الأراجوز.. لسان حال الشعب بين الماضي والحاضر

أسامة الفرماوي


تُعَدُ شخصية الأراجوز أحد أهم الشخصيات الشعبية التي ابتكرها العقل الجمعي للمجتمع المصري، للتعبير عن رفض الجماعة الشعبية لبعض الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها، التي صادفته؛ فصار الأراجوز لسان حال الشعب؛ رغم مَكْرِهِ الشديد وسلاطة لسانهِ، ليُعَبِرَ عن أفكار أفراد المجتمع الحقيقية وعن مشاعره وميوله واتجاهاته، مُنتَقداً كافة الأوضاع المُتَرَدِيَّة في جميع مناحي الحياة، في إطارٍ سَاخِرٍ استجابةً لِمَا ترسخ في الضمير الجمعي من رفض القهر والإهانة.
 

ولفن الأراجوز عُمق تاريخي يمتد إلى العصر الفرعوني، وكان القائم بهذا الفن يسمى (أرجوس)، وهي تعني: الذي يصنع كلاماً معيناً للتنبيه إلى أوضاع تضرر منها الناس، وقد تم اشتقاق اسم "الأراجوز" منها في العصر العثماني "قراقوز، وأراجوز"، ويطلق عليه أيضاً "قرا كوز، وقراقوش".

والأراجوز كلمة تُركية من شِقَين: "قَره" و"قوز"، وتعنيان معاً "العين السوداء"، التي تنظر إلى الأشياء وتحللها من خلال منظور أسود، مُنتقداً في ذلك السلوكيات المُشينة، التي تُخالف عادات وتقاليد ومعتقدات وقيم الجماعة الشعبية، التي حافظت على استقرار تلك الجماعة جيلاً بعد جيلٍ.

والأراجوز هو أحد أشكال العرائس التي ابتكرها العقل الجمعي ليُعَبِرَ به ومن خلاله عن أوضاع يرفضها هذا المجتمع، وهو عبارة عن عروسة يتم تصنيعها من الخشب والقماش؛ فجسمه اسطواني الشكل من الخشب وملابسه حمراء اللون، قد تكون مطرزة باللون الأصفر، ورأسه تم تصميمها في البداية على شكل جندي مملوكي أو عثماني "عريض القفا" ليتلقى صفعات الشعب، ويتم تغطية الرأس بطرطور أحمر اللون وهو أحد أهم معالم شخصية الأراجوز.
 

وأرى أن ملابس الأراجوز الحمراء، وطرطوره الأحمر هو نوع من الاحتجاج الشعبي، أو "كارت أحمر" ابتكره العقل الجمعي، إشارة إلى رفض تلك التجاوزات التي تخالف قيم وعادات وتقاليد الجماعة الشعبية.

ويعتمد عرض الأراجوز في الغالب على لاعب واحد، قد يساعده أحد المتدربين الصغار لاكتساب مهارات لاعب الأراجوز الأساسي، ويحرك اللاعب يد الأراجوز بإصبعيه الإبهام والوسطى، بينما تحرك السبابة رأس الأراجوز وقت الحاجة إلى ذلك.

وتُعَدُ "الأمانة" التي يضعها لاعب الأراجوز في فمه أحد أهم أدوات اللاعب أثناء العرض، وهي عامل جذب هام جداً للكبار والصغار؛ للتعبير عن نقد السلوكيات الخاطئة، التي رفضها أفراد المجتمع بصوت/ بنغمة وجدت استجابة لدى جميع الأفراد؛ فهو صوت الحق، الذي تبناهُ الضمير الجمعي. وقد كانت تلك "الأمانة" تُصنع في البداية من النحاس، وقد تَمَّ استبدالها فيما بعد بنوع من "الاستنانلس"، الذي لا يصدأ؛ حرصاً على صحة لاعب الأراجوز، وتعد العصا والبطانية من الأدوات المساعدة للاعب الأراجوز أيضاً.

وتتنوع شخصيات "نِمرة الأراجوز"؛ فهناك: الزوج، والزوجة، وشيخ البلد، والعمدة، والفتوة، والشاويش، وعثمان وزوجته نفوسه... لتصل إلى حوالي 48 شخصيةً ابتكرها الفنان الشعبي؛ ليعبر بها ومن خلالها عما يريد قوله أثناء العرض، الذي يقام في موالد الأولياء، أو في أماكن التجمعات الإنسانية.

ومما لا شك فيه أن هذا الفن يُعَدُ أحد أشكال المقاومة الشعبية، التي ابتكرها الفنان الشعبي؛ ليعبر بها ومن خلالها عن رفضه لما يُخالف معايير الجماعة الشعبية، التي حافظت على استقرارها جيلاً بعد جيل؛ فالأراجوز بهذا المعنى أحد أذرُع الثقافة، التي تبناها المجتمع للتعبير عن الرفض الجماعي لكل ما يتعارض مع قيمه ومعتقداته وعادات وتقاليده.

ولأهمية هذا اللون من الفنون؛ فقد التقطه الفنان المحبوب "محمود شكوكو" بحسِّهِ الشعبي ليعبر به عن أهمية الحفاظ على قيم ومعايير الجماعة الشعبية؛ ولهذا فقد أسس مسرحه الشعبي للعرائس عام 1960م برفقة الأراجوز طبعاً؛ منتقداً خلال رحلته الفنية الأوضاع الاجتماعية، والاقتصادية والسياسية، وكُل ما يخالف قيم وعادات المجتمع الذي نشأ وتربى فيه.

ومما لا شك فيه أننا في حاجة ماسة الآن إلى إعادة إحياء هذا اللون الفني لبَثِّ هذه المبادئ والقيم، وتعديل السلوكيات السلبية؛ والتأكيد على أهمية "روح الجماعة" في مواجهة المشاكل والأزمات التي تواجهنا.

وللوصول إلى هذه النتائج المَرْجُوَّة لا بُدَ من التركيز على النشء، وتوسيع قاعدة اللاعبين المؤهلين للقيام بهذا الدور، والعمل على تدريب كوادر جديدة من اللاعبين وتدريبهم للقيام بهذا الدور الحيوي. وفي هذا الإطار هناك توجه بنشر هذا اللون الفني بين القواعد الجماهيرية في مراكز الشباب، وفي قصور وبيوت الثقافة المنتشرة في ربوع مصر، وهناك نماذج متعددة تقوم بهذا الدور؛ فهناك د/ نهلة قطب حبيب باحثة دكتوراة في مجال تنمية المهارات الإبداعية لدى الأطفال وهي موجودة في بيت ثقافة قويسنا، ويؤدي هذا الدور أيضاً كلاً من الفنان: محمد زغلول، والفنان: يوسف النقيب في قصر ثقافة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، ولكن يجب التوسع في نشر هذا اللون الفني في قرى وجميع المحافظات، وكذلك في "حضانات الأطفال" للوصول إلى القاعدة العريضة من النشء لتحقيق الهدف المنشود.

ومن كل ما سبق أستطيع أن أقول: إن فن الأراجوز يُعَدُ أحد وسائل التواصل الاجتماعي، التي لجأ إليها العقل الجمعي لرفض الممارسات الخاطئة، ونقد الأوضاع التي تتنافى مع قيم وعادات ومعايير ارتضاها العقل الجمعي إطاراً حاكماً، حافظ من خلالها على استقرار واستمرار هذا المجتمع جيلاً بعد جيل؛ فالأراجوز في النهاية يجسد حكمة المجتمع، ويحاول الحفاظ على ثوابت استقر عليها الناس في إطار سَاخِرٍ نال حُب وتقدير أفراد المجتمع.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها