الفن المعاصر أصبح أسيراً لسطوة رأس المال وأسواقه

حوار مع الناقد موسى الخميسي

حاوره: خضير الزيدي


ضيفنا فنان وناقد عراقي يقيم في إيطاليا منذ السبعينيات، درس في قسم الرسم والتصميم في مدينتي روما وفلورنسا. تخصص بدراسة تاريخ الفن التشكيلي، وحصل على دبلوم في تاريخ الصحافة في مدينة فلورنسا، وعلى شهادة الماجستير في تاريخ الفن المعاصر من الأكاديمية العربية في الدانمارك. صدرت له العديد من الكتب الفنية كان آخرها العرب وصقلية ملامح الفن والثقافة، كما فاز كتابه التربية الجمالية في الفكر المعاصر بجائزة الشارقة للفن التشكيلي عن طروحاته التنظيرية في الفن نتحاور معه لمعرفة المزيد من طروحاته الجمالية.


 

✦ أتساءل عن أهمية كتابك (التربية الجمالية في الفكر المعاصر) في ظل متغيرات الفنون الإنسانية والذائقة، كالفن المفاهيمي وفن الأداء الجسدي بعد أن أصبح الرسم تقليدياً مقارنة بالفنون البصرية الجديدة؟

التحولات العنيفة في الفن التشكيلي موضوع بحث دائم في هذه المرحلة التاريخية في عموم بلدان الغرب؛ إذ تلاحظ تناول هذه الظاهرة بجديّة. العنف والفوضى والصراعات والقسوة كما الحب والحياة التجريبية، جعلت الفن الحديث يرتبط بمفهوم الحرية، إلى جانب التنكر للواقع والإبقاء على ذاتية الفنان كغاية للتعبير الفني والجمالي. من حيث التقنية، نأى الفن الحديث عن التقنيات التقليدية فاتحاً المجال لظهور قيم تعبيرية جديدة في الشكل والتوليف والتمرد على القواعد والنظم المتوارثة. أما الثيمة، فلم تعد وظيفة الفن في العصر الحديث هي التعبير عن غرض ديني أو أخلاقي، قدر ما حل التجريد محل السرد وتمجيد الأساطير.

✦ هذا يعني أن هناك انفتاحاً على أسلوبية خاصة؟

نعم؛ انفتح الفنانون على حوامل وخامات جديدة ومتنوعة، مكنتهم من الاقتراب من الفن الزماني، والبحث عن صيغ مغايرة لتجاوز الواقع. بفضل ذلك، صار بإمكان الفن الحديث مواكبة التطورات التي شهدها العصر الجديد، في مرحلة حساسة جسدت بداية التحول وظهور إرهاصات جديدة، تنزع نحو المعاصرة ومسايرة النزعات التحديثية التي تزحف في مكان. على ضوء متطلبات المرور ما بعد الحداثة، شهد هذا التحول مراحل عديدة أفرزتها تحولات غير مسبوقة في أوروبا شملت الميادين السياسية والاقتصادية والاجتماعية، جعلت الفن يتجاوز التعبيرات المتوارثة عن العصور السابقة، مروراً بهدم الموضوع وإدماج الفضاء والجسد في العملية الإبداعية، وظهور قيم جمالية جديدة قائمة على الصدمة والاحتفالية والاستعراض، بعد أن ظل الفن الحديث يشكل فن النخبة بامتياز، وفيّاً للنظم والقواعد التقليدية في الرسم والتصوير والنحت، وربط الفنان بالمتلقي مع الارتكاز على المسرودات، التي تبرِّر وجود الفن وتدافع عن مشروعيته، أضحى هذا الأخير تفاعليّاً متصلاً بالجماهير وربط منتج الفن بالمستهلك، وتذويب الفوارق بين الاتجاهات الفنية وردمها. من ثم صار الفن المعاصر أسيراً لسطوة رأس المال وأسواقه، التي فرضت واقعاً وسلطة جديدة في الفن.

✦ طرحت في كتابك (التربية الجمالية في الفكر المعاصر) آراء تؤكد فيها على استثمار التربية لدى الناشئة واليافعين، هل هذه التصورات عامة أم هي لمجتمع معين؟

العملية التربوية لأي بلد في العالم، هي ثنائية مرتبطة ارتباطاً مصيرياً متفاعلاً، رهيناً بجودة المنهج وقوة وجودة التطبيقات. يجري الحديث من باب التسلسل المنهجي لتحليل هذه الظاهرة، إلى الجدل بين المنهج وتطبيقاته اللذين يمكن اعتبارهما متلازمين ومتفاوتين بتراتبية تجعل من المنهج التدريسي أصلاً، مبرراً لوجود التطبيقات التي تتبناها، المؤسسة التربوية المسؤولة عن دور الحضانة، والمدارس، والمعاهد، والجامعات، إضافة إلى مؤسسة العائلة. فلا بد أن يكون المنهج مستوعباً للأهداف، ويستطيع غربلة الاتجاهات التربوية، وتصنيفها تصنيفاً منطقياً يتساير مع الحداثة والمتغيرات التي تحدثها التكنولوجيا في حياة الشعوب، ويرتكز على الآليات التي اتبعتها في البحث المستمد من المناهج التقنية والجمالية والفلسفية، ومحورها الإلمام الشامل لتاريخ الفنون في كل بلد.

✦ هل ثمة رهان في هذا الأمر؟

الرهان، هو رهان التأسيس، ولا ننفي من إطار هذا الوضع السائد العديد من بلداننا العربية والعراق نموذجاً. في هذه المرحلة الحرجة من تاريخه السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يعيشه، حيث يتم بإصرار على إغفال الجانب الثقافي ومحاولة بسط الهيمنة الدينية كمنهجية خاصة وملزمة للاحتواء والهيمنة. المتتبع للشأن الثقافي والفني في العراق اليوم، يلاحظ كيف تلعب القوى السلفية المتخلفة دور الموجّه والمؤطر أي تجربة تربوية متقدمة، إيطاليا ذات الإرث الفني والحضاري الذي يشكل 40 في المائة من إرث الإنسانية، حال خروجها منكسرة وفقيرة وبائسة من الحرب العالمية الثانية وسقوط الفاشية، سارعت لبناء مناهج بديلة تمجد الإنسان ودوره في بناء حياة حرة سعيدة. ونجحت بتوجهاتها وتعممت تجربتها التربوية في عموم بلدان أوروبا.

✦ حسناً بودي أن أطرح عليك تساؤلاً عن أهمية جائزة الشارقة للبحث النقدي وكيف تلقيت خبر فوزك؟

تدرك الجهات المشرفة في إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، بأن القيام برعاية ومساندة كل الإشعاعات والإضاءات الثقافية والفنية العربية، وصيانتها وتخليدها والحفاظ عليها وسط كل حرائق الإرهاب والتخلف والسلفية التي تسود أوطاننا العربية في هذه المرحلة التاريخية الحرجة، هو واجب تقوم به من خلال إعلاناتها التشجيعية لكل مظاهر الإبداع، فهي ترصد الجوائز والمكافآت وتقيم المهرجانات وتطبع الكتب وتقيم المعارض الفنية ...إلخ، ليكون ما تعتبره واجباً قومياً وإنسانياً لتقدير الثقافة والفنون وتقديس الجمال والإبداع؛ كي ينتصر وحده وتخسر الحروب وقادتها. جائزة الشارقة للبحث الفني النقدي التشكيلي هي واحدة من عشرات الجوائز السنوية، هدفها إلقاء الضوء على بعض النتاجات المبدعة والمتميزة في مضمار النقد الفني التشكيلي، والحفاظ على الموروثات الخالدة والسمات الجمالية في الأدب والفنّ، وكل ما يمتّ إلى الأعمال الإبداعية، لتكون في المقدمة.

✦ تنبه القارئ لكتابك لوجود أكثر من اثني عشر تعريفاً حيال مفهوم الجمال إلا أنك تهتم بما ذهب إليه هربرت ريد بتعريف الجمال السؤال ما المختلف في التعاريف الأخرى لمضمون الجمال؟

لم تفقد مسائل علم الجمال أهميتها النظرية والعملية في ظل الاحتدامات والتغيرات الكبيرة التي يعيشها عالمنا اليوم، ويقوم عدد كبير من المنظرين والفلاسفة ومؤرخي الفن ونقاده بمجهودات كبيرة، وفي كل مكان لدراسة الأفكار الجمالية الموروثة من الماضي للوصول إلى الحاضر. دراسات تتصف بالتشوق والموضوعية، لما اشتملت عليه من التحليلات المهمة لعدد من المسائل ذات القيمة الجمالية. عدد كبير من الدراسات التي اشتملت على تشخيص ظاهرة الجمال وعدم انفصالها عن العملية التاريخية المتكاملة، تحليل الحياة الاجتماعية والظهور باستنتاجات موضوعية حول هذه الظاهرة التي أخضعت لذلك التحليل، على اعتبار أن تاريخ الأفكار الجمالية عبر العصور ما هو الا تاريخ ولادة وتطور أو نكوص وارتداد. ولعل آخر وأهم الدراسات المتعلقة بتحليل الأفكار الجمالية والكاشفة عن ارتباطاتها، تلك التي قدمها لنا الكاتب والروائي الإيطالي الراحل أومبيرتو إيكو (1932-2016) في كتابه المهم "تاريخ علم الجمال". فقد قام إيكو بتوضيح ظهور الأفكار والمعتقدات الجمالية في كل فترة زمنية، وقام بتفسير ازدهار وانحطاط العديد منها، ولماذا حلت بعض القيم الجمالية محل غيرها، من خلال توضيح الروابط الداخلية والقوانين المسببة لظهور وازدهار وانحطاط الأفكار الجمالية في تاريخ البشرية المعاصر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها