سوسيولوجيا التربية

بين بيير بورديو ورايمون بودون

عبد الخالق بهلول


نظر علماء الاجتماع إلى التربية بوصفها (ظاهرة اجتماعية)، تستحق الدراسة سوسيولوجياً؛ لأن المدرسة، في عمقها، تعكس محيطها الاجتماعي بشكل مباشر أو غير مباشر. ومن ثم، لا بد من جعلها موضوعاً للسوسيولوجيا، من خلال دراسة المؤسسة التربوية من الداخل والخارج، ودراسة مكوناتها وعناصرها ونسقها الوظيفي الكلي، ورصد مختلف الأنشطة التي تقوم بها المؤسسة التعليمية، سواء أكانت أنشطة مادية أم معنوية، ثم رصد مختلف العلاقات التفاعلية التي تجريها المؤسسة مع المجتمع الخارجي، بالتوقف عند ثوابتها ومتغيراتها، واستجلاء خصائصها ووظائفها وأدوارها المجتمعية، ومن بين الأعلام الذين سلكوا هذا المسلك، وآمنوا بأن التربية موضوع سوسيولوجي، وأن المؤسسة عبارة عن مجتمع مصغر، الفرنسي بيير بورديو، وسنقف في هذا العمل عند العوالم الفكرية المؤطرة لسوسيولوجيته النقدية، من خلال رصد المرجعيات النقدية التي أفرزتها، وتتبع المفاهيم التي أنتجتها، ثم رصد الانتقادات التي وجهت إليه.
 

ونشير بدءاً إلى أن سوسيولوجيا التربية عند بورديو تنطلق من مجموعة من المسلمات الكبرى، أولاها أن كل مجتمع يسعى إلى إعادة ظروف وجوده، وثانيتها أن الفوارق الطبقية تعيد إنتاج نفس الظروف، وثالثها أن المؤسسات الانتقائية تعيد إنتاج نفس الظروف القائمة أيضاً، ورابعها أن وظيفة المؤسسة التعليمية هي إعادة إنتاج نفس الأوضاع الاجتماعية، وقد مهدت هذه المسلمات لمشروعه التربوي؛ لأن بورديو آمن بأن وظيفة المدرسة تتحدد في إعطاء المشروعية للوضع القائم  la légitimation de l'ordre social بمعنى أن المؤسسات التعليمية تقوم بإعادة إنتاج نفس الأوضاع الاجتماعية، وتبررها من خلال عوامل طبيعية l'idéologie do don عبر فكرة الجدارة والاستحقاق، فالمدرسة من بين الآليات التي لا تحرر الأفراد كما يرى بورديو.

وقد ساهمت مجموعة من المرجعيات الفكرية في بناء النظرية التربوية لدى بورديو، وفي مقدمتها الاتجاه الماركسي (إعادة الإنتاج، الطبقات الاجتماعية...)، وتصورات ماكس فيبر (الفعل الاجتماعي...)، وسوسيولوجيا إيميل دوركهايم، فضلًا عن التأثر بالبنيوية الاجتماعية والاتجاه النقدي، وقد أفرز هذا التعدد في المرجعيات ترسانة من المفاهيم التي أسس بها بورديو نظريته في التربية، وفي مقدمتها مفهوم القهر الثقافي؛ فقد رأى بورديو أن المدرسة تقدم ثقافة الطبقة المهيمنة، بوصفها ثقافة محايدة وموضوعية، وتفرض هذه الثقافة في المؤسسات التربوية، وهو ما يخلق اللامساواة، ويجعل المؤسسة تمارس ما يشبه القهر الثقافي على أبناء الطبقات الأخرى، الذين يفرض عليهم تقبل هذه الثقافة الأحادية رغماً عنهم، ثم مفهوم العنف الرمزي الذي عرفه بورديو بأنه: "عنف لطيف وغير محسوس، وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياه أنفسهم " (Bourdieu & Passeron, 1970)، ويمارس هذا النوع من العنف عبر مختلف الوسائل الرمزية، مثل اللغة، والقانون، والتعليم، والإعلام، والدين، والعادات والتقاليد، ويعد القهر الثقافي أحد المفاهيم التي استند إليها بورديو في بناء نظريته التربوية؛ إذ جعله أداة لفرض هيمنة ثقافة الطبقات الحاكمة في الوسط التربوي، وهي الثقافة التي سماها ثقافة اللامساواة، التي يتقبلها أفراد المجتمع، بناء على ما سماه الهابيتوس  habitus وهو نظام من الاستعدادات المكتسبة التي تتميز بالاستمرارية والقابلية للنقد، ويراد بهذه الاستعدادات طرق التفكير والإدراك والفعل التي يتم استنباطها غالباً بطريقة لا واعية في المراحل الأولى للطفولة.

وتتميز هذه الاستعدادات بعدم قابليتها للتغير بعد أخذها لمكانتها، ويساهم الهابيتوس في ترسيخ الاختلاف والتمايز، ما دام أن لكل طبقة اجتماعية هابيتوس خاص بها يختلف عن هابيتوس الطبقات الأخرى، وقد استطاع بورديو من خلال هذا التصور تجاوز النظرة الحتمية الخارجية، والنظرية الفردانية الواعية ليمزج بين التصورين من خلال الهابيتوس الذي يجمع بين النظرية الاستبطانية والنظرية الفردية، فضلًا عن ذلك فإن الهابيتوس هو دليلي قوي على الانتماء الاجتماعي بترسانته الثقافية والاجتماعية والسياسية.

ويعتقد بيير بورديو أن الفعل البيداغوجي يحتوي سلطة بيداغوجية، وهي التي تحدد نوع العمل البيداغوجي، وبالتالي، فالعنف الرمزي يوجد داخل العمل البيداغوجي، وهذا العنف يقوم بإعادة إنتاج نفس الأوضاع الاجتماعية؛ لأنه من خلال الهابيتوس يقوم الأفراد باختيار توجهاتهم ومشاريعهم المستقبلية فيرفض الأفراد بذلك ما هو مرفوض ويقبلون ما هو حتمي، وبالتالي فحرية الاختيار ليست سوى وعي زائف.

وقد تعرض التصور لجملة من الانتقادات، ومن أبرزها انتقادات رايمون بودون الذي رفض نظرية ببير بورديو التي تقول إن الفرد يعيد إنتاج وضعيته الاجتماعية، ورأى، في المقابل، من خلال نظريته الفردانية الميتودولوجية أن الفرد لا يخضع للإكراهات الاجتماعية بأشكالها الصارمة، بل إن أفعاله تتحدد من خلال مجال الممكن بصورة أدق، وليس للإكراه الاجتماعي معنى إلا إذا ربطناه بالفعل أو القصد l'action l'intention، فالتراتبية الاجتماعية شكل من الأشكال الجوهرية المكونة للحياة الاجتماعية، لذلك يجب دراسة القصد الذي يعطيه الفاعل لفعله، وبالتالي فإن التفاوت في التعليم هو نتاج لتركيبة النظام الاجتماعي، واللامساواة الدراسية هي نتاج لالتقاء النظام التعليمي مع البنية الاجتماعية الهرمية.

ولذلك؛ يرى بودون أن النسق التعليمي يشبه عالم السياسة الذي تظهر فيه عدة أزمات ناتجة عن المفاعيل المنحرفة التي تتحدد بالتفاعل الاجتماعي بين الأفراد، وهذا يعني أن التفاوت في التعليم هو نتاج للاختيارات الاستراتيجية للأفراد، وهذا ما يفسر، عنده، اللامساواة وعدم تكافؤ الفرص التي تحدث عنها بورديو، فالبنية الهرمية في ربطها بالكلفة والمخاطر والفائدة تجعل الأفراد في النظام التعليمي يتوقفون دائماً من أجل اختيار المسار الذي يناسبهم، وبالتالي فالاختيار يكون اختياراً مؤثراً بالبنية الهرمية، فأبناء الطبقة الفقيرة مثلًا يحالون الوصول إلى منافع أكثر بكلفة وخطورة أقل، وبالتالي يتوقفون عن الدراسة عند وصولهم لمستوى معين يساعدعم في تغيير وضعيتهم الاجتماعية، في حين أن أبناء الطبقة الغنية يكملون الدراسة لينالوا مناصب تناسب انتماءهم الاجتماعي، ونستنتج من مجموع هذا أن المدرسة لا تقوم بإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي؛ لأن المدرسة تتأثر بالضرورة بما يقع في البنية الاجتماعية الهرمية.

ومن باب الختام، نختم بهذه المقارنة البسيطة بين بورديو وبودون، على النحو الآتي:


 



المراجع المعتمدة:
Pierre Bourdieu et Jean-Claude Passeron, La reproduction : Éléments d’une théorie du système d’enseignement, Les Éditions de Minuit, coll. « Le sens commun », ‎ 1970 ▸
Raymond BOUDON : Individualism et holisme en sciences sociales. Dans : Pièrre Birnbaum et Jean Leca (S/D): Sur l’individualisme. Ed. PFSP. Paris. 1991 
Raymond BOUDON : La logique du social, introduction à l’analyse sociologique. Hachette / Pluriel, Paris, 1997 

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها