الأبعاد الرّومنسيّة في ديوان "ليسَ للمساء إخوة"

د. مازن أكثم سليمان



تتَّسم تجرِبة وديع سعادة الشِّعريّة بالخُصوصيّة والجِدّة والتَّكثيف، وتنتمي إلى مدارات الحداثة العربيّة المُعاصِرة بامتياز لافت، وتنطوي على أبعاد فنِّيّة وخطابيّة مُتنوِّعة، وهو الأمر الذي يسمح بقراءة هذهِ التَّجربة من مُستويات عدّة، كالأبعاد الرّومنسيّة في ديوان "ليسَ للمساء إخوة" الذي سأقاربُهُ في هذا النَّصّ النَّقديّ.


 

أوَّلاً: المُستوى الانفعاليّ

قالَ الشّاعر: "في يدكَ تنمو شرايينُ الذهول/ وتغترب/ يدكَ التي تلوّح للمارّة/ كالرَّسائل" (الصَّفحة: 12).

تبدو حركة اليد في هذا (النَّصّ/ المشهد) مُنسجمةً مع غنائيّة القلَق الذّاتيّ الذي تضجُّ به "شرايين الذّهول النّامية"؛ إذ تغوصُ حركة هذه اليد بما هي آليّة كناية عن "الاغتراب" الفرديّ، ليغدو التَّلويح للمارّة (الاغتراب الجمعيّ رُبَّما) طقساً تعبيريّاً انفعاليّاً لإرسال رسائل (وجدانيّة/ عاطفيّة) لا (عقليّة/ منطقيّة)، لا تبدو مُطمْئِنَةً أبداً.

قالَ الشّاعر: "نقّبوا عن ظلال رؤوسكم/ وتفيّأوا/ الزّمن جفَّف القلوب/ ولا بئر غير عيوننا/ ندفن فيها وجوهَ من نُحبّ" (الصَّفحة: 30).

يستمدّ هذا المقطع انفعاليته من غنائيّة الضَّياع "نقِّبوا عن ظلال رؤوسكم"، فالرُّؤوس -إنْ وُجدتْ- هي ملاذ من "فيءٍ"، في ضوء "جفاف القلوب" المُضيَّعة أيضاً، وتحوُّل "العيون" إلى مدافن للأحبّة، وهُنا يُمكنُ أنْ يدَّعيَ التَّأويلُ مسألة حلول "الرَّأس/ العقل/ العقلانيّة" مكان "القلب/ العاطفة/ الانفعاليّة"، في حصار وجوديّ كيانيّ على المشاعر والانفعالات الذّاتيّة والجمعيّة المغدورة.

قالَ الشّاعر: "ماذا على الذين مثلي أنْ يفعلوا/ وأصغرُ فراشة/ هيَ أكثرُ دهشة؟/ الدّائرة نفسها/ المشهد، النّافذة، الوجه/ أعشابٌ تأخذها الحوافر./ سأتركُ الوجوه وأخرج/ بلا محفظةٍ ولا زادٍ ولا عصى/ فارغاً/ حتّى من قميص قلبي/ وبرصاصةٍ وحيدة أُطلُّ على الصَّمت/ هذا الهدف المُتراقص أبداً" (الصَّفحة: 33).

لا تكتفي "الحوافرُ" في هذا المقبوس بدوس مادِّيات "المشهد/ النّافذة/ الوجه" وتحطيمها؛ إنَّما تقضي عبرَ ما هو أقرب إلى غنائيّة تراجيديّة بـِ"ترك الوجوه والخروج بلا محفظة ولا زاد ولا عصى"، فالـ"فراغ" يسودُ ويقتنص "القلب"، والعواطف والانفعالات المحكومة بالـ"الصَّمت"، والموت بـِ"رصاصة" ليست إلاّ هدفاً لمن حاصرَ مشاعرَهُ وانفعالاتَهُ الذّاتيّة اليأسُ والانحيازُ للهزيمة الوجوديّة ما دامت "أصغر فراشة هيَ أكثر دهشة؟" ولكنْ..!

ثانياً: المُستوى التّخييليّ

قالَ الشّاعر: "مع أنَّ وعاء الصَّمت هو الوحيدُ يلمعُ بيننا/ أعرفكَ أيّها العالَم/ أيُّها العجوز القميء في صحن ذاكرتي./ وإنّي، إذ أتقدّم بخطى مبعثرة/ إلى أبواب مودّتك المُقفلة،/ لا أكون ناسياً أنَّ المفاتيح/ التي تعثر عليها في أشواقنا/ هي المفاتيح الخطأ./ أعرفُ أيّة مجارٍ من التّأسُّف/ أيّامُك/ مع أنَّ كلّ شيء مضى الآن/ ولم يعد يتدلّى بيننا/ غيرُ عشبة الماضي الجافّة" (الصَّفحة: 13).

لا تتحرَّكُ بنية نُصوص هذا الدّيوان في إطار التَّصوُّر أو الخيال الأوَّليّ حسب نظريّة كولريدج؛ إنَّما تتَّسمُ هذه البنية بإذعانها للخيال الثّانويّ، إذ تذوب العناصر والعلاقات الجزئيّة في خيالٍ كُلِّيّ صاهر ينمو معه نصٌّ مثل النَّصّ السّابق في إطار تعبيريّ مُنسَجِم بدءاً من "وعاء الصَّمت" مروراً بوصف العالَم بـِ"العجوز القميء"، حيثُ تكونُ "الخطى مبعثرة"، و"أبواب المودّة مُقفلة"، و"المفاتيح" الموجودة في "الأشواق" هيَ "المفاتيح الخطأ"، و"الأيّام مجارٍ من التَّأسُّف"، وكُلّ ما بقيَ ليس سوى "عشبة الماضي الجافة".

قالَ الشّاعر: "هناك مشروعُ قصيدة/ ضفّة/ أفرش عليها السَّمكَ الواجف في رأسي./ اذهبي/ يا امرأة سوداء على بابي يا مراكب/ اذهبي/ أحلامي كافية لأُغلق هذا الباب/ وأنام/ مياهي كافية/ لأغرق" (الصَّفحة: 34).

إنَّ "مشروع القصيدة" هُنا ليسَ سوى مشروع إدانة العالَم الوقائعيّ عبرَ اللُّجوء إلى العالَم التَّخييليّ، الذي يكتنفُ "أحلاماً كافية" لصهر كُلّ المشاعر (الانفعاليّة/ اللُّغويّة) في بِنية شِعريّة تسمحُ بـِ"إغلاق باب الواقع والنَّوم"، وتفتحُ فجوة التَّخييل على جماليّات "الغرق"؛ فـَ"المياه كافية" لتمكين ذلكَ في القصيدة الخلاّقة.

قالَ الشّاعر: "يا قاطعَ الطرق يا شرساً يا مجنوناً يا حبّي/ دعْ ممرّاً لرحيلي/ دعني بعيداً مع ورق الشّجر أستلقي/ على حجر يمكنني أن أقعد/ مع صرصار أستطيع أن أغنّي/ لنملة أقرأ قصائدي/ في مِزَق ثوبي ثلاثُ ابتسامات من الفجر وثغرٌ كاملٌ للغروب/ على رؤوس أصابعي قطيعٌ غريب/ لا يعود من البراري" (الصَّفحة: 50).

لعلَّ البنية التَّخييليّة هُنا تتوِّجُ كيفيّات الهجرة من براثن التَّصوُّر والخيال الأوَّليّ، إلى الخيال الثّانويّ الصّاهر بالانزياح عميقاً نحو (الطَّبيعة/ الحُرِّيّة)، فـَ"الرَّحيل" هو "استلقاء مع ورق الشَّجر"، وهو "جلوس على حجر"، وهو "غناء مع صرصار"، وهو "قراءة القصائد لنملة"، وهو "تمزيق الثَّوب" والاحتفاظ بـَ"ثلاث ابتسامات من الفجر" و"ثغر كامل للغروب"، وهو -أوَّلاً وأخيراً- الانتماء التَّخييليّ لـِ"قطيع غريب لا يعود من البراري"، إلى سجن الذّات الوقائعيّ بوصف هذا السِّجن حلول العقل والمنطق مكان العاطفة والانفعال وغنائيّات الخيال الحُرّ.

ثالثاً: المُستوى العضويّ

قالَ الشّاعر: "اعرفْ أنّك لن تجعلَ الشّمس حبيبةً/ وإنْ كنتَ في رداءٍ كثيرِ الثّقوب/ وأنّك/ حينَ تَدلفُ فوق ساقية الرّوح ببطء/ ستكون الماءَ الضّائع/ وحينَ ترصف أنفاسَك في الفضاء قضباناً كثيرةَ الذّكريات./ أنت/ ولو كانت لك نجمةٌ صغيرة/ ولو فتحَ اللّيلُ أحياناً حياتَهُ/ لأعواد ثقابك/ ستأخذ غيرَ الضّوء طريقاً/ وتطلُّ في وقت غير مناسب على نافذة العالَم" (الصَّفحة: 8).

ينمو المُستوى العضويّ في هذا النَّصّ عبر جدليّات التَّضادّ الثُّنائيّ، فـَ"الماء/ السّاقية" مُقابل رمزيّ لـِ"الشَّمس/ النّار"، و"الأنفاس" القليلة مهما كَثُرَتْ مُقابل رمزيّ لـِ"الفضاء" الكبير وغير المُتناهي، و"اللَّيل/ العتمة" مُقابل رمزيّ لـِ"أعواد الثّقاب/ الضَّوء". وتنهضُ -وفقَ هذا التَّناميّ العضويّ- الدَّلالة الكُلِّيّة لتنسج غنائيّة الوَحدة والعزلة والاغتراب الذّاتي، حيثُ لا تكونُ "الشَّمس حبيبة" في المطلع، وفي العودة تكونُ "الإطلالةُ على نافذة العالَم في وقتٍ غير مناسب".

قالَ الشّاعر: "ما فائدةُ الوثوب إلى الغابات/ وإطعام الغزالة النّحيلة/ حينَ تسقط عصافيرُ الدّهشة/ كخشبة من بناية قديمة؟/ أنا النُّموُّ الأسودُ تحتَ الأبراج/ والحيواناتُ الكونيَّة ترعاني/ لستُ الصبيَّ الذي يدخل/ برجَ العائلة في المساء/ أبحثُ عن نجمة أقرأُ تحتها حياتي/ أرتقي سلّمَ الضّوء/ أهبُ ورقة نقدي الأخيرة/ لليد المعروقة/ فوقَ جسر القلب" (الصَّفحة: 23).

يبدو الخروج والانزياح والمُغادرة هو النَّسَق الظّاهريّ للنُّموّ العضويّ في هذا النَّصّ، وهو ما يجعل المُتلقِّي يقارب "الوثوب إلى الغابات"، و"النُّمو تحت الأبراج"، و"الحيوانات الكونيّة ترعاني"، و"لستُ الصَّبيّ الذي يدخل برج العائلة في المساء"، و"نجمة اقرأ تحتها حياتي"، و"أرتقي سلّم الضَّوء" بناءً على هذا الخروج الأقرب إلى التَّمرُّد. لكنَّ نسَقاً مُضمَراً آخَر يؤسِّسُ النُّموّ العضويّ هُنا، ويكمنُ في عنصر الانكسار والخذلان، ولهذا كانَ الاستهلال بـِ"ما فائدة الوثوب إلى الغابات؟" و"حين تسقط عصافير الدَّهشة كخشبة من بناية قديمة"، ثُمَّ وصف "النُّموّ" بـِ"الأسوَد"، وصولاً إلى "منح ورقة النَّقد" بنعتِها الحاسِم بـِ"الأخيرة" لـِ"اليد المعروفة فوقَ جسر القلب"، حيثُ اللُّجوء إلى ما يُضمِّدُ أوجاع الخروج وانكساراتِهِ بانطواءٍ نكوصيّ ما مفتوح الدَّلالة على بُعد تعبيريّ وجدانيّ ذاتيّ قد يكونُ عاطفيّاً بالإحالة الحاسِمة إلى وجود "جسر القلب".

قالَ الشّاعر: "لم يَعُدْ في دمي غيرُ الكلمات واللّون الأحمر/ البسْ قناعَ الرحمة واطردْني/ يشتاقُ صمتي غيرَ لهاثك./ ماذا جئتَ تفعل ماذا جئتَ تقول ماذا جئتَ تقطف/ يا زارع اليباس كي يكلّمَ الفراغ كالأبله؟/ حديقتي أصغرُ من جنين/ ليسَ فيها غيرُ ورقة السّهو/ نبتتْ في غيابك" (الصَّفحة: 47).

لا يزيغُ هذا النَّصّ، ولا يُراوغُ المُتلقِّي؛ فالمُستوى العضويّ يتأسَّسُ على نسق واحد، بدءاً بـِ"الدَّم" و"اطردني" و"يشتاق صمتي غير لهاثك"، مُروراً بالسُّؤال الاستنكاريّ "ماذا جئتَ تفعل ماذا جئتَ تقول ماذا جئتَ تقطف/ يا زارع اليباس كي يكلّمَ الفراغ كالأبله؟"، وانتهاءً بما ينسجم مع كُلّ هذا الخذلان والتَّنائيّ وهوَّة البُعد المُتنامية، فـَ"حديقتي ليسَ فيها غير ورقة السَّهو"، وهذا السَّهْوُ ابنُ "غيابك"، وحُضور الغِياب هو الذي بنى وَحدة هذا النَّصّ بالقليل المُتقشِّف من الخيال، والكثير المُتناثِر من الانفعال.

رابعاً: المُستوى المُعجميّ

قالَ الشّاعر: "في هذه القرية/ تُنسى أقحواناتُ المساء/ مرتجفةً وراء الأبواب./ في هذه القرية التي تستيقظ/ وتشرب مطر الشقاء/ انكسرتْ في يدي زجاجةُ العالَم" (الصَّفحة: 5).

تتَّسمُ ألفاظ هذا الدّيوان بالألفة، ويتخفَّف الشّاعر بلاغيّاً إلى حدٍّ كبير، ويتقشَّف في مُعجمه بعيداً عن (فكرة/ أو هاجس) الألفاظ الجزلة أو المهجورة. وفي المقبوس السّابق تبدو صفة الوضوح مُهيمِنة على المُفردات، وتبقى كلمات مثل: "القرية" و"أقحوانات"، و"المساء" و"مطر"، وفيّة للطَّبيعة والتَّعبير الذّاتيّ الأليف، والانفعال الوجدانيّ القائم على مرجعيّة التَّجربة الشَّخصيّة.

قالَ الشّاعر: "بينما كنتَ تعبر أمكنة واسعة/ كان ثمّة شيء يشبه الحبّ/ يتذكّرك/ أمّا الآن/ وقد قطعتَ شوارع غير مدثَّرة/ وودّعتَ أرصفةً كثيرة/ فالأمل/ الذي أرادَ التَّحدُّث إليكَ عند كلّ خطوة/ يكفّ عن النِّداء./ أنتَ/ يا من حسب أنّه عبَرَ كلّ الأشياء/ جلستَ وقتاً أطول/ في مقهى الماضي" (الصَّفحة: 15).

يبدو التَّواؤم بينَ البُعد العاطفيّ والمُعجَم المُستخدَم في هذا النَّصّ كبيراً، فالانكسار الوجدانيّ والتَّخفُّف التَّخييليّ يتأسَّسان هُنا على ألفاظ مألوفة وتقشُّف بلاغيّ عارم، والمُفارَقة لا تُبنَى على مُفردات صاخبة أو منسيّة في القاموس، فالدَّهشة تأتي من التَّضادّ المبني على البساطة والوضوح، ذلكَ أنَّ "الأمكنة الواسعة" كانت تفيض بـِ"شيء يُشبه الحُبّ"، أمّا "الآن" فـَ"الأمل" "الذي أراد التَّحدُّث إليك عند كُلّ خطوة يكفّ عن النِّداء"، كأنَّ التَّضادّ ناهضٌ بينَ فكرة "الاتّساع/ الحُبّ" وفقدان "الأمل/ توقُّف النِّداء"، لهذا تكون المُحصِّلة انكماش الذّات في حاضرها عبرَ ألفاظ مُباشَرة، ولجوئها إلى ملاذ "ماضيها": "أنتَ يا من حسب أنّه عبَرَ كلّ الأشياء جلستَ وقتاً أطول في مقهى الماضي".

قالَ الشّاعر: "أيُّ زمن سيأتي/ بقميص أبيض؟/ أيُّ درب ستأتي/ ونلعب مع الأطفال؟/ أيُّ خروف/ نطعمه أيدينا؟/ أيُّ حلم/ وكلّنا على قارعة الطّريق/ نلملم انهيار الوجوه" (الصَّفحة: 31).

لا يختلف هذا النَّصّ عن سابقيْه في تشييد الدَّلالة العاطفيّة على ألفاظ مألوفة، وقيام التَّعبير الشَّخصيّ على تغييب العقل والمنطق عبرَ تغييب الجزالة والبلاغة المُحكمة لمصلحة الانزياح الآتي من انكسار انفعاليّ وجدانيّ لا يتطلَّب سوى بناء المُفارَقة الإنسانيّة الشَّخصيّة والعامّة بناءً لا يتطلَّبُ فصاحةَ المُعجم أو -بمعنىً آخَر- بناءً ينشأ على فصاحة الإحساس الرّومانسيّ بالألم الوقائعيّ الوجوديّ: "أيُّ حلم وكلّنا على قارعة الطّريق نلملم انهيار الوجوه".

خامساً: المُستوى اللُّغويّ

قالَ الشّاعر: "فراشَةُ الحُبّ تطير بعيداً/ وعطلة قصيرة على كفّها/ لكنَّ يدي أضاعتْ مفاتيحها./ أتدلّى/ فوق سور الأسماء/ وغيمة تشبه اليد/ ترفع لي قميص الشّتاء" (الصَّفحة: 9).

تنهضُ الغرابة في نُصوص هذا الديوان على الإسناد اللُّغويّ المُؤسَّس على أبعاد تخييليّة انفعاليّة تُجدِّد المُفردات عبرَ علاقات غير مألوفة وبعيدة عن الصَّخب والفخامة اللُّغويّة، فـَ"فراشة الحب التي تطير بعيداً" تحملُ "عطلة قصيرة على كفِّها"، والصُّورة هُنا في تحويل العطلة إلى مادّة قابلة للحمل، وفي جعل "الفراشة" الضعيفة الرَّقيقة تحمل هذه "العطلة التي تضيع مفاتيحها" ليأتي "الشِّتاء" مُعادلاً مجازيّاً للغياب: "وغيمة تشبه اليد ترفع لي قميص الشّتاء".

قالَ الشّاعر: "تغرقُ في بئر المحبّة اليابسة/ سكران/ ماذا تقول للمارّة كي تخطف مرفأ؟/ شربتَ نهاركَ دفعةً واحدة/ رقصنا في السّاحة ولم نقدّم نشوتك/ رفعْنا مياهنا إلى حدودها/ وأنتَ تفكِّر في صحراء يدكَ/ بعْها/ قلنا لكَ بعْها وارفعْ وجهكَ لا رايةَ الحُرِّيّة/ قلْ هذه شجرتي/ وأنا أرغب في عريها/ لكنَّكَ حرَّكتَ إبرةَ الألَم/ وأعدتَ حياكة يأسنا جميعاً" (الصَّفحة: 25).

لعلَّ تأويلاً ما يرى أنَّ هجران "راية الحُرِّيّة" واستبدالها بالعنصر الشَّخصيّ "ارفع وجهك لا راية الحُرِّيّة" تعبير انفعاليّ عن دلالة انكسار الهمّ العامّ، والنُّكوص الرومنسيّ إلى الذّات العاطفيّة التي لا تَبرأ بدورها من "الألم" و"اليأس": "لكنَّكَ حرَّكتَ إبرةَ الألَم وأعدتَ حياكة يأسنا جميعاً". فالقول "هذه شجرتي" بما هيَ مُعادل رمزيّ للمعرفة الشَّخصيّة لم يُنقذ من معرفة الخراب العامّ المُوجِع. وكُلّ ذلكَ عبر لُغة تستمدُّ غرابتها من فجوات الاختلاف المبني على علاقات مجازيّة غير مألوفة: فكيفَ يكون "الغرق في بئر المحبّة"؟ ثُمَّ: كيفَ تكون "المحبّة يابسة" كقطعة خبز مثلاً؟ أيضاً: "كيف يُخطَفُ مرفأ"؟ وكيفَ "يُشرَبُ النَّهار دفعة واحدة"؟ و"تُرفَعُ المياه إلى حدودها"؟ وكيفَ "تُباع صحراء اليد"؟... فاللُّغة تتجدَّد هُنا باندفاع عاطفيّ ينزع أُلفة الأشياء، ويُعيد تشكيل بنية تخييليّة عضويّة لا تخلو من الاغتراب والغرابة في آنٍ معاً.

قالَ الشّاعر: "يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر/ إلى الغابة/ الوترُ المشدود بينَ عينيَّ والأشجار/ على وشك الانقصاف./ أيَّتُها الكلمات يا غابتي/ يا شجرتي اليابسة في فمي/ على طول الطَّريق سواقٍ وأزهار/ حجارةٌ لمن تعبوا/ شمسٌ للنَّهار قمرٌ للّيل/ وليس على حروفك عصفورٌ يسلّي./ يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر/ الأصواتُ أقفاص" (الصَّفحة: 35).

إنَّ "الطَّريق الآخَر" هُنا هو طريق الوَحدة والنُّكوص الذّاتيّ نحو العاطفيّ الوجدانيّ لا العقليّ المنطقيّ/ الجمعيّ أو العامّ، فـَ"الشَّجرة يابسة في الفم". لكنَّ المُستوى اللُّغويّ النّاهض على الانفعال التَّخييليّ يتمسَّك بالأمل: "على طول الطَّريق سواقٍ وأزهار حجارةٌ لمن تعبوا شمسٌ للنَّهار قمرٌ للّيل"، لكن: أيُّ أمل؟ لا حضور هُنا للأمل الجمعيّ العامّ، كما أعتقد، فالأمل مُتعلِّق بالذّات (الرومانسيّة/ الفطريّة: الطَّبيعة) التي تحتفي بالبُعد الشَّخصيّ الذي اختار التَّعبير عبرَ علاقات لُغويّة واضحة وسهلة وبسيطة عن انزياح لُغويّ وجدانيّ هو في جوهره نكوص وهروب واغتراب: "يجب أن يكون هناك طريقٌ آخر" إلى الغابة/ العُزلة والوَحدة والغربة، ذلكَ أنَّ القفلة تبسطُ مُفارَقةً انزياحيّة لافتة ومُكثَّفة دلاليّاً، فالآخرون حسب سارتر هُم الجحيم: "الأصوات أقفاص".

ينتمي ديوان "ليسَ للمساء إخوة" إلى الحداثة الشِّعريّة العربيّة بحنكة لافتة عبرَ إعادة تأسيس المُستوى الوقائعيّ على البُعد الاغترابيّ، وعبرَ غرائبيّة بناء مُناخ الوَحدة الانفعاليّة التَّخييليّة لذات تنزاح عن العقلانيّة المنطقيّة الجمعيّة لمصلحة النُّكوص الوجدانيّ إلى عالَم شفيف وحزين وذو نسيج عضويّ يقوم على مُفارَقة الشِّعارات الكُبرى، والاحتفاء بالشَّخصيّ المَعزول والمُتواري مُتشِحاً بمفردات مألوفة يُقيم الشّاعر بينها علاقات مجازيّة غير مألوفة بما يسمح بتخليق فجوة الغياب المُنتخَب في هذا الدّيوان.


 

ليسَ للمساء إخوة  لـ وديع سعادة
(بيروت - لبنان: المُؤسَّسة الجامعيّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، ط1، 1402هـ - 1981م).

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها