السرد وذاكرة العمال المهاجرين

في "Les insignifiants" للروائية سعـاد ماء العينين

د. بوزيد الغلى


تحفل مدونة السرد بصحراء المغرب بعدد مهم من الروايات والمجموعات القصصية والرحلات. وقد كان لترجمة هيبتن الحيرش رواية "زينب النفزاوية: ملكة مراكش"1 دلالة قوية على مساهمة أقلام الجنوب في الحركة الثقافية، بشكل يجعل حضور الصحراء الثقافي وازناً في مختلف المحافل الثقافية المغربية.


وسنعمل في هذا المقام على إضاءة عمل سردي غاية في الأهمية صدر بالفرنسية2، بأسلوب رشيق امتلكت ناصيته الكاتبة سعاد ماء العينين، التي انتقلت من مجال السرد القصصي إلى السرد الروائي الذي أتاح لها مساحة أوسع ونفساً أطول، لاستعادة أحداث حقيقية ممزوجة بالخيال تمتد من 1946 إلى عام 2022، لكن دون إخضاع الزمنية السردية في الرواية للترتيب الكرونولوجي. إذ نلحظ أن السرد يبدأ من "باريس، ربيع 1968". وهذا تاريخ دال، ستعود الروائية إلى ربطه في سياق التاريخ الراهن الفرنسي، بحراك السترات الصفراء، الذي يعتبره الراوي حلقة من سلسلة احتجاجات اجتماعية اشتعل أشهرها في مايو 1968 وشهد بطل الرواية بعض أطواره.

بينما يعود بنا الفصل الرابع إلى عام 1946 بتغمرت القرية المنزوية شرق مدينة كليميم جنوب المغرب. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الرواية لم تعتمد سرداً تعاقبياً، بقدر ما اعتمدت على السرد بالتوازي (فصل تدور أحداثه في باريس، وفصل يعود فيه السارد إلى أحضان بلدة المنشأ تغمرت).

في غمرة السرد، نقف على البون الشاسع بين المكانين: باريس، تغمرت، ومن الطبيعي أن يصف السارد تغمرت بالقرية غير المرئية Village invisible، إذ إن أنوار باريس وبهاءها يجعل التعلق بها منطقياً؛ لأنها مثلت الفردوس الموعود للراوي ومجايليه من العمال الذين تركوا أمكنة الذاكرة والميلاد والأرض والحرث، واتجهوا إلى عالم حياة جديدة أكثر رخاء ويسراً. الانتقال من نمط عيش يعتمد على الزراعة وما تجود به الأرض التي لا تحيا دون تعب السواعد ونمط عيش آخر لا يخلو من الضنك والخشونة؛ إذ يعيش المهاجرون فيما يشبه الأخصاص/خلايا النحل، ويتناوب ثلاثة من الستة أفراد المجموعة المتساكنة على النوم والعمل؛ لأن ستة أمتار التي تشكل مساحة المنزل لا تسعهم جميعهم.

كي نمسك بأهم مفاصل هذا العمل السردي، أرى أن ننظر إليه من الزوايا الآتية:
◅ عتبة العنوان وتصنيف الرواية.
◅ صدى التناص في الرواية.
◅ قضايا وتمثلات في الرواية.

عتبة العنوان وتصنيف الرواية:

رغم أن عنوان الرواية جاء بصيغة الجمع، فإن التصنيف الأقرب إلى جنسها هو رواية الشخصية، ذلك أن مدار الأحداث يتمركز حول شخصية "علي" الذي هاجر تحت ضغط الحاجة والرغبة في الانفكاك من سلطة العائلة (زوجة الأب، الإخوة غير الأشقاء) من تغمرت إلى فرنسا، حيث سيتقاسم المصير ذاته مع صديق عمره "صالح".

يتعزز افتراض انتماء الرواية إلى صنف روايات الشخصية بورود مركب نحوي دال على الشخصية في الصفحات الأخيرة من الرواية: يتيم تغمرت orphelin de Tighmert 'L، وهو مركب نحوي يمكن اقتراحه عنواناً بديلا للرواية.

لقد قال أمبرتو إيكو: "إن أكثر العناوين إثارة لاحترام القارئ هي التي يتم تكثيفها في اسم دال على البطل"3، وإذا كان أمبرتو إيكو يقر باستبداله عنوان روايته الأصلي (دير الجريمة) كي يصير (اسم الوردة)؛ كي يخفف من حدة التأويلات التي يتوقع أن يثيرها العنوان الموحي بانتماء النص إلى عالم الجريمة والروايات البوليسية؛ فإن عنوان رواية سعاد ماء العينين ملغز وملتبس، لأنه يشير بصيغة الجمع إلى فئة Les insignifiants لا تتضح طبيعتها إلا من خلال القراءة الموجهة التي بإمكانها فك لغز الالتباس لدى القارئ.

صدى التناص في الرواية

نلمس في الرواية ما يسميه أمبرتو إيكو: صدى التناص4، ويمكن أن نقفو ما استقر لدينا علمه من تصادٍ بين هذا النص ونصوص أخرى، ونرصده في مواضع متعددة نذكر منها:
◂ صدى التناص ينطبع في ذهن القارئ منذ الوهلة الأولى حين يتعرف إلى الصبي "علي" الذي فقد أمه في عز الصبا، وقادته مشاغباته وقسوة زوجة الأب إلى الهروب/ الخروج من البيت مراراً.

تشمل بنية الخروج هاته عدة أحداث تذكر القارئ بأبطال الحكايات الشعبية، ووظيفة النأي عن البيت التي عدّها فلاديمير بروب ضمن الوظائف الإحدى والثلاثين المشكلة لمورفولوجية الحكاية الشعبية5. يجب أن ننبه في هذا المقام إلى أن مكمن الفرق بين الحكاية الشعبية والرواية موضوع كلامنا هو أن الأحداث في الحكاية الشعبية من صنع الخيال، خلافاً لأحداث الرواية التي تؤكد إحالاتها المرجعية نصيبها من الواقع (أسماء الأماكن، الشخصيات وعلاقاتها الاجتماعية...).

◂ لا يخفى صدى التناص بين رواية Les insignifiants ورواية الكاتب السنغالي الشيخ حميدو كان Cheikh Hamidou Kane الموسومة بـ"المغامرة الغامضة L'Aventure ambiguë"6؛ إذ استعادت الكاتبة جزءًا عميقاً في ذاكرة المجتمع المغربي أيام الاحتلال الفرنسي، حين ساد رفض كبير لتسجيل الأطفال في المدرسة العصرية. وجه التصادي يكمن في كون البطل أو الشخصية الرئيسة شاب عاند رغبة الآباء، والتحق بالمدرسة العصرية وسافر إلى فرنسا رغم اختلاف المسارات.

قضايا وتمثلات في الرواية

◂ أهم القضايا المثارة في الرواية:
تثير الرواية في بحر تنامي السرد عدة قضايا، لعل من أبرزها:
- تحولات الاقتصاد ونمط العيش بفعل الهجرة.
- الإرث والمنازعات العائلية (استحواذ الأخ البكر على التركة والتسويف في قسمة التركة).
- قضايا المعتقد (زيارة قبور الأسلاف، وخاصة مقام الولي "سيدي علي" دفين تغمرت).
- حنين العمال بالخارج إلى أرض الأجداد.
- قضايا النضال من أجل كرامة العمال (المقارنة بين حراك السترات الصفراء، وأحداث حراك الطلاب 1968).
- الطقوس والعوائد ترد بطريقة تجعلها مندغمة في سياق السرد، فلا نلمس مثلا في طريقة تناول طقوس الشاي بالصحراء نوعاً من الإدماج غير المتناغم مع السياق؛ إنما نجد الإشارة إلى الكأس الأولى ضمن سياق منسجم مع تنامي الأحداث، ويفصل الراوي بينها وبين الكأس الثانية بسرد كثيف يتناسب تماماً مع طبيعة الطقوس الحسانية، التي تجعل من جرّ وإطالة أمد صب الكأس الثانية سانحة مواتية لتجاذب أطراف الحديث.

تمثيل الأنا والآخر في الرواية:

تنطوي الرواية على عدة صور تشكل تمثيلات للآنا والآخر، نجملها فيما يلي:
◂ يقدم النص صورتين متقابلتين للآخر الفرنسي هما:
صورة الآخر العنصري/المناوئ: الذي يصيح في وجه "علي" ورفيقه "صالح" لحظة نزولهما على أرض المطار.
صورة الآخر المساعد: السيدة كوميز التي كانت سبباً في حصول "علي" على عمل محترم، ضمن لفيف من أصحاب الوزرات البيضاء (الممرضون).
◂ تنطوي الرواية على تمثلات الآخر الغربي عن الإنسان الإفريقي، تختزلها عبارة جاءت على لسان إحدى الشخصيات: "أنتم الأفارقة، تمتلكون قوة جسمانية فطرية". 

يتساءل الراوي العليم بكل شيء في هذا المقام: هل الأفارقة أقوياء جسمانياً "بالفطرة"، وذاك سر إقدام المناجم والمصانع الفرنسية على تشغيلهم، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون وهماً كرسته تمثيلات الإنسان الإفريقي، على هيئة كائن قوي مفتول العضلات، غيّر تاريخ مزارع قصب السكر في أمريكا؟

 

خاتمة:

يمكن إدراج رواية سعاد ماء العينين الموسومة بـ: Les insignifiants من زاوية موضوعاتية ضمن روايات تسريد الذاكرة، فهي تستثمر معطيات مهمة تتعلق بالذاكرة المشتركة للعمال المهاجرين، الذين قادتهم الرغبة في تحسين ظروف العيش إلى الانتقال من قراهم المنسية إلى فرنسا. ورغم أن الرواية لا تتناول بشكل صريح ما بات يعرف في تاريخ الهجرة بالجنوب المغربي بدور "فيليكس موغا"، في تسهيل تسفير عدد كبير من الشباب القادرين على العمل في المناجم ومصانع السيارات الفرنسية؛ فإن الإشارات الضمنية تحيل إلى هذا الجانب الذي تناوله سابقاً الباحث في التاريخ المحلي: الحسان المنصوري في كتابه: "جوانب من تاريخ الهجرة من منطقة واد نون إلى أوروبا ما بين 1960و2010".

 


الهوامش:
1. زكية داود، زينب النفزاوية، ملكة مراكس، ت. هيبتن الحيرش، إفريقيا الشرق، 2012.
2. Souad MALAININE, Les insignifiants, Editions le Manifeste Casablanca – Maroc, 2021, p 108
3. أمبرتو إيكو، تقنيات الكتابة السردية، ت. سعيد بنكراد، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا، 2009، ص: 21.
4. المرجع نفسه، ص: 25.
5. فلاديمير بروب، مورفولوجيا القصة، ت. عبد الكريم حسن وسميري بن عمو، منشورات شراع، ط1، 1996، ص: 43.
6. Cheikh Hamidou Kane, L’Aventure ambiguë, 1961, p 47

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها