أطروحة الهايكو العربي

حيدر العبد الله مفكِّكًا شعر ذي الرّمَّة

سفيان البرَّاق


لعلّ الاندهاش قد يُساور كل من تأمّل شعر ذي الرّمَّة لكونه تبنّى لونًا شعريًا خالف السّائد والمتعارف عليه في زمنه؛ وربّما هذا ما جعل الفرزدق وجرير، ومن حذا حذوهما، أنْ يبخّسوا شعره، وينظروا إليه نظرة ازدراء، ومن ثَمّ هل يمكن الزعم أن ذا الرمّة كان سبّاقاً إلى اختلاق شعر "الهايكو" قبل الهاكي الياباني المعروف "باشو" الذي دشّن شعر الهايكو كما نعرفه اليوم؟ ربما نفس هذا السؤال شكّل نواة كِتاب الشاعر السعودي حيدر العبدالله، الحائز على جائزة أمير الشعراء سنة 2015م، والذي كنّاه بـ"مهاكاة ذي الرُّمَّة – أطروحة الهايكو العربي"، الصادر ضمن منشورات دار أدب في طبعته الأولى سنة 2022م.
 

وقد رامَ في كتابه هذا أن يبيّن التقاطع الحاصل بين شعر ذي الرّمة الذي تغنى بالطبيعة، واحتفى بها، وبالغ في تمجيد أحوالها وتقلباتها، ووجد في قسوة الطقس ووعورة الأرض ملاذه، ليشيد تحفًا شعريةً مرصوصةً بعناية؛ كانت ركيزتها اللغة القويمة، والمسبوكة بعبارات ثقيلة وخلّابة، وانضوت على صورٍ شعريّةٍ زاهية تستأثرُ بالمتلقي وتلامسهُ إلى أن بلغ الأمر بابن دحية أن قال عن شعر ذي الرمة: "إنّ شعره يضم ثلث اللّغة" (ص: 37)، وبين مهاكاة باشو الياباني الذي ابتدع جنسًا تعبيريًا، خلال القرن السابع عشر الميلادي، لم يألفه الناس من قبل؛ وأعني: الهايكو. وهذا الأخير هو عبارة عن "نصٍّ شعري متصوف يربط الإنسان بالطبيعة ويُقال في نَفَسٍ واحد" (ص: 79).

 

1. بين مهاكاة ذي الرمة والهايكو الياباني

ينطلق شعر الهايكو من الاحتفاء بالطبيعة كيفما كانت؛ صحراء قاحلة، أو أرضًا مخضرّة تعجُ بالحياة، بل حتى بالبوائق التي قد تضربُ ضرباتها الهوجاء الفاتكة، حيث إنّ الهاكي يحتفل بالطبيعة كيفما كان حالها دون أن يستأثر به الـضجر والتأفف منها. نشأ شعر الهايكو في بيئة حافظت على هويّتها رغم التحولات التي عاشها العالم برمّته جراء العولمة، بيد أنها ذادت عن قيّمها ومبادئها الأصيلة، ولعل هذا ما يتأكد من خلال زيارة الفيسلوف الفرنسي رولان بارت صاحب الكِتاب العاصف "إمبراطورية العلامات" الذي وصف فيه ملامح الحياة اليابانية المعتادة القائمة على دماثة الخلق، ولطافة القول، وظرافة الفعل، وهذا ما دفع بارت إلى القول: "اللطافة ديانة اليابانيين" (ص: 26). إنّ شعر الهايكو لا ينكب على وصف اللحظات الرومانسية الأخاذة، أو ينغمر في نقل المشاعر التي تمور بها نفسُ الإنسان، أو يصور الخراب الذي لحق الحياة بعدما استبدت بها الفوالع، أو يقتنص لحظات العشق الجارف التي تتغلغل بداخل المرء، إنّه يستغني عن كلّ هذه الموضوعات، ويتفادى ذكر بلايا الطبيعة أيضًا كالزلازل مثلًا، ويتجه صوب الطبيعة، ويتأملها بتروٍّ كبير، ويقتنص جمالها أحيانًا، وحينة أخرى لا يُهمل حتى قبحها الذي قد لا يستسيغه أفناء البشر. لعلّ ما جعل حيدر العبد الله يعتبرُ باشو الهاكي الياباني الأعظم، وأوّل من ابتكر هذه التجربة الشعرية الفريدةـ هو اتسام نصوصه ببعض الخواص التي مكنته من تبوّأ منزلةً أسنى في الثقافة اليابانية وفي تاريخ الهايكو، ومن بينها: "اتساع طيف قدراته التعبيرية، واتزان طاقاته الشعرية بين الظرافة، ووصف الحياة الساكنة، والتقاط الصورة الشعرية الحيّة، ولفرط رقته، وصدق تجربته" (ص: 42). أرى أنّ هذه الخواص التي وسمت مهاكاة باشو جميعها في غاية الأهمية، وتشكل إضافة حقيقية إلى منجزه الشّعري المتجدد، لكن الصدق الفني الذي تحلّت به تجربته الشعرية جعلها أكثر تميّزًا ولمعانًا، بوسمه عنصرًا أساسيًا من عناصر نجاح النّص الأدبي؛ حيث إنّ هذا الصدق لا يخفى على القارئ، بل يكاد يلمسهُ منذ بداية قضم الصفحات الأولى بحسبانها شعورًا إنسانيًا خالصًا، وكلّ تجربة لم تتكئ على هذا المقوّم محكومٌ عليها بالأفول والتلاشي. كما أنّ باشو ركز على نقطة محورية مؤداها أنّ هذا الصنف الشّعري ينساب من تلقاء ذاته وبشكلٍ متدفق، دون أن "يحتشد الهايكو الواحد بأكثر من عنصرين". وضرب صاحب الكِتاب، الممتد على مساحة 303 صفحة من القطع المتوسط، مثالًا عن ذلك من شعر باشو:
"ليست إلى الصباح تنتمي
ولا المساءُ
زهرة البطّيخ"
(ص: 45).

كرّس ذي الرمة شعره منافحًا عن الصحراء والفيافي والقفار وواحات النخيل ومناهل العيس، والحديث عن كل ما ذكر يُفضي تلقائيًا إلى البداوة، أي الفطرة الأولى للإنسان، التي قضى ذي الرمة ردحًا من عمره محاولًا الذّود عنها وصون جوهرها، وهذا يظهر بجلاء في نصوصه الشّعرية التي جادت بها قريحته الخشنة والحادة التي لا تقبل التنازلات والإذعان. وحتى عندما تمكّنت "ميّة" من قلبه، واستقرت بداخله عازفةً لحن العشق، تنكأ جراح الماضي التي لا تأبى الاندمال، فإنّه لم يخرج عن توجهه الشّعري حيث يتغزل بحبيبته ميّة منطلقاً من الحياة البرية بمختلف أحوالها (قيظًا أو وشتاءً)، وأشكالها (صحراءً أو تلًّا)، وبالتالي فقد كانت مية دافعًا، من بين كومةٍ من الدوافع، التي جعلت ذا الرمة عالقًا في تصوير الصحراء، والطبيعة بشكل عام. كان يتأبط آلة تصويره أينما حلّ وارتحل حتى لا يضيع أيّة صورة، فبرع في الوصف بحسبانه فانيًا لا مغرمًا، والفرق واضح بين الغايتين، وكان يلجأ إلى ما يخامر قلبه، لا معتمدًا على ما تبصره العين فقط، لذا كان وصفه أقوى وأدق؛ متأرجحًا بين جزالة العبارة وعذوبة التصوير، جامعًا بين حُسن اللفظ وروعة المعنى. نقرأ لـ حيدر العبد الله في هذا المضمار: "جعل ذو الرمة الصحراء إطارًا لمية، وفي لحظةٍ ما، غادرت ميّة ذلك الإطار، وخلّفتهُ فراغًا. وبهذا الفراغ المؤطر تعلق ذو الرمة (...) على طريقته. ومن ثمة كانت ذريعة لتغزله بالصحراء. يقول غيلان بن عقبة:
"فلمّا أتاني أنّ ميًّا تزوجت ... خسيسًا بكى سهلُ المِعى وحُزونُها" (ص: 59).

وبالتالي فلا غرو أن يظفر حبيبُ ميٍّة بشاعر الطبيعة الأول وهو الذي جعل من الطبيعة مظان شعره الزاخر بالتعابير الوعرة التي تعظّم الطبيعة وتبجّلها، وتهمل كل ما يخرج عن دائرتها. وبما أنّ الهايكو هو نصّ متصوف بُنيّ على ربط الإنسان بالطبيعة فإنّ ذلك توفر في النصوص التي دبّجها ذا الرّمة، وانتقاها بعنايةٍ عالية صاحب الكتاب، الذي بيّن التقاطع الواضح، في مواقع كثيرة من كتابه، بين شعر حبيب ميّة وشعر الهكاة اليابانيين وفي مقدمتهم باشو. يقول غيلان:
"فلما رأين الليل والشمس حيّةً ... حياة الذي يقضي حُشاشة نازعِ".

انبرى حيدر العبدالله لتحليل هذا البيت وقارنه بنص مماثل لهاكٍ ياباني يُدعى بوسون. نقرأ له في هذا الصدد: "يصفُ ذو الرمّة هنا لحظة غروبٍ في آخر الرّبيع، كأنّ بقيّة قرص الشمس في أفقه، بقيةُ الرُّوح في صدر رجلٍ يُحتضر. يا له من وصفٍ تجسيمي لا يُضاهى. ولكن ألا يُذكرنا مزاجُ هذا البيت، بقول بوسون، الهاكي الرسام: (بشمعةٍ في يده، يهرولُ في الحديقة، ناعيًا البيت)". (ص: 61). استشفّ صاحب الكِتاب استناد ذي الرمة على عدّة تقنيات ميّزت شعر الهايكو: كتقنية المحاكاة الصوتية، وجنح أيضًا إلى اعتماد تقنية الجمع بين "ثنائية الصّورة المزدوجة"، وتصويره المُستفيض للحركة النفسية للكائنات ليصير بذلك لحظةً مفصليةً وفارقة في تاريخ الشّعر العربي. وتجدر الإشارة إلى أنّ الغوص في نفسية الحيوان بتلك الدقة والبراعة المُبهرتين توفرتا أيضًا في شعر كلّ من باشو وإيسا. وقمينٌ بالإشارة أيضًا إلى أنّ التقنيتين الأوليّتين كانتا حاضرتين بشكلٍ بادٍ ولافت في شعر الهايكو بعد زهاء تسعة قرون من وفاة غيلان بن عقبة (توفي ذي غيلان سنة 735م). مما سبق ينشأ أنّ ذا الرّمة كان سبّاقًا إلى اختلاق لون شعري جديد، خرج به عن الشعر المستطير، تأسس على لغةٍ متينة ووثيقة تحتاجُ إلى متمكّنٍ من مقاليد اللغة ودروبها لاستيعاب صوره، وإدراك مراميه. إنّ ذا الرمة هو شاعرٌ بدويّ خصص تجربته الشعرية لإبراز مناقب تجربته البدوية، ورسم صورًا شعرية خلّابة قوامها الصحراء ومناخها الاستثنائي الذي يبث الصبر والجلد والزهد في داخل الإنسان، كما احتفى أيضًا بجغرافية الجبال والروابي والهضاب، واستعمل تقنيات شعرية لم يوظّفها الهكاة اليابانيون إلّا بعد قرون من وفاته، ليكون بذلك أوّل هاكيٍّ عربي على الإطلاق. إلى جانب كل هذا فإن براعة غيلان، في نظر حيدر العبدالله، تتجسد في تحليه بالتأمل الدقيق، ودقته الفائقة في الالتقاط والتصوير، والإفراط في الاهتمام بالتفاصيل التي تحيط به. كان حبيب ميّة لوذعيًا بعدما وعى بجريان الزمن وتقلبه، وعقابيل هذا التقلب على الطبيعة. كما كان باقعًا باستحضاره خاصية الموضوعية التي جعلته يصور ويسبك نصوصه وهو يتخذ المسافة المطلوبة حتى لا يقع في مصيدة الذاتية التي من شأنها أن تزج به في نفق الأحكام التفضيلية والقيمية. (للاستزادة: يُنظر، ص: 64-65).

ولعل ما يؤكد أن ذا الرمة يمكن وصفه أول من اجترح شعر الهايكو وتبناه هو عدم تقززه من الطبيعة؛ حيث كان يُسهب في وصف "أبوال الإبل وبعر الحيوانات، والماء الآجن متغير اللون والرائحة وصفًا دقيقًا لا يُخالطه قرف، ولا يخالجه اشمئزاز. وهذا يقودنا إلى ما يصطلح عليه بالهكذائية في تصوف أهل الزن في اليابان" (ص: 65، بتصرف)، وهذه قطعة أساسية من الهايكو.

2تجربة الهايكو العربي المعاصر

بيّن الشاعر حيدر العبدالله أنّ العرب المعاصرين قاموا بمحاولاتٍ جادة ومحترمة في كتابة الهايكو منذ ستينيات القرن المتخلي. ويعد الفلسطيني عز الدين مناصرة أول من دشن هذا الاتجاه الشعري الجديد سنة 1964م بمحاولة متواضعة لكن أثرها كان كبيرًا على مجايليه، ثم تلاه السوري شاكر مطلق سنة 1978م في تجربة أكثر جِدَّةً وإبداعًا، والتي وصفها صاحب الكِتاب بأنّها تجربة جريئة ولا بأس بها. إنّ التحول الكبير الذي سيطرأ على تجربة الهايكو في العالم العربي لم يتم إلا في ثمانينيات القرن المنصرم بعدما انبرى عدد من أكابر الترجمة في الوطن العربي إلى نقل نصوص الهايكو اليابانية إلى العربية. أخذ الهايكو يتطور تدريجيا في صفوف الشعراء العرب إلى أن حظيّ بتنظيم جائزة سنية قصد الاحتفاء به وتدشين عهد جديد لهذا الشكل الشعري من طرف السفير الياباني بالمغرب سونو أوتشيدا سنة 1982م بالرباط. بيدَ أنّ حيدر العبدالله يرى أنّ أول من يستحق بنيل لقب أول هاكيٍّ عربي باقتدار في الحقبة المعاصرة هي الفلسطينية ريتا عوده، ومردّ ذلك في تقديره أنها "أدركت عدم الجدية في الهايكو، وأحسنت خلق التوتر بين عناصر النص" (ص: 72).

أما باقي المحاولات التي سبقتها، ورغم الجهد المبذول، فإنّها كانت خجولة ولم تلامس سمات الهايكو، وكانت غارقة في الفذلكة والترهل، وغياب الجمال البسيط والمفردة الأنيقة التي تتحاشى التكلف، وعدم إدراك "واقعية الفكرة"، وعدم حضور "رقة الإحساس"، ودقة الوصف، ثم الانغمار المبالغ فيه في موضوعات تتنافى مع جوهر الهايكو: الحب والحرب على سبيل التمثيل لا الحصر، كما أنّ المخيلة التعبيرية، في نظره، كانت شحيحة جدًّا، وهذا ما جعلهم غير قادرين على "القبض على جمرة الهايكو المتوهجة". إنّ السؤال الذي يفرض نفسه وبقوة في هذا السياق: ما لو تنبّه الشعراء المعاصرين لشعر ذي الرمة واستوعبوه كما يجب؟

إنّ تأخر الإبداع الحقيقي، والرصين، في صنف الهايكو، لدى العرب، يرجع لعدم استيعابهم الدقيق والحصيف لشعر ذي الرمة الذي شكّل لحظةً استثنائية في تاريخ الشعر العربي، حيث ابتكر توجها شعريًّا اقترن به. إلى جانب أنّ الشعراء العرب لم يستطيعوا الجمع بين "مصباح التصوف ومشكاة الطبيعة وزجاجة الإيقاع" في يد واحدة، وهذه الأركان الثلاثة، حسب حيدر العبدالله، هي أسّ الهايكو وجوهره، فإذا غابت انتفت ملامح إبداع الهايكو، ثم ضرورة التخلي عن السجالات الإيديولوجية البيزنطية التي تقمع انسيابية الإبداع وتحدُّ منها. إذا كان الهايكو الياباني قد متح من التصوف البوذي (الزن)، فلا مبرر للهايكو العربي ألا ينهل من تجربة التصوف الإسلامي اللامعة، وقد أبرز صاحب الكتاب أنهما يشتركان في السمات: الزهد (تنقية الذات من النزوات) ص: 89، التأمل (يقابله في التصوف الإسلامي مقامُ المراقبة) ص: 91، الوجد (نتاج للزهد والتأمل) ص: 94، الفناء (تلاشي الذات في الوجود المطلق عبر تبدد الوعي وامحاء صفة النفس: الصوفي يرى الله في كل شيء والبوذي الفاني كل شيء في كل شيء) ص: 97-98، الرضا: به تتحقق السمات الأربع (ص: 100).

إنّ هذا الكتاب، في تقديري، يستحق النّظر لأنّ صاحبه توفّق في انتقاء اللفظ، وملَّح في الاستعارة، وتبذخ في الانسيابية التعبيرية، وكانت تحليلاته دقيقة، ومقنعة، لا تجانب الصواب، واتَّصف بحثه هذا بدقة الاستنتاج الذي ينمُّ عن المنهج القويم. بالإضافة إلى تعامله المباشر مع النصوص الثقيلة وأمهات الكُتُب في التراث العربي الإسلامي (تاريخ ابن خلدون، العمدة لابن رشيق، الأنواء لابن قتيبة، ترجمان الأشواق لابن عربي، كتاب الأغاني للأصفهاني...إلخ)، وما يحسب أيضًا للباحث هو تمتّعه بالحس النقدي؛ إذ كان يتصدى للآراء التي لا يتفق معها، وأُدرج في هذا الباب المثال الآتي: "كما بدا محمد عضيمة متشائمًا حول قدرة القارئ العربي على تذوق الهايكو وامتصاص جماله البسيط. ولكن محاولات عضيمة نفسه تبدو طويلة، ومُترهلة، ولا تخلو من فذلكة، وشح في المخيلة التعبيرية" (ص: 70).

تكمنُ قيمة هذا الكتاب إذن في الاشتباك مع متن شاعرٍ مفلق لم ينل الاهتمام المطلوب ولم يسترع انتباه جل الشعراء العرب، لكون تجربته الشعرية خلّاقة، وناجحة، وتمثّل هذه التجربة أيضًا نموذجًا بارزًا للشاعر البدوي الأصيل الذي ظلّ مؤمنًا بقيّمه البدوية الصرفة، وظلّ مدافعًا عنها والتوجس يمارس حقه فيه من شبح التحضر الذي قد يُعجِّلُ باندثارها وخفُوت مجدها وألَقِها. وتتجلّى أهمية هذا البحث أيضًا في تعقبه للمقومات الفنّية والجمالية في شعر ذي الرمة ومقارنتها بمقوّمات الهايكو الياباني، وإلحاحه القويّ على ضرورة العودة للتصوّف الإسلامي للارتقاء بالهايكو وتجويده، وذلك يمرّ أساسًا عبر "إصلاح علاقتنا بالطبيعة"، وتأكيده أنّ التجربة العربية في هذا الفنّ الشعري لا تزال واعدة ولم تبلغ اكتمالها بعد، لأنها تفتقرُ لـ "ضبطٍ تنظيري، وانضباط في التجربة" (ص: 294).

 

على سبيل الختم: عن ضرورة شعر الهايكو

قد يتبادر إلى ذهن الملتقي السؤال الآتي: أين تتجلى قيمة شعر الهايكو؟ وما الفائدة التي سيقدّمها للذّائقة العربية؟

يمكنُ للمكروب والمغلوب أن يجد ضالته في شعر الهايكو، إذ من المرجح أن ينجح هذا الفن في الإسهام في بلوغه درجةً معينة من الصفاء، نظرًا للجمالية التي تطبعه والنابعة في المقام الأول من البراعة في التصوير المنطلقة من عاطفة يُشعر بها ولا تُرى، ثم البساطة الفتّانة التي تَسِمُهُ بحسبانه شعرًا غير مقفّى ويتلافى التصنّع، كما أنّ رونقه يتجسد في كونه ممارسة صوفية، وانصهارًا في الطبيعة بأفراحها وأتراحها، برخائها وشقائها. والهاكي يترنم بالطبيعة لأنه ينظر إليها كـ تَجَلٍّ لوجود الواحد ليشيد تجربةً جمالية صادقة. لا عجب أن يتغنى الهايكو بالطبيعة سيما وأنه وصف بشعر الفصول الأربعة؛ لأنه يغرق في الترميز والدلالات والنّهل من القرينة الموسمية (القمر قرينةٌ للخريف). وحاصل القول إن جمالية الهايكو تتمثل أساسًا في محاولته الجادة في "القبض على موسيقى الكون والانخراط فيها"، حيث الإيقاع هو "الرئة التي تتنفس هواء الزن".

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها