كافكا في المئوية الأولى لوفاته:

"فضيحة مكتب البريد"، المستوحاة من روايته "المحاكمة،" كانت كافكاوية حقًا!

ترجمة: عبدالله بن محمد


هكذا بدأت محنة مدير مكتب البريد السابق في ساتون، هارجيندر بوتوي، واستمرت 14 عامًا، بعد أن تم القبض عليه واتهامه بالسرقة في عام 2007، وسُجن في عام 2008 قبل تبرئته في عام 2021. أصبحت قصته مألوفة بشكل مخجل بفضل التجارب والشهادات العديدة التي تم سماعها في ما يعرف بفضيحة "تحقيق مكتب البريد". ومع ذلك، فإن هذا السّطر ليس من تقرير إخباري بل للكاتب فرانز كافكا. على وجه التحديد، كان السطر الافتتاحي الشهير من رواية "المحاكمة"، التي لا يزال صداها يتردّد بقوة بعد مرور 100 عام على وفاة المؤلف.

وجدت أجيال من القرّاء شيئًا مؤثرًا ومهمًا ومرتبطًا بعمق في رواية كافكا عن "جوزيف ك"، وكفاحه ضد سلطة قضائية حاقدة. في عصره، تحدّثت كتابات كافكا عن مخاوف مبرّرة بين يهود أوروبا الوسطى الذين عاشوا مع ذكريات فظيعة عن هشاشتهم الاجتماعية والقانونية: ذكريات مثل قضية دريفوس؛ تلك الفضيحة المشينة التي تم فيها اعتقال الضابط اليهودي الوحيد في الجيش الفرنسي عام 1894 ومحاكمته بتهم الخيانة التي لا أساس لها. وكانت هناك أيضًا محاكمات التشهير بالدم التي اتُهم فيها اليهود بقتل المسيحيين وفق الطقوس.

تُرجمت رواية "المحاكمة" لأول مرة إلى اللغة الإنجليزية في عام 1937، وعكست حالة الشمولية، ومحاكمات التطهير الكبرى لستالين في روسيا، والمكارثية والخوف الأحمر في الولايات المتحدة، والمناخ العام من الشك وجنون العظمة خلال الحرب الباردة.

ولكن ما الذي يمكن فعله به الآن؟

هناك أوجه تشابه بين قصة كافكا و"فضيحة مكتب البريد" في المملكة المتحدة، والتحقيقات المستمرة في إطار الملاحقة القضائية غير المشروعة؛ لأكثر من 900 مدير فرعي بين عامي 1999 و2014. وقد اتُهم العديد من هؤلاء الرجال والنساء بالمحاسبة الكاذبة والسرقة بسبب أخطاء في نظام كمبيوتر Horizon الخاص بمكتب البريد، النظام الذي كشف بشكل خاطئ عن أموال مفقودة من فروعهم.

في حين أن جوزيف ك. لا يعرف أبدًا طبيعة الاتهام ولا هوية متهميه، إلا أن مديري مكتب البريد الفرعيين يعرفون على الأقل التُّهم المنسوبة إليهم، رغم الغموض الذي كان يحفّ بمصدر المعلومات الكاذبة وتشابك العلاقة بين السلطات المهنية وسلطات الادعاء.

وفي كثير من الأحيان كان الأشخاص الذين جاؤوا "لمساعدتهم" كمدققين في البداية هم الذين عادوا بعد ذلك كمحقّقين وكانوا يتمتعون بسلطات الاعتقال والملاحقة القضائية. علاوة على ذلك، كان في جوهر الاتهامات مصدر خبيث غير بشري، وهو نظام الكمبيوتر المعيب Horizon. وفشلت شركة فوجيتسو، الشركة المشغّلة للنظام، في تصحيح الأخطاء، بينما فشل مكتب البريد في التحقيق بشكل صحيح أو الاعتراف بوجود مشكلة.

إن الجمع بين الغموض والسخافة، فضلاً عن استغلال استعداد أصحاب الضمائر الحية للوم أنفسهم أولاً، يوضّح أن كابوس كافكا ليس مجرد خيال، وأن شبح جوزيف ك.. الخبيث لا يزال يطاردنا.

لم يتمكّن "ك." من الحصول على أي معلومات مفيدة حول قضيته رغم استفساراته وطلباته وأسئلته المتكرّرة. ولكن على الرغم من كل ذلك، فهو لم يشكّ أبدًا بأنه هو قام بشيء ما أفسد النظام، ولم يتوقّف عن التفكير في ما يمكن القيام به للتعويض عما أفسده.

أصبح جوزيف ك. بنفسه يلاحق قاضي التحقيق بالرغم أن الأخير ليس في عجلة من أمره للتحدث معه. وهو أيضاً الذي يتجوّل في أروقة مباني المحكمة بحثاً عن المكان الذي يجب أن يتم استجوابه فيه.

تم إخبار المدراء الفرعيين بشكل فردي أنه لم يتم التبليغ من أي شخص آخر عن مشكلات مماثلة في نظام المحاسبة. واضطر العديد منهم إلى اتخاذ إجراءات يائسة ومكلفة لتلبية توقّعات مستحيلة.

وعلى غرار جوزيف ك، أصبح المدراء الفرعيون محقّقين خاصين: كانوا يخصّصون ساعات لإجراء مكالمات غير مجدية مع خط المساعدة في نظام Horizon، والتدريب والإشراف الذي يستهلك الكثير من الوقت، وعمليات التدقيق والبحث المتعدّدة على أمل أن يؤدي ذلك إلى تجاوز حالة الارتباك. لقد دفعوا لمكتب البريد آلاف الجنيهات من جيوبهم الخاصة في محاولة لتجنب السجن، ووافق الكثيرون على الاعتراف بتهم المحاسبة الكاذبة فقط لوضع حدّ للمحنة التي وجدوا أنفسهم فيها.

لكن كيف تنتهي قصة كهذه؟

غالبًا ما يُفترض أن المحاكمة هي قصة متشائمة؛ لأنها تنتهي بإعدام بطل الرواية في مقلع وحيد مهجور.

بالنسبة لجوزيف ك. لا توجد شخصية شبيهة بآلان بيتس (الناشط والمدافع عن ضحايا الفضيحة) لمساعدته، والتأكيد له أنه لم يكن وحيدًا بعد كل شيء، أو أن الطاولة قد تنقلب في النهاية على متهميه حتى يشعروا بلسعة العار والنبذ. وبفضل بيتس وآخرين، أسقط قانون جرائم مكتب البريد لعام 2024 أخيرًا جميع الإدانات المتبقية.

لكن الفقرة الأخيرة من رواية "المحاكمة"، التي يتعرف فيها المدان جوزيف ك. من نافذة بعيدة في الطابق العلوي على "شخصية بشرية خافتة وواهية"، تتحدّث بثقة عن أمل خافت في التضامن والصداقة والقوة بهدف المساندة والدفع للأمام:
"من كان هذا؟ صديق؟ شخص جيد؟ أحد المتعاطفين؟ أحد الذين أرادوا تقديم المساعدة؟ هل كان شخصًا واحدًا؟ هل كان الجميع؟ هل لا تزال هناك مساعدة؟ هل كانت هناك اعتراضات تم نسيانها؟ بالتأكيد كانت. إن المنطق لا يتزعزع بطبيعة الحال، لكنه لا يستطيع أن يصمد أمام من يريد أن يعيش".

المنطق الذي بدا راسخًا لسنوات عديدة هو أن عدم أمانة مدراء البريد الفرعيين فقط هو الذي يمكن أن يفسّر نواقص مكاتب البريد. إن العودة إلى كلمات كافكا في الذكرى المئوية لوفاته تقدّم تذكيرًا في الوقت المناسب بأن مثل هذا المنطق يجب أن يُقاوم بقوة في المستقبل.
 



المصدر

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها