك من خيال ورؤية في أبعاد مفتوحة.

بهذه الطريقة كنت أقرأ القصائد الطوال في سرديتها لمشاهد تشكيلية متتابعة في شريط الذاكرة التي نَسْجُها من طبيعة الحياة العربية، سواء في الارتحال أم القتال أم مكابدة الأهوال.

وهنا أنا لا أتحدث عن تشبيه أو استعارة أو أي شكل من أشكال المجاز الفني؛ إنما الحديث يتوجه ببوصلة ريشة فنّان تشكيلي يرسم لوحاته باللون والحركة والبصر والبصيرة، وهو يعي بما يرسم أنه يعزف سيمفونية التشكيل في مخيال من الشعر الجميل بتأثير من التفكير الفني للشاعر.

جداريات خالدة في التشكيل الشعري

الآن أقتطف من أشجار ذاكرتي مشاهد كغيض من فيض يعزف فيها الشعراء سيمفونياتهم، ثم يكون باقي كلامهم داخلاً في التحليل النفسي لحاله الشاعر.

 يقول الشاعر امرؤ القيس في أبيات مشهدية:
قِفَا نَبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بسقط اللِّوى بين الدخول فحوملِ

فلنرسم مع الشاعر صاحبين يقفان فجأة أمام أطلال، والتأمل في ذكرى الأحبة والديار على مدّ النظر إلى المكان الذي قصد الشاعر أنسنته. حتى إنّ مسمّى المكان الحائم المتدرج صعوداً ونزولاً سينطق برماله وحصاه، ورائحةٍ متخيلة فوّاحة من آثار من كانوا في ذات المحل والمرتحل.

وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليّ بأنواع الهموم ليبتلي
فقلتُ له لمّا تمطّى بِصُلبِه
وأردفَ أعجازاً وناءَ بكلكلِ
ألا أيُّها الليلُ الطويلُ ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل

رحم الله الناقد يوسف سامي اليوسف، فقد أحسن الإشارة إلى المشهد المموسق نفسياً، فكيف بالشاعر المكابد لفراق من أحبّ بعد أن انتكب بمقتل والده.. أين الأمل وليل أحزانه مستمر بهمومه وتطاوله؛ كأنه تثاقل في الحركة كالجمل الذي أتعبه المسير الطويل، والرسم يطال الشاعر حتى في تصوير آهاته التي لا طائل منها.

قالت نفسي: على شاكلة امرئ القيس كان اختزال لوحة الشاعر الأعشى ميمون بن قيس في مشهد الارتحال المأساوي في قوله:
ودّع هريرة إن الركب مرتحل
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل

الشاعر هنا يرسم لوحة الوداع (المابيني)، طرفان في مواجهة الحدث، تباعد بحركات انكسارية، ثم يكون التساؤل والعجب مما حصل أو ما ستكون عليه الأحوال بعد الارتحال من عذابات العاشقين.

أما شاعرنا (ابن الرومي) الشاعر الاجتماعي فلم يقبّح نفسه كما صنع الشاعر الحطيئة قبله، عندما رسم لنا مشهد الناظر إلى وجهه في الماء، فقال الحطيئة: (فَقُبِّحَ مِن وجهِ وقبح حامله). لا. لم يصنع ابن الرومي هذا، وإن كان في سخريته مكثراً كمشهد من يجهّز رقبته للصفع، أو مشهد طويل اللحية الذي يبلل لحيته في شربه، أو حتى في وصفه للخباز الذي (يدحو الرقاقة).

أجل ابن الرومي في سياق آخر يذكرني بحمالين رأيتهما في مدينة حلب، أحدهما رسمه الفنان (طاهر بني) وهو يجر عربته، وآخر كنت أسمع صوته في أزقة سوق (المدينة) حول القلعة، وهو أعمى يقود حماره المحمّل وهو يصيح (الزيت الزيت أوع الزيت)، وهذا الحمال الأعمى في حلب نقلني بغمضة عين إلى قصيدة الحمّال الأعمى للشاعر ابن الرومي في قوله عن أعمى بغداد:
رأيت حمّالاً مُبينَ العمى.. يعثر في الأكم وفي الوهد
محتملا ثقلاً على رأسه.. تصعب عنه قوة الجلد

الشكل موضوع الأعمى -التعثر حركة - الحمل على الرأس صورة، التحمل فيه موسيقى الأنين.. ثم الشموخ في الصبر والإباء والأنفة في تصرف ذوي الهمم الذين يتجاوزون معاناتهم بما يلزم كأن شيئاً لم يكن.

قلت يا نفسي عندك حق إنها سيمفونية التشكيل في مشهد الشعر العربي.. تابعي لوحة المراسل الحربي الشاعر المتنبي، وهو يقول في قصيدته (الحدث الحمراء) مادحاً سيف الدولة:
أتوكَ يجرّونَ الحديد كأنهمْ.. سَرَوا بِجيادٍ ما لهُنّ قَوائمُ
إذا برقوا لم تُعرف البيض منهم.. ثِيّابُهم من مثلها والعمائم
هل الحدث الحمراء تعرف لونها... وتعلم أيّ الساقيين الغمائم

المشهد: جيش مدجج بالأسلحة، تظهر في اللوحة رؤوس فرسان وجياد، على مسطح في الشكل تغيب فيه قوائم الخيل، فلا يرى إلا لمعان سيوف وبياض عمائم، لكن السيمفونية النفسية أبعد في المرمى، فالأرض الحدث الحمراء نسيت لونها الحقيقي في أطراف البرواز، حيث امتزاج العشب الأخضر باللون الأحمر؛ كأن ذاكرة جديدة للمكان الذي اختلط عليه الواقع بعدما حلّ به من دمار شامل.

وإذا كان للفن التشكيلي مكان في الشعر العربي، فلا بدّ أن نعود إلى قصائد شاعرنا البحتري الموسوم بشاعر الديباجة، في مصفوفة شعره الرائعة (فالربيع يأتي مختالاً ضاحكاً من الحسن حتى كاد أن يتكلما) والمشهد في سرديته طويل، لكن لن ينسينا قصيدة الشاعر في وصف لوحة على جدار إيوان كسرى في قصر (المدائن)، في مقتطف من قوله الذي يصف فيه المشهد الحسّي المازج بين ثقافة الشاعر والتقاط عدسة عينيه لحركة نفسية في اللوحة الجدارية:
وكأن الزمان أصبح محمُــو..لاً هواه من الأخسّ الأخسّ
حُلَلٌ لم تكن كأطلال سُعدى.. في قفار من البسابس مُلس
فكأن الجِرْمازَ من عدم الأُنـ..ـِـس وإخـلالـه بنيةُ رمس

والمشهد تصوير لمعركة بين الروم والفرس، لم يكن المكان عربياً في أرض قفر نفر موحشة، بل كانت الحرب في شوارع وقصور تحولت إلى مقابر خالية من أيّ أنس، أو همس من أثر الهلاك وسفك الدماء.

هكذا تعلمت موسقة القصيدة وتشكيلها

لا أنكر، بل أفتخر أن عمي الفنان أديب قدورة علمني متعة الكلمة وتشكيل الصورة، حيث أعجب الدكتور عبد السلام العجيلي رحمه الله في قصيدة من بداياتي، فعلق وقال هذه لوحة في متحف. أجل يا نفسي قلت وقتذاك:
منزل يسكنه الموتى فقط
مومياء الناس فيه والقطط
كل شيء في المكان
ضمن أكياس الأماني والشنط

ضحكت نفسي وهي تردّد راسمةً في خيالي سيمفونية قصيدة للشاعر سميح القاسم في مشهد لوحة تشكيلية.

منتصب القامة أمشي
مرفوع الهامة أمشي
في كفي قصفة زيتون
وعلى كتفي نعشي

قلت يا نفسي: أجمل الشعر ما كان في تعبيره الفني مؤسساً على سيمفونية التشكيل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها