دقات.. على النحاس

د. أحمد زياد مصطفى مُحَبـِّك


دقّ، دقّ، دقّ، ما تزال دقات مطارق النحاسين على النحاس الأصفر ترنّ في خلايا جسمي كله، ما أزال أسمعها، كأنها ضربات قلبي، كـأني لم أغادر سوق النحاسين، كأنني ما أزال فيه.

***

أربع ساعات وأنا أنتظر وصول طائرتها، تأخرت في الإقلاع، إلى جانبي على المقعد في قاعة الانتظار باقة زهر، وحقيبة جلدية صغيرة فيها رسائلها، خمس سنوات والرسائل الورقية فيما بيننا تتوارد، ولم تنقطع.

واليوم أنا أنتظر لقاءها، يخرج القادمون من بوابة الوصول، مثل مولود يطل على الحياة، عناق وقُبَلٌ وأزاهير ودموع وزغاريد، عربات مثقلة بالحقائب، وصلت طائرتها، لكن، حتى من بوابة القادمين تأخر ظهورها، كيف سأعرفها؟ طوال خمس سنوات لم نتبادل الصور، بالحب عشنا الكلمات، عشنا الحب كله، ومع ذلك لا أعرف: هل سأعرفها فور ظهورها؟ ها هي ذي تشير إليَّ، رافعة بيدها حقيبة جلدية صغيرة، كأنها حقيبتي، تلوح لي بها، وفي يدها الأخرى باقة زهر، ليس معها أي حقيبة، كنا اتفقنا إذا التقينا أن نتبادل رسائلنا، أعيد إليها رسائلها، وتعيد إليّ رسائلي، لم نعد بحاجة إلى الرسائل، هي نفسها، يا إلهي، ما أجملها، تنورة زرقاء، وقميص أبيض رقيق ناعم، ومنديل حريري أصفر يلتف حول العنق، في ربطة صغيرة كالفراشة، وشعر أشقر طويل يتطاير.

أعانقها، أشدها من خصرها إليَّ، ترمي يديها حول عنقي، نهداها يدخلان في صدري، أحس فيهما الدفء والنعومة، وجهها في وجهي، أدخل في عينيها، أرفعها إلى أعلى، أدور بها في حلقات، أستقبل أنفاسها العطرة، ترفع قدميها، تحلِّق، أحس بتنورتها تتطاير، ضحكتها تملأ الكون.

وتنطلق بنا سيارة الأجرة، وأنا وهي في المقعد الخلفي، ملتصقان ببعض، النوافذ مفتوحة، شعرها يتطاير، فتحة القميص تتسع، الهواء ينعشنا، الأشجار والحقول تتراجع بسرعة والسيارة منطلقة، كأنها تريد مثلنا أن تسبق الزمن، تريد تعويض خمس سنوات من الانتظار، الأشجار والحقول وأزاهير الربيع تمضي إلى الخلف بسرعة، تتداخل الألوان وتتمازج، حمرة شقائق النعمان وصفرة النراجس وخضرة الزروع والأشجار، ألوان يتداخل بعضها في بعض مثل ختام سيمفونية، كل الآلات تعزف، تتَّحد الأنغام في لحن الختام، ختام بُعْدِنا، بداية لقائنا.

صباح فخري يصدح بصوته المُعَطَّر بتاريخ الجدود:
درب حلب ومشيته كله شجر زيتوني

سقف السيارة يطير، ونحن نطير، نحلق في الفضاء، أراها في ثوب الزفاف الأبيض، أمسك يدها، نحلّق معًا، والسيارة تحتنا تنطلق، ونحن ما نزال فوقها، أضمها إليَّ، أقبِّلها، نحن في عرس سماوي، الناس على الرصيفين ينظرون إلينا مبتهجين، نرمي إليهم باقة الزهر، ونهبط إلى مقعدنا في السيارة.

نجتاز الشوارع والأرصفة والعمارات وإشارات المرور، هل هذه هي مدينتي؟ كأنني أدخلها أول مرة، حتى الوجوه التي كانت بالنسبة إليَّ مألوفة أراها جديدة، هل هذه هي حقاً مدينتي، كأنني أدخلها أول مرة، الوجوه يعلوها الفرح، فيها نضارة وحياة، الناس طيبون، يضحكون، يشيرون إلينا مرحبين، حتى شرطي المرور يشير إلينا، يسمح لنا بتجاوز الإشارة، وهو يلقي علينا تحيته، وبسمة مشرقة تملأ وجهه.

مطعم فخم يحتوينا، مقاعد من الأبنوس العريق مطعمة بالعاج، ومناضد خشبية واسعة، وأضواء خافتة، ونحن وحدنا، الخدم كانوا بانتظارنا، وتصطف الأطباق على المائدة، كأنها جزر اليابان وأندنوسيا، مدير المطعم يقدم لنا بنفسه الطبق المشتهى: الكباب الحلبي، كأنني أتذوقه أول مرة، حقيقة، هو جديد مختلف، متميز، كأنني ولدت اليوم.

وصباح فخري يشدو لنا أيضًا:
خمرةَ الحب اسقنيها
عيشةٌ لا حب فيها
جدولٌ لا ماء فيه

هذا هو المطعم الذي كنت أرتاده مع أبي نواس، وعمر الخيام، ينضم إلينا ابن خفاجة قادمًا من الأندلس، يصحبه زرياب، يعزف أجمل الألحان، ونرشف معًا خمرة لم تعتصر، في كؤوس من عسجد، وينضم إلينا عدد من الندامى: أحمد شوقي، ومحمد عبد الوهاب، وأحمد رامي، وبليغ حمدي، نتناشد الأشعار، اليوم أنتِ وحدك نديمي، لا أبغي سواك من أحد، لا الصديق ولا النديم ولا الخلان، أنت وحدك الكل في الكل.

ويمتلئ المطعم بالرُّوَّاد، كأنهم قادمون لأجلنا، كأنهم مدعوون، جاؤوا في كامل زينتهم، كأنهم جاؤوا إلى حفل زفاف، كم هم كرماء وسمحاء ومتألقون، وجوه نضرة، فيها حيوية وشباب.

ألتفت إليها كأنني أسألها، تقول: "لا أجد غير كلمة أحبك، وهي وحدها لا تكفي".

أهمس لها: "وأنا لا أجد غير كلمة أحبك، وهي وحدها لا تكفي".

نحن الذين ملأنا مئات الرسائل طوال خمس سنوات بالكلام، لا أعرف كيف يضيع منا الآن الكلام، الكون كله يحتفي بنا، كأننا في مهرجان.

يقول لي صاحب المطعم: "أنتم ضيفي، بحضوركم حلَّت البركة".

ويأبى أن يأخذ ثمن ما تناولنا من طعام، أفكُّ من زناري كيس دنانير ذهبية، نفحني إياه هارون الرشيد، مقابل كتاب في النحو كنت أهديته إياه، أناول كيس الدنانير إلى النادل الذي قدم لنا أجمل الخدمات، يفتح الكيس وينثر الدنانير الذهبية على الخُدَّام والطباخين.

نمضي إلى حديقة واسعة جميلة، تتوسط المدينة، نقعد إلى حافة بركة، تظلِّلنا شجرة توت كبيرة، تمتد أغصانها في فضاء رحب، تتوسط البركة نافورة، الماء يتقافز منها إلى أعلى، وفي ذُرَاه يتألق شعاع الشمس، فيرسم قوس قزح، تطوف فوق مياه البركة إوزّات بيض، بأعناق طويلة، نصنع من رسائلنا زوارق صغيرة، نرسلها في مياه البركة، فتمشي الهوينا، كأنها تسافر إلى المستحيل، وسرعان ما نحمل الرسائل كلها، ونطيرها فوق البركة، فإذا هي حمامات بيض تحلق، وتطير، تملأ فضاء الحديقة.

نغادر الحديقة، فإذا نحن أمام ساعة باب الفرج، ترفع رأسها إلى البرج، جيدها اللؤلؤي يتألق، عقارب الساعة تتوقف عن الدوران، قد تكون ساعة بيك بن أروع، وقد يكون برج إيفل أعلى، وقد يكون برج القاهرة أجمل، ولكن ساعة باب الفرج الآن، هي عندي الأحبُّ إلى قلبي، والأجمل؛ لأنك أنت معي، لا أفكر في الدخول في تمثال الحرية، والإطلال من نافذة في التاج على القارات، أنت الحرية الحق، في عينيك أرى العالم كله.

نصل إلى باب النصر، نتأمل الباب الحديدي العملاق، المطرز بمسامير حديدية ضخمة كأنها دُقَّتْ في جدار الزمن، أنت النصر، وأنت البهاء.

تقف، تصغي، تقول لي: "اسمع"، وأصغي، تهتف، بمرح: "هذه ضربات مطارق النحاسين على النحاس، هل السوق قريب؟ أرجوك، خذني إلى السوق".

أقف، أتردَّد، تقول: "روتْ لي جدتي أن جدي الأول نور الدين كان نحّاسًا، مِن أمهر النحاسين في فاس، كان شيخ النحاسين، وقد غادر فاس قبل ألف عام إلى حلب، ليتعلَّم أفانين الطرق على النحاس، وفي حلب، أحب صبية، وتزوجها، وأقام معها في حلب، ولم يرجع، أمي سمَّتْني باسمها".

يتناهى إلى سمعي دقات النحاسين، أتردَّد، يغتلي في داخلي قلق، لا أعرف سره.

تُفْلِتُ يدي، تعبر الشارع، تسبقني، تتبع مصدر الصوت.

ندخل سوق النحاسين، دقات المطارق على الصحون والأواني النحاسية تملأ الآفاق، كم كنت أتجنب عبور السوق، كم كنت أكرهها، تصم الآذان، هي الآن ناعمة طرية عذبة، كأنها دغدغات أصابعي في راحة يدها، أقف، وهي بجانبي، أتأمل رجلًا عجوزًا شائخًا، وهو ينقش الورود والأزاهير والأهلة والأقمار والشموس في صينية كبيرة صفراء تتألق، يدير الصينية بين يديه، كأنه يدير الأفلاك والكواكب والنجوم.

وألتفت، لا أراها، أمضي إلى آخر السوق، أرجع إلى أوله، أروح، أجيء، أظل إلى المساء، بين رواح ومجيء، أدخل كل المحلات، عيناي ينالهما الإعشاء من التماع النحاس الأصفر، دقات النحاسين تسدُّ صمَّامات قلبي، أسأل عنها، أسأل عن جدٍّ كان قد جاء إلى حلب من فاس قبل ألف عام، تتزايد الدقات، تعلو الأصداء، تملأ الفضاء، لا أسمع أي جواب.

لا تسألوني عن اسمها، كان اسمها: "ضياء".

***


بعد مئة سنة، أو يزيد، كنت أتجوَّل في سوق الأثريات، لفت نظري صحن نحاسي أصفر عتيق، حملتُه، وإذا فيه نقش صورة لامرأة، تشبهها، كأنها هي، بل هي، تفرست في النقش، في عنق المرأة سلسلة، في نهايتها حروف، تحمل اسم: "ضياء".

في أسفل الصحن، نقش: "نور الدين الفاسي - حلب".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها