
تتميّز بلاد اليمن بطبيعتها الجغرافية وتضاريسها المُتنوّعة، وتمتلك تراثًا وموروثًا حضاريًا عريقًا، وتُعتبر القرى المعلّقة في اليمن جزءًا من هذا التراث الذي يعكس قدرة الإنسان اليمني في العيش على المرتفعات، وبراعته في تَطويع البيئة الجبلية، حتى أصبحت هذه القرى تحفةً مِعمارية فريدة من نوعها تنتشر في جميع أنحاء اليمن المختلفة تُعانق السماء في مشهدٍ بديع يأسر القلوب بتخطيطها وهندستها المِعمارية الرائعة، وبمدرجاتها الخضراء البَديعة التي تبدو كدررٍ خضراء تشعّ نورًا وبهاءً، ونظرًا للقِيمة التراثية والأهمية الحضارية لهذه القرى فقد أضيف بعضها على القائمة العالمية للتراث الثقافي غير المادي لليونسكو منذ عام 2015م، ويعكس هذا التصنيف أهمية هذا النوع الفريد من العمارة التقليدية والتراث الثقافي في اليمن والذي يعود لمئات السنين وتعكس حياة اليمنين فوق قمم الجبال.
قُرى اليمن المعلّقة: الفكرة وأسباب الظهور
تتنوّع تضاريس اليمن ما بين سهولٍ وهضاب وصحاري وجبال، وتتميّز أغلب أنحاء اليمن بطبيعتها الجبلية المرتفعة، ويُقصد بالقرى المُعلّقة بمجموعة القرى المُشيّدة أعلى هذه الجبال المرتفعة التي تُحيط بالمدن اليُمنية المختلفة، ويرجع تاريخ بناء هذه القرى إلى القرون الوسطى، وتم استخدامها كملاذ آمن للسكّان المحليين في حالات الحروب والاضطرابات؛ فقد اختار الإنسان اليمني الجبال للسكن إذ وجدوا فيها المَلجأ من الأخطار الطبيعية والأطماع البشرية، فقد نمت علاقة الإنسان اليمني بالجبل منذ عصورٍ قديمة بحيث لا يَفترقان أبدًا، وأصبح كل واحدٍ منهما يُحدّد مصير الثاني، وبَقيت هذه القرى في ارتفاعها كما هي صامدةً حتى يومنا هذا رغم الحروب الكثيرة التي مرت عليها، وتعكس قدرة الفنان والمعماري اليمني في تشكيل ونحت هذه القرى في الصخور بأسلوبٍ هندسي رائع، مُسطّرةً قصة عشق بينها وبين ساكنيها الذين يُصرّون على التشبُّث بأرضهم وعاداتهم وتقاليدهم برغم صعوبة وقساوة العيش فيها.
العوامل المؤثّرة في عمارة وعمران هذه القرى:
تأثّرت عمارة القرى المعلّقة في اليمن بعدة عوامل لعل أهمها عبقرية وبراعة المِعمار اليمني في تشكيل هذه القرى، وفي تكييف هذه الطبيعة الجبلية في إنتاج تصاميم مِعمارية فريدة تتناسب مع الموقع والظروف المحيطة بها، وفي استخدم المواد المحلية في البناء بحرفةٍ ومهارةٍ عالية، ويُشكّل الحجر مادة البناء الأساسية في مناطق المرتفعات الجبلية، وتتنوّع هذه الأحجار من حيث قوتها وصلابتها وطريقة تشكيلها، وقد تختلف ألوانها من منطقة لأخرى بحسب طبيعة المنطقة. كما استُخدم الطين المحلي كمادة رابطة في البناء، وقد أثّرت الطبيعة الجبلية غير المنتظمة في ضرورة تَمهيد طرق وممرات ضيقة وملتوية، وجسور ومعابر حجرية تربط بين المباني والوحدات المختلفة لهذه القرى، ومن أهم العوامل الأخرى التي أثرت في عمران هذه القرى الثقافة والتقاليد اليَمنية المحلية في تشييد المباني المختلفة بها والتي جاءت بطابعٍ معماري يمتاز بخصوصيةٍ كبيرة مُعبّرةً عن الإرث الثقافي والتاريخي للمنطقة، وتعكس التنوّع المِعماري والفني في اليمن1.

مميزات القرى المعلّقة وملامحها المُميّزة:
تتميز القرى المعلّقة في اليمن بالعديد من الخصائص الفريدة لعل أهمها جمال الطبيعة المُحيطة بها، فهي تقع على جوانب جبال شاهقة الارتفاع، وتتميّز بالمناظر الخلابة والمياه الجارية، والمزارع والمدرجات النباتية الخضراء، وتَعكس هذه القرى التراث الثقافي اليمني المحلي، حيث تتميّز بمنازلها التقليدية وواجهاتها الحجرية وتصميمها الداخلي الفريد الذي يَعكس الذوق الفني والإبداع النابع من البيئة المحلية، والتناسق في الأشكال والتفاصيل المعمارية والزخرفية، كما تتميّز هذه القرى بعاداتها وتقاليدها المحلية وبثقافتها الشعبية سواء في الأطعمة المحلية وشرب القهوة اليمنية والموسيقى الشعبية والرقصات التقليدية، ولذا تُعتبر إحدى الوجهات السياحية المُميّزة في اليمن؛ لِما توفره من بيئةٍ هادئة ومريحة للسياح والزوار الذين يرغبون في الابتعاد عن صخب المدينة، والاستمتاع بالهدوء والسكينة في جوٍ من الطبيعة الخلاّبة.
المنشآت المعمارية:
تتميّز القرى المعلّقة في اليمن بتخطيطٍ دقيق يهدف إلى تحقيق وتلبية كل احتياجات سكانها، فتتناثر مبانيها المختلفة هنا وهناك وسط الطبيعة الجذّابة، ويُحيط بها سور من الحجر لتأمين القرية وتحصينها، ومن أهم منشآتها منازلها التقليدية المُشيّدة بالحجر والتي تشتهر بتعدّد طوابقها التي تجعلها أقدم أمثلة لناطحات السحاب في العالم. وفي الحقيقة؛ لقد سَاهمت العمارة اليمنية بخصائصها المحلية في العمارة العالمية، وخاصة في عملية التوجُّه الرأسي الذي يُعتبر الخاصية الرئيسة للمدن القديمة، فلا يُوجد في أي بلد من بُلدان العالم المباني التقليدية المرتفعة لهذا الارتفاع والمُشيّدة بمواد تقليدية وبطرقٍ إنشائية محلية2، وتتميّز هذه البيوت بهندسة بنائها المُميَّزة بجدرانها السميكة المصنوعة من الحجر الذي يتحمّل الأحوال الجوية القاسية والعوامل البيئية المحيطة، وتتضّح عبقرية وإبداع المِعمار اليمني في هذه التصميمات المعمارية المقاومة لعوامل التعرية والزلازل من خلال المرونة التي تُتيحها استقلالية الوحدة الهندسية لكل ركن من أركان البيت، وكذلك في ترابط الأركان مع الواجهات ترابطًا مِفصليًا فيقاوم الزلزال بحركاتٍ طفيفة يحكمها الترابط المرن3.
ومن أهم منشأت هذه القرى؛ المساجد البسيطة في التخطيط الثرية في زخارفها، خاصة في أسقفها التي جاءت آية من آيات الإبداع الفني والزخارف الإسلامية والنقوش المتنوّعة واستخدام الألوان الزاهية، كما تميّزت هذه القرى بتحصيناتها الدفاعية وقلاعها وأبراجها التي تتخذ أشكالاً مختلفة منها الدائرية والمربعة، والتي تُعرف بالنوبة أو القصبة واشتهرت بشكلٍ كبير في شبه الجزيرة العربية، والتي شُيّدت للحماية وللتأمين4، وتُقسّم سفوح الجبال حول هذه القرى لمدرجاتٍ أو مصاطب زراعية تُعرف باسم (الشِعاب)، وتتميّز بتخطيطها الهندسي البديع والذي يتناسب مع طبيعة انحدار الجبال، وتحدها جدران على خطوط تتعاكس بدقة مع الانحدار بارتفاعات متفاوتة، وتُشير المصادر التاريخية أنّ اليمن هي من أقدم البلدان في الجزيرة العربية ويُنسب إليها ابتكار نظام المصاطب والمدرجات الزراعية منذ عصر الدولة السبئية، وجاءت هذه المدرجات عبارة عن سلاسل خطوط كنتورية متعاكسة للانحدار؛ لحماية التربة من الانجراف وحفظ رطوبتها، وكانت تُزرع فيه المحاصيل المختلفة خاصة البن اليمني المشهور، وكانت جبال ومرتفعات اليمن موطنًا لزراعة البن كجبال حراز وصعفان وجبال يافع وإب وغيرها، وتُعدّ هذه المدرجات تقنيةً متقدمة زراعيًا؛ فهي تعمل على خصوبة التربة وتماسكها، وتحميها من التعرية، وتعمل على حفظ مياه الأمطار في الآبار وخزّانات المياه الجوفية، فهي دليل على عبقرية الإنسان اليمني في تطويع البيئة الجبلية واستغلالها لإنتاج الغذاء.

نماذج من قرى اليمن المعلّقة:
تكثر القرى المعلّقة في اليمن على قمم وسفوح الجبال، ومن أشهر أمثلتها القرى الموجودة بمنطقة مَناخَة في جبال حراز بجنوب غرب صنعاء، وقد اكتسبت هذه المنطقة مكانةً استراتيجيةً كبيرة؛ حيث كانت حراز نقطة توقف مهمة للقوافل التجارية عبر التاريخ من الشام إلى مكة وجازان في الحجاز مرورًا بصنعاء، وتُشتهر بزراعة أشجار البن كما ينتشر في منحدراتها عدد من الوديان الغنية5، وأيضًا من أمثلتها قرية الحطيب في محافظة صنعاء والتي بُنيت في القرن الخامس الهجري تقريبًا، وهي عبارة عن حصن وقرية من حصون آل الصُليحي وتُحيط بها الأسوار العالية، ويصل ارتفاعها إلى 3200م فوق سطح الأرض، وتجمع الحطيب بين الطابع المعماري القديم والحديث وسمات الريف والحضر، ونظرًا لقيمتها التاريخية الكبيرة أُدرجت في القائمة المؤقتة لليونسكو للتراث العالمي عام 2002م6، ومن أمثلتها أيضًا القرى الواقعة على امتداد سلسلة جبال حراز ما بين صنعاء والحُديدة، وجبال المحويت شمال اليمن، وفي محافظتي الضالع وحضرموت جنوبًا، ولا يمكن إغفال قرية شبام حضرموت، وهي من أكثر قرى الوادي شهرةً ويُسمّيها السياح منهاتن الصحراء، نظرًا للارتفاع الكبير في مبانيها والتي تتراوح بين 5 طوابق و11 طابقًا وجميعها مُشيّد بالطوب اللبن.
وأخيرًا؛ تُعتبر القرى المعلّقة في اليمن تحفةً فنية فريدة من نوعها، وتعكس تاريخًا ثريًا للمنطقة معبّرةً عن الحضارة اليمنية القديمة، وعمارتها التقليدية وموروثاتها الحضارية، ويجب الحفاظ على هذا التراث الثمين لأنه جزءٌ لا يتجزأ من تاريخ اليمن وتراثه الحضاري العريق.
الهوامش: 1. محمد علي العروسي، العمارة اليمنية في العصر الإسلامي، مجلة الإكليل، ع27، 2002م، ص: 75-77┇2. محمد محمود العلفي، خصائص العمارة اليمنية، ص: 66-68.┇3. حسن الباشا، موسوعة العمارة والآثار والفنون الإسلامية، مج2، ص: 42-47.┇4. عبد الله عبد السلام الحداد، الاستحكامات الحربية الإسلامية في اليمن (دراسة تاريخية أثرية معمارية)، مجلة المنهل، المملكة العربية السعودية، ع571، ص: 64.┇5. إبراهيم المقحفي، معجم البلدان والقبائل اليمنية، ج1، ص: 491.┇6. المناخه، الموسوعة اليمنية، ج4، ص: 2849-2850.