الإفراط في السينما الشعبية

محمد الفقي


في يناير عام 1981 أصبح الممثل الهوليودي رونالد ريجان Ronald Reagan رئيساً لأمريكا، وقبل ذلك بسنة ونصف تم انتخاب مارجريت ثاتشر Margaret Thatcher رئيسة لوزراء بريطانيا في مايو 1979. منذ ذلك الحين تم إطلاق يد الرأسمالية داخل أمريكا، وفي العالم أجمع، المتقدم والنامي وممزوجهما، فبدأت عمليات توسيع الخصخصة، ومنح المزيد من الإعفاءات والامتيازات للشركات الكبرى، ورفع القيود الحكومية عن الاستثمار في السلاح والبترول، وتقليص الاعتمادات الحكومية على التأمين الصحي، والتضييق على النقابات العمالية، وانتهاج سياسات مالية واقتصادية فاقمت البطالة، وطحنت الطبقات الفقيرة، وتُرك رأس المال ليستنزف الموارد الطبيعية في العالم ويدمرها، ويتسبب كل بضع سنوات في أزمات اقتصادية عالمية، وفي معاناة جماعية لشعوب بأكمها، وإفلاس دول، وفقر عام نتيجة حث الناس على الإنفاق المتهور والاستهلاك التفاخري.


وقد عكس الإنتاج السينمائي في هوليوود؛ أي السينما الشعبية الأمريكية، ومنذ حقبة ريجان، تلك السمات لمرحلة النيولبرالية وآثارها على المجتمع والإنسان؛ في أغلب الأحيان بشكل دعائي داعم للقيم النيولبرالية، وفي أحيان استثنائية، وبمبادرات فنية فردية، بشكل ناقد لتلك القيم والسياسات. إننا نلمس حساً رافضاً لسيطرة ثقافة الجشع والإفراط الاستهلاكي، مرة في شكل صريح لا يقبل التأويل كما في فيلم أوليفر ستون (وول ستريت، 1987)، ومرات أخرى في شكل أقل صراحة، وإن كانت نبرة الفيلم، وشخصياته، ونسيجه الدرامي، وخاتمته، تؤكد كلها هذا الرفض، كما في أفلام (نادي القتال، 1999)، و(أمريكان سايكو، 2000)، وقبلهما (عمل خطر، 1983).

لكن ومنذ الكارثة الأمريكية المالية الكبرى في 2008، لم نعد نلمح حتى تلك المحاولات الفردية في السينما الأمريكية -على قلتها- في نقد النيولبرالية، بالرغم من أننا لم نكن في حاجة أشد لمثل هذا النقد في يوم من الأيام مثل حاجتنا له اليوم. إن سينمائيين كبار مثل أوليفر ستون يفضلون الآن الأسلوب المباشر من خلال السينما التسجيلية لنقد القيم والسياسات الأمريكية، لكن سينمائيين آخرين، من فئة الكبار أيضاً، يبدون كما لو كانوا قد استسلموا بشكل أو بآخر لتلك القيم.

الإفراط والحشد

يختلف القالب العام لأفلام هوليوود الشعبية الآن اختلافاً جذرياً عن هوليوود الكلاسيكية في الأربعينيات والخمسينيات وحتى الستينيات. أفلام هوليوود الاستعراضية، والكوميدية، والرومانسية، أو حتى الاجتماعية الأكثر جدية، كانت جميعها تتميز بوجود وحدة عضوية في الفيلم. كان لكل فيلم هدف درامي أساسي تقوم على خدمته كل العناصر السردية والبصرية، بل إن هذه العناصر تنشأ أساساً وتجد مبرر وجودها في الحفاظ على هذا الهدف الدرامي وتغذيته باستمرار ليتقدم إلى الأمام. تلك كانت تقاليد السرد الكلاسيكي التي تزخر بها مراجع كتابة السيناريو والإخراج التي كتبها سادات هوليوود في ذلك العصر.

لكن ومنذ بدايات حقبة النيولبرالية باتت السينما الشعبية الأمريكية، وبصورة تدريجية، تهمل تقاليد الآباء، وتستمد مرجعيتها البصرية، وأسلوب سردها، من مزيج من: أساليب الإعلانات التجارية التلفزيونية، وأغاني الفيديو كليب المصورة، وألعاب الفيديو، بالإضافة إلى أفلام الوحوش اليابانية في فترة الخمسينيات، وأفلام الأكشن المصنوعة في هونج كونج في عقدي السبعينيات والثمانينيات. وهي تأخذ هذه الخلطة إلى مستوى أعلى من الحدة والمبالغة، إلى الحد الذي يفقد فيه الفيلم وحدته العضوية التي يفترض أن تحافظ على تماسك السرد، والنتيجة التي تحدث فعلياً هي أن تصبح للأجزاء الأولوية على حساب الكل. ولتعويض هذا القصور الفني يعمد صناع الفيلم إلى مزيد من المبالغة، والإفراط، والتعقيد الشكلي، من قرن الفيلم إلى قدمه، ظناً أن الإفراط هو الأكسير الذي سيحول المعادن الخسيسة إلى ذهب وفضة.

من هنا الإصرار على المبالغات في الديكور المسرف في زخرفاته وطابعه الحشدي، والمبالغات في انفجارات المباني والجسور، وتهشيم السيارات أثناء المطاردات، والتعقيد التقني في الخدع البصرية، والتصميم شديد التعقيد لشخصيات الأنيمشن الرقمية، لدرجة عجز المتفرج، بصرياً، عن الإلمام بتفاصيلها من أول نظرة، وكأن تعقيدها الشكلي يطالبه بالنظرة الثانية كتعويض زائف عن القيمة الفنية. بروميثوس الجديد يسرق النار من الآلهة لكنه لا يقدم لنا سوى الدخان.

◄ خسائر فنية

يبني الفيلم الشعبي الآن على أساس أن يمنح لأطرافه حرية التكثيف والمبالغة، ويكون ذلك على حساب قلب وعقل الدراما، بل يصبح مبرر وجود الأطراف هنا هو مدى نجاحها في تحقيق أقصى قدر ممكن من الإفراط: في الديكور، والخدع البصرية، والكاميرا المفرطة في حركتها وزواياها الشاذة، والمونتاج السريع شديد التعقيد، والمكساج المفرط في تعدد طبقاته الصوتية، وهلم جرا. يصبح إذن الرابط بين تلك الأجزاء هو الإفراط، كبديل عن الوحدة العضوية الدرامية التي تخدم السرد في الفيلم. إفراط هو ابن الفراغ، ومبالغات هي بنت الافتعال. شغب درامي. إن صانع الفيلم الشعبي اليوم يُصعِّد ويفرط في التصعيد على غير منهج.

من الأمثلة النموذجية على هذا سلسلة أفلام (المتحولون Transformers) التي بدأت أولياتها عام 2007. إن الطريقة المعقدة التي تتحول فيها السيارات إلى روبوتات عملاقة، ليس دليلاً فقط على ما تتطلبه تلك الأفلام من استخدام كثيف للتقنيات الرقمية المعقدة التي وفرتها التكنولوجيا للسينما، ولكنه علامة أيضاً على طريقة تحويل الأصول إلى مصطنعات بمصطلحات بودريار. إن السيارة (أو الشاحنة، أو الهليكوبتر) تتفكك، ثم تعيد تشكيل نفسها من جديد لتصبح شكلاً معقداً من الروبوتات، الأضخم حجماً من السيارة الأصلية. وبالرغم من أنها تصبح شيئاً مصطنعاً تماماً، وليس لها أي علاقة بواقعها الأصلي، إلا أننا مع إيقاف عرض الفيلم والتدقيق في الكادر الثابت، سنلمح في كل منها بقايا، أو نفايات، من الأصول: نوافذ السيارة، اسطوانة العادم، صندوق التروس، عجلة القيادة، غطاء المحرك، الرفارف الجانبية، الردياتير، الإطارات، إلى آخر ذلك.

إن كيد ييجر Cade Yeager؛ المصمم الأساسي لنماذج الروبوتات في سلسلة أفلام (المتحولون)، يتباهى دائماً في مقابلاته بأنه بنى نماذجه من تجميع أجزائها من النفايات ومقالب القمامة. إننا هنا بإزاء مفهوم إعادة التدوير الذي تعتمد عليه أساليب صناعة تلك الأفلام: إعادة تدوير، وتعديل، وتكييف، أصول فنية سابقة ثبت نجاحها التجاري من قبل وتركت أثراً طيباً في نفس المتفرج.

◄ الدراما واسعة الذمة

إن الأساس الذي ينهض عليه الفيلم الشعبي الآن هو اقتباسات لا نهاية لها من أعمال أخرى سابقة، في شكل أقرب إلى عملية تجميع للنفايات وإعادة تدويرها. ولذلك يولي مخرجو تلك الأفلام أهمية عظمى لعملية المونتاج السريع والمعقد لجمع هذه النفايات معاً. إنها جزء من الثقافة الكونية النيولبرالية التي تعتمد على إعادة التدوير، عوضاً عن الإنتاج الأصيل، وهي نفسها الثقافة التي تجعل من الـ D.J الذي يقوم بجمع التراكات الموسيقية ومزجها معاً، أكثر شهرة وثراءً من المؤلف الأصلي.

بمصطلحات رولان بارت، يمكن القول: إن صانع الفيلم الشعبي لا يعمل بوصفه مبتكراً، أو منشئاً لنص أصيل، ولكن كجامع شذرات واقتباسات يستخرجها من عدد غير محدود من الأفلام الأخرى. فهو غير قادر على إنتاج نص أصيل، ولكنه قادر فقط على إعادة إنتاج نص قد سبق إنتاجه من قبل. ولهذا السبب نجد أن الصف الثاني من مخرجي هذه الأفلام؛ مثل: دون سيجل، ووالتر هيل، ومايكل باي، وجو دانتي، وروجر كورمان، يعيدون استخدام الأفكار والموتيفات التي سبق لمخرجي الصف الأول صناعتها.

ومخرجو الصف الأول في السينما الشعبية الأمريكية أنفسهم، من أمثال: جيمس كاميرون، ورونالد إيميرك، وجورج لوكاس، وريدلي سكوت، وستيفن سبيلبرج؛ كانوا قد قاموا، قبلاً، بالاقتباس من عدد لا محدود من الأفلام السابقة، سواء من هوليوود الكلاسيكية، أو من باقي سينمات العالم. إننا بصدد الحديث عن نسخة عن نسخة عن نسخة، وكل نسخة منها ليست صورة عن النسخة التي تسبقها وإنما تشويه لها.

إن صانع الفيلم الشعبي اليوم يدرك أن مكمن قوته الوحيدة هو في الاقتباس عن الأصول السابقة، وفي محاولته للتذاكي، يقوم بعملية توسيع لدائرة الاقتباس، محاولاً المزج بين أكبر عدد ممكن من الأصول، وعلى نحو فج، ومفرط، لا لجمال الكثرة بل لتوزيع الضعف على الأوصال، بحيث يغلب طابع الحشد التجاوري لهذه العناصر المقتبسة، وليس التوليف الدياليكتيكي، وعلى نحو نشعر معه دائماً بأن صانع الفيلم يخشى الانحياز لأي من تلك العناصر، التي تتجاور معاً جنباً إلى جنب في شكل فصامي سلمي خال من الصراع. يستجلب الإفراط في الاقتباس الفقر الدرامي كما تستجلب الحَربة الصواعق.
 

من الشيق ملاحظة، مثلاً، أن الروبوت بامبلبي Bumblebee في سلسلة أفلام (المتحولون)، هو سيارة رياضية صفراء تتحول إلى روبوت عملاق مدجج بالسلاح، وتسعى لحماية البطل المراهق الذي سينقذ العالم من الدمار.

إن بامبلبي هذا لا يستطيع إجراء حديث مع البطل بلغة البشر، وعوضاً عن هذا، يتفتق ذهنه الصناعي عن فكرة، ليست فقط ذكية، ولكن لعلها تمثل الملمح الأساسي في كيفية صناعة تلك النوعية من الأفلام: يقوم بامبلبي باستخدام الراديو الموجود في السيارة في تسجيل كل ما يتم بثه من أغان، ومقابلات، ونشرات أخبار، وأحوال الطقس، وإعلانات تجارية، ومقاطع من الأفلام والمسلسلات، ثم يقوم بعملية قص ولصق لعدد من الجمل الواردة فيها (وبالأصوات الأصلية المختلفة والمتباينة لأصحابها) ثم يستخدم تلك الأصول الصوتية في محادثاته مع البطل.

إن بامبلي في الحقيقة هو استعارة لما تقوم به هذه الأفلام من قص ولصق للأصول، لتنتج في النهاية شكلاً غير منسجم، خال من الأصالة، ومن الوحدة العضوية، شكلاً يحاول التودد إلينا باستدعائه لأصول سابقة كنا قد رأيناها من قبل، شكلاً يحاول أو يغوينا بالحنين لما أعجبنا به سابقاً من أفلام ومسلسلات.

◄ الإشارة إلى مساوئ التجارة

الملمح الآخر الذي نلاحظه في سينما هوليوود الآن، خصوصاً في الأفلام التي تأخذ شكل الأجزاء أو "السلسلة الفيلمية"، هو إفراط السابق على اللاحق؛ إن كل فيلم جديد لا بُدّ وأن يكون أكثر إفراطاً من سابقه. إن منطق "السلسلة"، أو "الكمالة"، هو قالب مستعار من المسلسلات التلفزيونية، وليس قالباً سينمائياً، بل ولطالما تهرب كبار السينمائيين من صنع جزء ثان لأفلامهم، حتى تلك التي أصابت قدراً كبيراً من الربح التجاري والنجاح الجماهيري.

ومنطق "السلسلة" لا يصبح مطلوباً في أفلام هوليوود لأسباب درامية، بل هو مظهر آخر من مظاهر الإفراط: الإفراط في استغلال النجاح التجاري للنسخة-الأساس، الإفراط في استغلال "العلامة التجارية"، طمعاً في اجتلاب المال بأي وسيلة.

يحق لنا اعتبار سلاسل أفلام مثل (المتحولون)، و(حرب النجوم)، و(المُبيد)، و(ماكس المجنون)، و(أولاد مشاغبون)، و(سريع وصاخب)، وسلاسل أفلام مارفل ودي سي، وغيرها الكثير، جزءًا من "تجارة العلامات"، تماماً كتجارة علامات (ستاربكس)، و(وول مارت)، و(آبل)، و(كوكاكولا)، و(شانِل).

إن اسم (المتحولون) على أفيش الفيلم هو نفسه العلامة التجارية التي يُقبل عليها المراهقون، وليس الدراما، ولا الثقة في اسم المخرج أو الممثلين. إن المتفرج يدخل دار العرض على وعد بأن تكون النسخة الجديدة من الفيلم أكثر إفراطاً من النسخة السابقة؛ في العنف، والهزل والسخف، والعري، والشتائم، والمثلية، والمؤثرات الرقمية، والديكورات الباهظة، ومطاردات السيارات، وتفجيرات المباني.

بل وباتت النسخ الأخيرة من تلك الأفلام تشهد إفراطاً حتى في طولها الزمني، الذي وصل في المتوسط إلى ساعتين ونصف. هذا فضلاً عن الإفراط في ميزانيات النسخ الجديدة، التي تصل أحياناً إلى 10 أضعاف ميزانية النسخة السابقة عليها؛ لأن كل نسخة جديدة من السلسلة تتطلب المزيد من مشاهد مطاردات السيارات، وتحطيم وتفجير المباني، واستخدام عدد أكبر من العمالة الفنية في العمليات التقنية الخاصة بالمونتاج، والمكساج، والخدع البصرية.

مسرح الأحداث في النسخ المتقدمة أيضاً يتم ترقيته وتوسيعه؛ فبدلاً من الاقتصار على أمريكا، تتوسع الأحداث إلى دول أخرى، ثم الكوكب بأكمله، ثم الفضاء الخارجي، ثم مجرتنا، ثم المجرات المحيطة بمجرتنا، ثم الكون أجمع بمجراته كلها، ثم الأكوان الموازية.

حتى إن بطل السلسلة نفسه يكتسب مع كل نسخة جديدة في السلسلة لياقة بدنية أعلى، وقدرات جسدية أكبر. السيارات كذلك يتم ترقية موديلاتها في النسخ التالية عن النسخ السابقة: من مرسيدس وكاديلاك في الجزء الأول، إلى بورش وفيراري في الجزء الثاني من (أولاد مشاغبون) Bad Boys، على سبيل المثال.

◄ الإفراط التقني والبصري

نجد الأدلة والقرائن متظاهرة على تأييد الفرض الذي افترضناه من أن السمات البصرية لسينما هوليوود الآن تضاهي كل المضاهاة التقاليد التلفزيونية لا السينمائية؛ وبخاصة الإعلانات التجارية، والأغاني المصورة.

كان رأس المال في هوليوود قد فتح ذراعيه منذ بداية التسعينيات لعدد كبير من مخرجي الإعلانات والأغاني، ليصبح هؤلاء هم مخرجي السينما التجارية الشعبية، وأتى هؤلاء ومعهم "جماليات" الإعلان التلفزيوني. من المهم الإشارة هنا إلى أن تلك العملية حدثت منذ تنامي قيم النيولبرالية وليس قبلها، بالرغم من وجود الإعلان التلفزيوني منذ اختراع التلفزيون نفسه.

إن ما حدث للإعلان التلفزيوني في عصر النيولبرالية هو أنه تحول من وسيلة إلى غاية في حد ذاته؛ من أداه لتسويق السلعة إلى سلعة في حد ذاته. خلق الإعلان الطلب عليه لدى شرائح كبيرة من الجمهور الذي أبهرته الإعلانات الاستهلاكية بإفراطها البصري والحسي، فأصبح يتابعها لذاتها لا بوصفها وسيلة لتسويق سلعة، حتى صار أهل الفرجة على دراية بأسماء مخرجي الإعلانات، الذين أصبحوا بدورهم نجوماً. يصلح المخرج مايكل باي نموذجاً عندما نتحدث عن الأولاد المشاغبين الذين صَعَّدهم رأس المال في هوليوود لينتقلوا من مجال الإعلانات والأغاني المصورة إلى إخراج الأفلام التجارية. إن اللغة الأم لصانع الفيلم الشعبي اليوم ليست السينما وإنما الإعلان التلفزيوني، ووسائله في الصنعة هي وسائل الإعلان.

من ضمن ما فرضه طائفة أولاد الإعلان هؤلاء على السينما، من الناحية البصرية؛ هو الإفراط في درجة تشبع الألوان في الصورة Saturation، وهو تقليد مستورد من الإعلانات وأغاني الفيديو كليب، وفيه تصبح الصورة على درجة عالية من التشبع في صفاء اللون: في الملابس، والإكسسوارات، والديكور، والإضاءة، بل وحتى لون بشرة الممثلين. كان الأمر قد بدأ أولاً في مجال الإعلانات بمحاولة المخرجين الاستفادة من أحدث صيحات التكنولوجيا الرقمية، وعندما انتقلوا إلى السينما نقلوا معهم تلك الخبرة، لابوصفها وسيلة بصرية لغرض أو هدف درامي، ولكن كمجرد بهرجة بصرية تدغدغ دهشة المُشاهد. إن أسر دهشة المتفرج هو الهدف الوحيد الذي يؤمن به مخرجو الإعلان التجاري الحديث، بل وأكثر حتى من هدف تسويق السلعة التي يصنعون الإعلان لترويجها.

إن تشبع الألوان في الصورة في السينما التجارية اليوم يستمر من مشهد إلى آخر، بغض النظر عن مكان التصوير إن كان داخلياً أو خارجياً، وبغض النظر عن توقيت التصوير إن كان في النهار أم في الليل، للدرجة التي لا نستطيع معها التفرقة في أحيان كثيرة ما بين لقطات الداخلي والخارجي التي نراها أمامنا بسبب درجة التشبع العالية في الصورة في كلتيهما. الصورة في الفيلم الشعبي تكره المنطق والحصافة والنقاوة.

ونحن هنا لسنا بإزاء الحديث عن أسلوب خاص بمخرج واحد مثلاً، كاستخدامات ستانلي كوبريك للأحمر والأبيض في أفلامه، أو لون الدماء لدى تارانتينو، أو حتى أسلوب خاص بجماعة من المخرجين، مثل مخرجي الدوجما، الذين يصرون على الفقر البصري، والكاميرا المهزوزة في أفلامهم، نتيجة إيمانهم بأسلوب بصري بعينه نابع عن رؤية أصيلة خاصة بهم. لا، إن الأمر لا يتعدى في حالة مخرجي الأفلام الشعبية الإفراط في استخدام المؤثرات الرقمية لدغدغة دهشة المتفرج ليس إلا.

هناك دليل آخر أقطع في الدلالة على أن الإيغال في الإفراط هو دأبهم وديدنهم: الإفراط في حركة الكاميرا، ليس في مشاهد الأكشن فقط، بل في عموم الفيلم الذي لا تتوقف فيه الكاميرا عن الحركة، فهناك حركة دائمة للكاميرا بلا هدف سوى استعراض التقنية والإمكانيات الرقمية، مع كثير من اللقطات المتطرفة في زواياها شديدة الانخفاض أو الارتفاع، ووضع الكاميرا في أماكن شاذة، والتصوير بلا لزوم من الهليكوبتر Areil Shots.

إن الدروس التي نتعلمها من المخرجين الكبار بلزوم أن تكون الكاميرا درامية، وأن يحدد المخرج وضع الكاميرا، وارتفاعها، ويختار زاوية التصوير، وحجم اللقطة، بناءً على الضرورة الدرامية، يتجاهلها اليوم صناع الأفلام الشعبية ويلقونها في النفايات، ولذا يحق لنا أن نُعيّرهم بهذا؛ لأنهم إنما نشأوا على مشاهدة الأفلام العظيمة لسادات الدراما. قال الشاعر: كمبتاعٍ ليركبه حماراً ... تخيَّره عن الفرس الكبير

حركة الكاميرا الدائمة تجعل الكاميرا محسوسة ملموسة حاضرة في وعي المتفرج، وطالما كان شاغل كبار المخرجين إخفاءها وتمويهها عن الوعي. وعلينا القول بإن الحركة المفرطة للكاميرا وحضورها في وعي المتفرج، لا يكون لسبب أو ضرورة درامية؛ فهي لا تستخدم كسارد صريح أو راو يكشف عن نفسه، ولكن لأنها تستقطب انتباه المتفرج وتلهيه عن الحدث الدرامي؛ إنها نفس حركة الأرجوحة في الملاهي التي تلهي الأطفال عما حولهم.

في مشهد اقتحام الشرطيين لوكر تجار المخدرات في (أولاد مشاغبون، 2)، تدور الكاميرا في دائرة كاملة 360 درجة، ليس دورة واحدة، وإنما خمس دورات كاملة، أثناء تبادل إطلاق النار بين الشرطيين وأفراد العصابة. تخترق الكاميرا المبرمجة بالكمبيوتر الحوائط الفاصلة بين الشرطة والمجرمين، وتخترق الأثاث والإكسسوار، كاسرة كل الحواجز والحوائط لتستقطب الانتباه أكثر من الحدث الدرامي نفسه. إن التقنية هنا هي البطل وليست الحبكة، بل إن التقنية تشتت الانتباه عن الحبكة: يخرج الحدث الدرامي من مجال تركيز المُشاهد ويحل محله الانبهار بمسار حركة الكاميرا؛ آخر صيحات التكنولوجيا الرقمية.

ضوء الساري

المثل المتقدم هو حالة باتت تتكرر كثيراً لا يستخدم فيها السينمائي أدوات عمله بل أدوات عمله هي التي تستخدمه. إن الفن هنا يصبح زائداً عن الحاجة؛ حيث يحدد صانع الفيلم موضوعاته المفضلة وفقاً لأحدث الابتكارات في مجال التقنيات الرقمية.

قام فالتر بنيامين ذات مرة بتعريف الجمال بأنه: "ما يظل وفياً لطبيعته الجوهرية عندما تُحجب عنه الجوانب التقنية التي ساهمت في صنعه". بهذا التعريف نستبعد كل الأفلام الشعبية التجارية من الطيف الواسع للنطاق الجمالي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها