ابن عمّار "رجل الجزيرة" الذي قتله طموحه وشعره

علاء محمد زريفة

ساهمت الفوضى السياسية والانقسام الذي ساد الأندلس عقب انهيار الخلافة الأموية، ونشوء ما يسميه المؤرخون اصطلاحاً عصر (ملوك الطوائف)، ما فتح باب التنافس السياسي والتوسع العسكري. وبالتالي، ظهور شخصيات يمكن اعتبارها مرآة عصرها، أبرزها على الإطلاق ذو الوزارتين أبو بكر ابن عمار الذي يعتبر المثال الحي لرجل "الغاية التي تبرر الوسيلة"، الأمر الذي أدى إلى بروز شخصيته "الميكيافيلية" التي تتسم بالدهاء، وسعة الحيلة، والطموح الشديد المقترن بالحقد تجاه نشأته المتواضعة، والذي أوقعه "حظه السعيد" في قصر المعتمد المحب للأدب والشعر فأحسن صحبته، بينما كان يرى ابن عمار في هذه الصداقة طريقه إلى السلطان. ولو أن المعتمد كانت له طباع والده المعتضد المعروف ببطشه وعنفه، لما بلغ ابن عمار ما بلغه. 

 

شاعرٌ يقود حماراً:

ولد أبو بكر محمد بن الحسين ابن عمار الفهري القضاعي في قرية "بشينوش" في مدينة شلب، وهي "سيلفش" التي تقع في جنوب البرتغال حالياً، لأسرة فقيرة تدعي أن أصولها تعود إلى اليمن. إلا أن ذلك لم يمنعه أن يتمتع بـ"ذكاء مفرط وطموح بعيد وثقافة واسعة واختبار كثير، غير أنه كان قليل المبالاة بالعرف والمثل العليا في سبيل الوصول لغاياته". كما يقول عمر فروخ في تاريخ الأدب العربي.

وقد حفل العصر الذي وجد فيه ابن عمار حيث انتهت إلى هوة سحيقة من الانحطاط السياسي، بحصاد ثقافي عظيم. فقاده حظه إلى إشبيلية في بلاط المعتضد أقوى ملوك الطوائف حينها، وألقى على مسامعه قصيدة يحتفي فيها بانتصاره على البربر وضمه لبطليوس، بعد هزيمته لصاحبها ابن الأفطس سنة 1053م، يقول في مطلعها:
أدِرِ الزُّجاجَةَ فالنّسيم قـد انـبـرَى
والنجمُ قد صَرف العنَان عن السُّرَى

وعندما خرج من عنده وجد حماره مسروقاً دون أن يعلم رأي المعتضد بشعره، فجعل يندب حظه فقفل راجعاً للقصر خائب الرجاء، وأخبره الخدم في البلاط أن الملك قد أوقف له مكافأة كبرى وضمه لشعراء البلاط، وعلى إثر ذلك توثقت العلاقة بين ابن عمار والمعتمد.

صداقته للأمير:

يذهب عبد الواحد المراكشي في كتابه (المعجب)، إلى أن أول لقاء لهما كان في شلب، وأنهما تصادقا حيث استغل ابن عمار شغف الأمير بالشعر والنساء واللهو. فما كان من الأمير إلا أن قدمه لوالده في إشبيلية حيث ألقى على أسماع الملك رائيته الشهيرة.

ويتابع عبد الواحد في وصف حال الصديقين الحميمين قائلاً: (إنهما كانا صيقين لا يفترقان ليلاً ولا نهاراً، ويتشاركان السهر والأنس والشراب). وفي إحدى الليالي قال له المعتمد: (لتضعن رأسك ورأسي على وساد واحد). وعندما ناما خطر لابن عمار أن المعتمد يريد قتله، فقرر أن يفر من عنده وراح يختبئ، حيث فكر بجواز البحر إلى المغرب.

وعندما استيقظ الأمير لم يجده سعى باحثاً عنه مستغرباً حتى وجده ملفوفاً بالحصير في أحد دهاليز القصر فسأله عن الأمر، فحكى ابن عمار قصته، فضحك الأمير وخفف من روعه قائلاً: (وكيف أقتلك؟ أرأيت أحداً يقتل نفسه؟ وهل أنت عندي إلا كنفسي)؟

رجل الجزيرة:

في كتابه نفح الطيب يذكر المقري أن ألفونسو ضرب حصاراً على إشبيلية، ولم يكن للمعتمد طاقة مواجهته، فاعتمد ابن عمار الحيلة وكان لاعباً للشطرنج، فصنع رقعة نادرة المثال، ووجه رسولاً للملك يطلب المفاوضة، واشترى ذمم وزراء الملك طالباً مساعدتهم لكي ينقلوا خبر الرقعة له وكان يعرف شغف ألفونسو باللعبة.

وفي اللقاء الثاني "سأله الملك: كيف أنت في الشطرنج، فأجابه: أن أصحابه يقولون إنه يجيد اللعب، ثم سأله عن الرقعة طالباً رؤيتها فقال ابن عمار: أنا أتيك بها فألعب، فإن غلبتني فهي لك، وإن غلبتك فلي حكمي، فقال الملك: أحضرها لننظرها".

وبعد أن أقنع ابن عمار المقربين من الملك الذي انزعج من شرط ابن عمار، فلعبا وغلبه ابن عمار بحيلة واضحة لا لبس فيها عندها سأله ابن عمار: "هل تعطيني حكمي؟ فقال الملك: نعم، وكان حكمه أن يرجع الملك وجنده عن المدينة، هنا شحب وجه الملك وقرر التراجع قائلاً: لا يمكن أن يصبح الهذر جدّاً، فأجابه ابن عمار: هذر الملوك جدّ يا مولاي". وسعى ابن عمار إلى إغراء جند الملك بالمال، الذين كرهوا جو إشبيلية الحار وكثرة الذباب حولهم، ليقولوا له: أنت الملك وكلمتك لا ترجع، فقبل مقابل جزية عامين ووافق ابن عمار. ليحمل لقب "رجل الجزيرة".

طمعه في الملك وفأس المعتمد:

بعد الانتصارات التي حققها وساهم فيها ابن عمار أحس أن طموحه لا يجب أن يقف عند هذا الحد، ورأى أن ما صنعه بدهائه ومواهبه على منبته المغمور، يجعله يتقدم على ملكه المعتمد الذي ورث الحكم وراثة دون جهد كما يقول محمد عنان في تاريخ الإسلام في الأندلس. ثم سنحت الفرصة سنة 471 للهجرة، عندما حاصر بلنسية وأخذها، حيث بدأ يتصرف فيها تصرف الملوك، واستعمل عبيده على الحصون، وأنكر على المعتمد فضله لتبدأ الخلافات بينهما.

يذكر ابن خِلّكان في كتابه وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان: أن ابن عمار لم يكتف بالاستقلال عن ولي نعمته المعتمد، بل أرسل يهجوه وزوجته الرميكية التي طلبها له بنفسه.

ويتابع ذاكراً، أن ابن عمار أرسلها بعد أن وصله هجو المعتمد له وتعريضه بعائلته، فوقعت القصيدة بيد عبد العزيز صاحب بلنسية الذي كان حاقداً على ابن عمار فتوصل بها للمعتمد قاصداً إشعال فتيل الخصومة بينهما. وأتبع ابن عمار قصيدته تلك بأخرى يسخر فيها من سلطة المعتمد قائلاً:
مما يزهدني في أرض أندلـس
أسمـاء معتضـد فيها ومعتـمـد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد

وبعد انتزاع عبد الله بن رشيق سنة 474 هجرية، غادرها ابن عمار نحو سرقسطة يتوعد الأخير، ويحرض أهل مرسية عليه ويقول شعراً:
هيهات يطمع بالنجاة لطالب
ساعٍ إذا دنت الكواكب سارِ
كيف التفلت بالخديعة من يدي
رجل الحقيقة من بني عمارِ

فأرسل ابن رشيق يخبر المعتمد بأمر الشعر، فرد المعتمد ساخراً من نسب ابن عمار وأمه التي كانت تحلب الشياه.

ثم التجأ ابن عمار عند صاحب سرقسطة التي سرعان ما بدأ يوعز للمؤتمن أخذ حصن المبارك الذي علم بالأمر فخدعه وقبض عليه سنة 477، عندها أرسل المعتمد ولده عبد الله الذي أخذه منه بالمال وأرسله للسجن وقضى فيه مدة طويلة. وعاتبه بشدة مذكراً بفضله عليه. ويورد محمد عنان في المرجع السابق أنه رغم محاولات التشفع والأشعار، ومحاولة استجداء المعتمد من حين ليطلق سراحه:

والتي كادت أن تؤتي ثمارها في نفس المعتمد رغم اعتراض زوجته إلا أن خبر مراسلة ابن عمار لألفونسو ونيته الأمر عليه.. كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فنزل المعتمد حيث ابن عمار سجيناً، وهوى عليه بفأس على رأسه فأرداه قتيلاً سنة 479 للهجرة وهو يقول: (أنت شر يموت معك كل الغدر والخديعة)، ثم أمر حراسه بإقامة مراسم جنازة رسمية لم تشهدها إشبيلية للوزير الراحل.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها