تعتمد قصص الحيوان على الرمز بوصفه وسيلةً فنيةً تهذيبيةً، يتمكن عن طريقها الكاتب من نصح ووعظ وإرشاد المتلقي، بطريق غير مباشر.. هو السرد على لسان الحيوان، ومن هنا ارتبط هذا النوع الأدبي بالحيوان1، وتمت تسميته بـ(أدب الحيوان)، ويُعرّف بكونه عبارة عن "قصص رمزية يحرك كاتبها حيواناته كما يشاء، ويُنطقها بما يريد، وهدفه من ذلك قول ما لا يستطيع قوله على لسانه، أو على لسان إنسان آخر، لظروف تمنعه من التصريح"2.
ويرى عبد الحميد يونس أن هذا النوع من الحكي "عبارة عن حكاية حيوان تستهدف غاية أخلاقية، وهي قصيرة تقوم بأحداثها حيوانات تتحدث وتتصرف كالأناسي، وتحتفظ مع ذلك بسماتها الحيوانية، وتقصد إلى مغزى أخلاقي"3.
وتحمل كتب التراث أشتاتاً من الخرافات عن الحيوانات والجمادات والأفلاك والنباتات، ولعل أشهر الكتب -على سبيل المثال لا الحصر- التي ظهر فيها هذا النوع من الأدب الرمزي هي: "مجمع الأمثال" للميداني، ففيه نماذج من إنطاق الحيوانات كلاماً، وكذا كتاب: "الحيوان" للجاحظ، وكتاب "حياة الحيوان" للدميري، و"محاضرات الأدباء" للراغب، و"البصائر والذخائر" لأبي حيان.
وعلى الرغم من كثرة الكتابات الرمزية إلا أن "ابن المقفع" يُعدُّ المؤصل الأول، أو المؤسس الحقيقي لهذا النوع الأدبي في التراث القصصي العربي المدّون، حيث استعار "ما وضع على ألسنة البهائم والطير في خلق منظومة رمزية لنص مضاد للسلطة، وكان "كليلة ودمنة" أول نص مدّون لهذه الحكايات والخرافات في إطار الثقافة العربية"4. فظهرت بسببه كثير من الكتب النثرية والمنظومات الشعرية، التي تحاكيه وتنسج على منواله، إلى أن جاء كتاب "فاكهة الخلفاء" لابن عرب شاه، بوصفه آخر حلقة -قبل العصر الحديث- في سلسلة الكتابات الرمزيّة، أو القصص على لسان الحيوان، "فإذا كان كتاب كليلة ودمنة -بشهرته العربية والعالمية الطاغية- هو أول كتاب في تراثنا القصصي ينتقل بقصص الحيوان الرمزية العربية من مرحلتها الشفاهية إلى مرحلتها الكتابية؛ فإن كتاب فاكهة الخلفاء هو آخر كتاب في التراث العربي على لسان الحيوان"5.
وقد تتبع محمد غنيمي هلال أشهر الأجناس الأدبية، ودرسها في نواحيها المقارنة؛ ليوضح كيف تم تبادل الصلات بين الآداب المختلفة، وكان من ضمن هذه الأجناس التي رصدها (القصة على لسان الحيوان)، حيث بحث جذورها التاريخية القديمة، وكيف نشأت شعبية أو أسطورية، ثم أخذت في الارتقاء كجنس أدبي له مكانته، وقد توصل في دراسته المقارنة للخرافة أو الحكاية على لسان الحيوان إلى أن ترجمة ابن المقفع لكتاب "كليلة ودمنة"، من اللغة البهلوية إلى اللغة العربية -حوالي القرن الثامن الميلادي- كانت سبباً في خلق هذا الجنس الجديد في الأدب العربي القديم، ثم توالت المؤلفات التي حاكته، ونسجت على منواله نظماً ونثراً، يقول غنيمي هلال:
"كانت ترجمة عبدالله بن المقفع هذه سبباً في خلق هذا الجنس الأدبي الجديد في اللغة العربية، ذلك أن حكايات الحيوان في الأدب العربي القديم قبل كليلة ودمنة كانت إما شعبية فطرية تشرح ما سار بين العامة من أمثال، وإما مقتبسة من كتب العهد القديم، أي ذات طابع ديني يتصل بالعقائد، وأما ما عدا ذلك فمتأخر عن كليلة ودمنة ومتأثر به"6. ولعل الحالة السياسية المضطربة، التي كانت تسود البلاد في زمن المنصور، الذي يشبه بـ"دبشليم"، كانت من الدوافع الأساسية التي ألجأت ابن المقفع لترجمة هذا الكتاب.
وقد شُغف الكُّتاب والشعراء بمحاكاة "كليلة ودمنة" فأخذوا ينسجون على منواله، فمنهم من عارضه، ومنهم من نظمه شعراً، ومنهم من حذا حذوه فألف وأبدع، ففي العصر العباسي الأول عهد "جعفر بن خالد البرمكي"7 إلى "عبدالله بن هلال" بترجمة الكتاب مرة ثانية له8، ولكن لم يصل إلينا شيء من هذه الترجمة. كما كلَّف جعفر "أبان اللاحقي" بنظم كليلة ودمنة، فنظمه في 14000 بيت، لم يبق منها سوي سبعين بيتًا ذكرها "الصولي" في كتابه "الأوراق"، وهناك أيضًا: "نتائج الفطنة في نظم كليلة ودمنة" للشريف ابن الهبّارية، وهو الذي ألف كتاباً آخر على شاكلته سماه "الصادح والباغم"، كما نظم الكتاب شعراء آخرون منهم: علي بن داود وبشر بن المعتمر9، ثم نظمه في عهد "صلاح الدين" أسعد بن مماتي في مصر، ثم نظمه أيضاً "عبد المؤمن بن الحسن بن الحسين الصاغاني" تحت عنوان: "غرة الحكم في أمثال الهنود والعجم"، كما نظمه "جلال الدين الحسن بن أحمد النقاش" في القرن التاسع الهجري وغيرهم كثير، وقد كان أخرها في العصر الحديث منظومة "الشيخ محمد بن عبدالرحيم ترة" تحت عنوان: "زعموا أن" أو "كليلة ودمنة". وللأسف، فإن كثيراً من هذه المنظومات قد ضاع، ولم يصلنا، وبعضها ما يزال حبيساً في مكتبات الغرب، خاصة: فيينا وميونخ، ومكتبة المتحف البريطاني، وقلة قليلة هي التي طبعت10.
وعلى هذا الأساس يُعدُّ كتاب كليلة ودمنة هو العمدة أو المؤصل الأول، فلم يقتصر تأثيره على المنظومات الشعرية، بل تعدى ذلك كله، حتى وصل إلى الكتابات الفلسفية والفكرية. فمن الفلاسفة "إخوان الصفا" في القرن الرابع الهجري، فقد وظفوا الحيوانات وأجروا على ألسنتها آراءهم الفلسفية، فجاءت مبادئهم الفكرية داخل قوالب قصصية مبنية على الحوار والمناظرة لعالم الحيوانات والجن والإنسان، ففي رسالتهم "تداعي الحيوانات على الإنسان" تقرأ في نهايتها تصريح الإخوان بغرضهم وباعثهم الحقيقي من توظيف الحيوان: "ونحن قد بيّنا في هذه الرسالة ما هو الغرض المطلوب على لسان الحيوان، فلا تظنن بنا ظن السوء، ولا تعد مقالتنا ملعبة الصبيان، ومخرفة الإخوان؛ لأن عادتنا جارية على أنَّا نبين الحقائق بألفاظ وعبارات على وجه الإشارات، وتشبيهات على لسان الحيوانات، ومع هذا لا نخرج عما نحن فيه، عسى أن يتأمل المتأمل في هذه الرسالة وينتبه من نوم الغفلة، ويتعظ من مواعظ الحيوانات وخطبهم، ويتأمل كلامهم وإشاراتهم لعله يفوز بالموعظة الحسنة"11.
هكذا قام القص الرمزي بالدور المنوط به على أكمل وجه، لما وُجد فيه من خير معين، وأحسن خادم ومطيع، فعلى لسان الحيوان لبى المفكرون نداء أفكارهم المكبوتة -بسبب القمع السلطوي- ووصل الكُّتاب إلى غاياتهم المقصودة، وكان من أبرزهم "سهل بن هارون"، فينسب إليه كتابان أحدهما بعنوان: "ثعلة وعفراء"، والآخر -ونسبته إليه فيها نظر- بعنوان: "النمر والثعلب"، وأيضاً: "محمد بن أبي القاسم بن علي القرشي المالكي"، ألف كتاب: "سلوان المطاع في عدوان الأتباع"، وكتب "عبد السلام بن أحمد بن غانم المقدسي"12 "كشف الأسرار عن الحكم المودعة في الطيور والأزهار"13.
ومـن الـمُـلـفـت للنظر أن حكايات "ألف ليلة وليلة" قد حظيت بنصيبٍ وافرٍ من قصص الحيوان، حيث "أفردت الليالي صدرها لمجموعة كبرى من هذه القصص جاءت متصلة في قرابة نصف مجلد من مجلداتها الأربعة، كما جاءت متفرقة، متناثرة، في سائر قصص الليالي -كحكايات فرعية- ترويها شهرزاد تأكيداً لمبدأ أو تدليلًا لقضية، أو تفسيراً لسلوك، أو شرحاً لبعض الطباع الإنسانية، أو حسماً لموقف، أو برهانًا لفكرة"14. فتطل حكايات الحيوان برأسها من مطلع الحكاية الإطارية لليالي، عندما تطلب "شهرزاد" من أبيها أن يزوجها "شهريار"؛ لتكون سبباً في إنقاذ بنات المسلمين، وحيلة لخلاصهن من المصير الأسود الذي يقضي عليهن الواحدة تلو الأخرى فجر كل صباح، ويجد الأب في طلب ابنته مخاطرة بالنفس، فيرفض طلبها بشدة، ولكنها تُلح عليه فيحاول أن يثنيها عن قرارها بحكاية "الحمار والثور مع صاحب الزرع"15.
ولقد كتب السيوطي مقاماته، فجاءت مجموعة منها قائمة على المناظرات والمساجلات، حيث وظف الرمز في ثلاث مقامات هي: "مقامة الرياحين"، و"المقامة المسكية"، و"المقامة الياقوتية". هكذا توالت الأعمال السردية الرمزية، التي اتخذت من الرموز الحيوانية أبطالًا وشخوصاً، إلى أن جاء كتاب "فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء" لابن عرب شاه، بوصفه آخر كتاب تراثي -قبل العصر الحديث- على ألسنة الطيور والحيوانات.
الهوامش: 1. أطلق "جيرار جينيت" على هذا النوع الأدبي: (الخرافة الحكميِّة أو الخرافة الحيوانية)، وذهب إلى القول بأنها: "أمثولة ذات وظيفة إقناعية" انظر: جيرار جينيت: خطاب الحكاية "بحث في المنهج"، ترجمة: محمد معتصم، عبدالجليل الأزدي، عمر حلي، المجلس الأعلي للثقافة، ط2، 1997م، ص: 244. / 2. محمد التونجي: المعجم المفصل في الأدب (جزآن)، دار الكتب العلمية ـ بيروت، ط1، 1993م، ص: 45. / 3. عبدالحميد يونس: الأعمال الكاملة، مجلد (1)، قام بالجمع والتنسيق: عائشة عبدالرحمن الخميسي، تقديم: أحمد علي مرسي، محمد الجوهري، مصطفى جاد، المجلس الأعلى للثقافة ـ القاهرة، 2007م. ص: 435. / 4. ضياء الكعبي: السرد العربي القديم "الأنساق الثقافية وإشكايات التأويل"، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ـ بيروت، ط 1، 2005م، ص: 237. / 5. أحمد بن محمد بن عرب شاه: فاكهة الخلفاء ومفاكهة الظرفاء، تحقيق: د. محمد رجب النجار، الهيئة العامة لقصور الثقافة ـ القاهرة، سلسلة الذخائر، عدد (94)، ط1، 2003م، ص: 7. / 6. محمد غنيمي هلال: الأدب المقارن، نهضة مصر ـ القاهرة، 2004م، ص: 151. / 7. كان "جعفر بن خالد البرمكي" من المثقفين الفرس، الذين يعملون في خدمة البلاط العباسي، ولمّا كان زمام السلطة الثقافية في بدايات الدولة العباسية بأيدي الفرس -ولاسيما البرامكة- فقد بادروا إلى التعصب لكتاب "كليلة ودمنة"، ورصدوا الجوائز السنيّة لمن يحاكيه شعرًا حتى يسهل حفظه وذيوعه بين العامة والخاصة. ولعل الشعوبية سر الاهتمام الكبير بكتاب "كليلة ودمنة"؛ الصراع المشتجر بين العرب والفرس سياسيًا وثقافيًا -دفع البرامكة- أحفاد الفرس إلى تبني كل مأثور يعود إلى الثقافة الفارسية... انظر: محمد رجب النجار: التراث القصصي في الأدب العربي"دراسة سوسيوسردية"، ذات السلاسل ـ الكويت، 1995م ـ ص143. / 8. كانت الترجمة الأولى "لابن المقفع". / 9. محمد فتحي الريس: القصة على لسان الحيوان بين العربية والفارسية، مجلة كلية الآداب جامعة القاهرة، المجلدان: (32-33)، الجزءان: (2،1)، مايو، ديسمبر (1970ـ1972م)، ص: 336. / 10. محمد رجب النجار: التراث القصصى في الأدب العربي "دراسة سوسيوسردية"، ذات السلاسل- الكويت، 1995م، ص: 143 ـ 144. / 11. إخوان الصفا: تداعي الحيوانات علي الإنسان، تقديم: فاروق سعد، منشورات دار الآفاق الجديدة ـ بيروت ـ ط2، 1980م، ص: 263. / 12. هو أحد المبرزين في الوعظ والنظم والنثر وينسب إليه كتاب: "كشف الأسرار"، ألفه في عصر "السلطان بيبرس"، انظر: محمود رزق سليم: عصر سلاطين المماليك ونتاجه العلمي والأدبي، المجلد السادس: في النثر الفني، مكتبة الآداب ـ القاهرة، 1962م، ص: 74. / 13. ذكر "شوقي ضيف" أن: "هذا الكتاب الطريف يقع في 30 صفحة، وقد جعله المؤلف على ألسنة الأزهار، ثم ألسنة الطيور، ثم ألسنة الحيوان، ليكون موعظة لأهل الاعتبار، وتذكرة لذوي الأبصار والاستبصار، فهدفه التعليم والوعظ ودفع الإنسان إلى السير في الطريق السديد، واعيًا لحكمة الله في خلقه، متعظًا بما تورده عليه الحيوانات والأطيار والأزهار من مواعظ وحكم وأمثال" انظر: شوقي ضـيف: تاريخ الأدب العربي "عصر الدول والإمارات". / 14. محمد رجب النجار: التراث القصصي ـ مرجع سابق ـ ص: 146. / 15. هي أولى قصص الحيوان في ألف ليلة، جاءت -قبيل الليلة الأولى- في مدخل الليالي. ولمزيد من التفاصيل راجع: ألف ليلة وليلة: إعداد: رشدي صالح، دار الشعب، د.ت، ص: 18 - 20.