الوعود الكاذبة للذكاء الاصطناعي

بقلم بنجامين كاراكو  Benjamin CARACO

ترجمة: د. فيصل أبو الطُّفَيْل

بالعودة إلى العديد من القضايا المتعلقة بالذكاء الاصطناعي، تدعو آن ألومبير1 إلى تنظيم تطويره، وتشجيع البدائل الرقمية التي تحترم المجتمع.

في الآونة الأخيرة، حذّر الاقتصادي الأمريكي بول كروغمان (Paul Krugman)، مع آخرين، من مخاطر انفجار فقاعة سوق الأسهم (البورصة) المرتبطة بالذكاء الاصطناعي (AI). كما أشار الحائز على جائزة نوبل إلى ارتفاع فواتير الكهرباء في الولايات المتحدة، بسبب زيادة الطلب المرتبط ببناء مراكز البيانات، في حين تعرقل إدارة ترامب تطوير الطاقات المتجددة.
 

في كتابها الموسوم بـ"عن الغباء الاصطناعي": ”De la bêtise artificielle“، تهتم الفيلسوفة آن ألومبير، مؤلفة كتاب "الفصام الرقمي" ”Schizophrénie numérique2، بالخطابات السائدة حول الذكاء الاصطناعي. تتأرجح هذه الخطابات بين الثقة في التكنولوجيا لحل أي مشكلة (technosolutionnisme) والميل إلى نشر القلق من خلال التهويل (alarmisme)؛ وهما أكثر ارتباطاً مما يبدوان عليه. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، شهد الذكاء الاصطناعي التوليدي نمواً هائلاً، سواء من حيث الابتكارات أو الاستخدامات. ورافق هذا التطورَ زيادةُ تركيز الثروة والسلطة لصالح مصمميه. وتبعاً لذلك، يعلن مروجو الذكاء الاصطناعي عن عصر ما بعد الإنسانية، وبعبارة أخرى عصر الاندماج بين الإنسان والآلة، والظهور الوشيك للذكاء الخارق؛ أي استقلالية الذكاء الاصطناعي عن الإنسانية.

هل نحن بإزاء ذكاء أو غباء اصطناعي؟

ليست هذه الخطابات شيئاً جديداً؛ إذْ من الممكن العثور على بداياتها في وقت مبكر من خمسينيات القرن الماضي مع علماء مثل آلان تورينج ومارفن مينسكي وجون مكارثي. صحيح أن الذكاء الاصطناعي قد شهد تسارعاً خلال العقد الماضي، لكن الأسس النظرية ظلتْ كما هي بالنسبة للفيلسوفة التي ترى بأن: "التفكير أو التعلم هو يشبه الحساب". كما تُقَلِّدُ الآلةُ البَشر وعملياتهم، مما يؤدي إلى "إضفاء الصبغة البَشَرية على الآلات" ( anthropomorphisation)، وهو ما يحجب القضايا السياسية لهذه التقنيات التي تخفي في كثير من الأحيان رغبة في الهيمنة. لكن "تشبيه الآلات بالبشر يسمح لمصمميها بالتهرّب من مسؤوليتهم".

يخفي هذا التصور عن الذكاء الاصطناعي مرحلة جديدة من أتمتة3 التفكير بعد أتمتة المهارات، مما يؤدي إلى "خطر أتمتة الفكر وتحويله إلى عمل روتيني". فعندما يمدح مؤيدو الذكاء الاصطناعي الإنسان المعزز؛ فإن الذكاء الاصطناعي يميل أكثر إلى تقليل قدراتنا ومهاراتنا من خلال القيام بالأشياء بدلاً منا. إن الذكاء الاصطناعي يجعلنا ننسى كيف نفكر ونتواصل. ومن أجل أن يتدرّب الذكاء الاصطناعي على القيام بهذه الأشياء؛ فإنه يقوم بالسطو على المحتوى الذي أنتجه البشر، دون أن يدفع لهم بالضرورة أجراً، كما أنه يستعين أيضاً بعمال لا يحظون بتقدير كبير.

تقارن الفيلسوفة تأثيرات الذكاء الاصطناعي بتأثيرات ظهور الكتابة على الفكر. ففي اليونان القديمة، انتقد كل من سقراط وأفلاطون السوفسطائيين. فقد كانوا يكتفون بتكرار الخطب المكتوبة دون فهمها. ومع ذلك، أتاحت الكتابةُ الاستفادةَ من الآثار التراكمية للمعرفة، وأدت إلى ظهور التفكير التأملي. وباستعارة مصطلح عزيز على كل من جاك دريدا وبرنارد ستيجلر، اللذين كانت آن ألومبير قريبة منهما؛ فإن الكتابة هي فارماكون4 (أي علاج)، أي دواء وسم في آن واحد. وينطبق الأمر نفسه على التكنولوجيا الرقمية، التي تتسم بالتناقض نفسه. لذلك، يجب أن تكون التكنولوجيا موضوعاً للمناقشة السياسية والتنظيم التشريعي، حتى يتم تكييفها بشكل صحيح على المستوى الجماعي. ومع ذلك؛ فإن وتيرة تطور الذكاء الاصطناعي، فضلاً عن ضغوط رجال الأعمال في هذا المجال، تتيح له إمكانية الالتفاف على السياسة، من خلال السير بشكل أسرع وتجاهل مبدأ الحيطة والحذر.

وإذا كان الذكاء الاصطناعي يتغذّى على المعرفة البشرية؛ فإنه كلما أنتج محتوى أكثر، تغذّى على نفسه وأصبح أقل قدرة على الابتكار، ناهيك عن إنشاء أعمال فنية أصلية قادرة على إثارة المشاعر. في الواقع، يقدم الذكاء الاصطناعي إبداعات متوسطة ومحتملة وغير فريدة من نوعها عندما يعتمد الابتكار على التفكك. وتُشكِّل برامج المحادثة مخاطر لا يستهان بها على أُلْفَتِنا الاجتماعية وصحتنا العقلية، وذلك بتعزيز نرجسيتنا واعتمادنا عليها. تولّد الشبكات "غير الاجتماعية" من جانبها، الكراهية والامتثال من خلال خوارزمياتها، وتعمل هذه الشبكات وفقاً لمعايير كمية حيث يتم التلاعب بها بانتظام من قبل مبتكريها من أجل الربح أو وفقاً لأجندة سياسية.

وعلى مستوى أوسع نطاقاً، تذكّر آن ألومبير بالتشكيك في الحقيقة التي يؤدي إليها هذا النظام البيئي الرقمي السام. وبالتالي، فإن المحتوى الذي يولّده الذكاء الاصطناعي يعتمد على الاحتمالات وليس على الحقيقة. أفلا نسير نحو أزمة ثقة عامة وفي التشكيك في ما يمكن تصديقه؟

من أجل تنظيم الذكاء الاصطناعي ودعم البدائل الرقمية:

ما العمل إذاً؟ فعلى الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يبدو أنه يميل إلى أن يكون سماً أكثر منه دواءً بعد هذا الاستعراض، فإن آن ألومبير لا تقع في رهاب التكنولوجيا (la technophobie). فهي كما تكتب: "الغباء الاصطناعي ليس نتيجة حتمية للخوارزميات". فالذكاء الاصطناعي هو ما هو عليه بسبب الشركات التي تصممه، لكنه يحمل مع ذلك في طياته إمكانات أخرى. وبهذا الصدد تستشهد الفيلسوفة ببدائل رقمية مثل ويكيبيديا (التي ليست ذكاءً اصطناعيًا)، أو منصة التداول السياسي Pol.is التي تهدف إلى التوصل إلى حلول توفيقية بين وجهات نظر متباينة. ومثلها جمعية وتطبيق Tournesol التي تقدّم توصيات تعاونية لمقاطع فيديو بناءً على معايير نوعية لا كمية.

تضيف آن ألومبرت أن التنظيم ضروري لضمان تعددية التكنولوجيا الرقمية، كما كان الحال بالنسبة للتلفاز في الماضي. وفي هذا الصدد، تسير جهود الاتحاد الأوروبي في الاتجاه الصحيح، مما يثير استياء عمالقة الرقمية الأمريكيين. وفي الوقت نفسه، من المهم تشجيع تطوير أجهزة رقمية أخرى تخدم الروابط الاجتماعية والديمقراطية، مثل Bip Pop أو  Entourage..

بالنسبة للفيلسوفة؛ فإن الرأسمالية الرقمية تقوّض تدريجياً شروط وجودها، سواء أكان ذلك من الناحية الطبيعية أم الثقافية. وبالإضافة إلى ذلك "تواجه المرحلة الرقمية للرأسمالية عقبة الإفلاس": فمن سيكون قادراً على تحمل تكاليف الخدمات الرقمية إذا دمَّرَتِ التكنولوجيا الرقمية العمل البشري المدفوع الأجر؟ تشير آن ألومبير إلى أفكار أندريه غورز5 حول التغيرات التي يشهدها العمل والتوظيف بالأجر وإرساء دخل موحَّد. وتختتم كِتابَها بدعوة إلى تبني البدائل الرقمية، التي سبق ذكرها، وإلى التنظيم، لصالح المجتمع وضد "عصر التنوير المظلم" الذي يروج له الفاشيون التكنولوجيون المتحالفون مع القوميين الاستبداديين. ومع ذلك؛ فإن مسألة توسيع نطاق هذه البدائل، التي تتطلب مسبقاً تمويلًا كبيراً، وكذلك مسألة التنفيذ الفعّال للضوابط الوقائية، تظل قائمة.

 

 

الهوامش:
1 -Anne Alombert : هي أستاذة محاضرة في الفلسفة المعاصرة في جامعة باريس 8 وعضو في المجلس الوطني الرقمي. تتناول أعمالها العلاقات بين الحياة والتقنيات والعقل في الفلسفة، فضلاً عن القضايا الأنثروبولوجية والاجتماعية والسياسية للتكنولوجيات الرقمية والذكاء الاصطناعي. لها مجموعة من المؤلفات آخرها: "عن الغباء الاصطناعي" عن دار Allia سنة 2025. المترجم.
2 - صدر عن دار Allia سنة 2023. المترجم.
3 -  Automatisation: الأتمتة أو التشغيل الآلي هي استخدام الآلات والأجهزة الآلية. المترجم.
4 - pharmakon: مصطلح فلسفي يرجع إلى أصول يونانية، ويطرح إشكالات عديدة على مستوى الترجمة. فهو يحيل ضمنياً على فكرة أفلاطون التي تنظر إلى الكتابة بوصفها سماً ضاراً ينبغي إقصاؤه لفائدة الدواء (الكلام). وقد تناوله جاك دريدا في العصر الحديث ضمن كتابه "صيدلية أفلاطون". المترجم.
5 - André Groz: فيلسوف وصحافي فرنسي من أصل نمساوي (1923-2007)، أحد كبار المفكرين في مجال النقد الاجتماعي في القرن العشرين. المترجم.

 

لقراءة المقال الأصلي 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها