حَرائِقُ الفنان.. هل يطفئها التشكيل؟

حوار مع الفنان التشكيلي أحمد معلا

حاورته: سها مصطفى


تتنوع تجربة الفنان التشكيلي أحمد معلا تشكيلياً، فهو في مد وجزر بين فنون متعددة من اللعب بين الفراغ والمساحة والضوء، إلى أحجيته المفضلة: الحركة والسكون، وصولاً إلى الاحتراق وتصميم ورسم أغلفة الكتب والروايات. وتجربة معلا تختلف تشكيلياً فهو ليس مكثراً في المعارض الفنية، وينحو نحو التجريب باستمرار، لذلك ترى هويته الثقافية في بناء مستمر، وهو في معرضه الأخير في دبي يخلق طرائق تعبيرية جديدة في ورشات عمل فنية لا تتوقف؛ إذ ينغمس في إيقاع لوني متوازن في لوحاته، للوجوه والضربات التي تستحوذ على سطح المادة بشكل بدائي طفولي يعيدنا إلى الكينونة الأولى.


في لوحاته وجوه وأجساد بشرية مجتمعة وفردية، من مواد مختلفة تطلق أفقاً للمتخيل وتمزج معه الواقع، تعددت التقنيات المستعملة في اللوحات التي بدت صغيرة أقرب لتقنية الكولاج في بعضها، واعتمدت على القهوة والباستيل الزيتي على الورق، وعلى تكنيك مختلط يمزج الوجوه الغائمة على خلفية بيضاء. بعضها اعتمد على تقنيات مختلطة تسمح بخلق الفراغ داخل اللوحة، وإعطائه بعداً إضافياً يجعل المسافات والخطوط تبدو خيالاً بين الوجوه والأشكال.

قدم الفنان التشكيلي أحمد معلا معرضه "احتراق"، بعد أعوام طويلة من الغياب عن الساحة التشكيلية، وقد كان للرافد الرقمي هذا اللقاء معه.


⊙ منذ ثماني سنوات لم تقدم معرضاً؟

ليس فقط منذ ثماني سنوات؛ وإنما منذ عام 2011 فضلت الصمت، وشعرت أن أهلي يتشاجرون ولا يعرفون ما يجري لهم، حاولنا أن نتحدث عن الأمر قليلاً لكن بدا لاحقاً أن الأمور تتجه باتجاه شيء حاد جداً بكل التركيبات، لذلك فضلت الصمت وآثرته. وحتى المعرض الذي قدمته عام 2014 هو عبارة عن مجموعة أعمال موجودة سابقاً، لكوني أعمل مع غاليري في بيروت كانوا ديناميكيين وبإمكانهم تنفيذ معرض بالأعمال الموجودة لديهم، لذا فعلياً لم أقم معرضاً منذ عام 2011، رغم أني اشتغلت أعمالاً لكني لم أعرضها، وهي المرة الأولى التي أعرض فيها بعد كل هذه المسافة الطويلة، لقد شعرت أنه يكفي صمتاً، وكل الأمور انكشفت والكل يفهم ما جرى.

⊙ حرائق الفنان، هل يمكن أن يطفئها التشكيل؟

"احتراق" هو تجربة موجودة بالأصل من التسعينيات وبدأت في فندق الشام، كنت في تلك الفترة على الطاولة أرسم بالباستيل والقهوة، وكان الندل يساعدونني، ولديّ أصدقاء منهم حتى الآن. يأخدون العمل وهو مبلّل، ويضعونه فوق مكنة القهوة الإيطالية لينشف، ثم يعيدونه لي لأضيف عليه، فأعاود حرق أطرافه. والقصة المزعومة أنه كان هناك فنان يسجل يومياته ومشاهداته ونبوءاته وقراءاته بمشهدية معينة على ورق A4، وكان يربط كل رزمة لوحدها، وامتلأ مرسمه بها، وفي يوم من الأيام احترق المرسم كله خلال التسعينيات، لذا باتت أطراف الأعمال محترقة، والأشياء التي تمكّنّا من إنقاذها هي الموجودة، والفرق بين هذه التجربة وتلك التجربة أن الحريق هنا وصل إلى داخل العمل، هناك احترقت الأطراف فقط، هنا الحريق في هذا المعرض تمدد لداخل العمل، وأحياناً يرسم لنا الحيز الذي نتحرك فيه، هذا هو الفرق بين تجربة اليوم والأمس، إضافة إلى أنه في تلك الفترة لكوني كنت أشتغل على طاولة بالفندق لم تكن هناك إمكانية للعمل سوى على ورق بمقاس الـA4. هذه المرة -وكان هذا بحاجة جهد تقني- تمكنت من عمل مقاسات كبيرة وصلت لحوالي متر وعشر سم، و60 سم، وهذا بالتقنية التي أعمل بها هو أمر صعب.

⊙ ثمة تحول بلوحاتك بين الأمس واليوم؟

معرض 2011 كان بعنوان "رمادي رماد" في غاليري غرين آرت في دبي، وقبله معرض "تحية إلى سعد الله ونوس"، وكان كله بلاك آند وايت، وكان عبارة عن طقس عرض في غاليري أتاسي. ومعرض "ميرو" عرضته قبله في عام 1994.

لا أقيم تجربتي بين معارضي وتوجهي الفني، فالأمر ليس توجهاً فنياً لكوني عملت في مجالات متنوعة منذ عدت من دراستي بأوروبا، كان بذهني أن أنجز تراكماً معرفياً، وأن أي أحد يمكنه أن يطل على مساحات وآفاق جديدة يجب أن ينقلها من خلال خبرته وتواصله، لذا عملت بالمسرح والتلفزيون والسينما والطباعة والمطبوعات والتدريس بالجامعة، وعملت بالتصوير والرسم والنحت، ومعرضي "ميرو" و"تحية لسعد الله ونوس" كانا محاولة لخلق طقس تشكيلي، وفي تلك الفترة أثبت لي كل شيء أن الناس متعطشون للتعامل مع فن حقيقي، فكانت هي عبارة عن معركة ضد فكرة أن: فن الرسم هو شيء للنخبة، برأيي لا، كل الناس قادرة على أن تتمتع بالفن، وتشارك فيه، وتكون جزءاً منه، لذلك تجارب مثل "تحية إلى سعد الله ونوس" و"ميرو" بثلاثة أبعاد أنجزت شيئاً عظيماً بحضور الناس وكمية الناس التي حضرت وتابعت: هذا كان الرهان!

لكن المبالغ المادية ليست متاحة دائماً حتى ننجز معرضاً أو طقساً تشكيلياً مكلفاً. لذا يلجأ الفنان لأمور قادر على التعامل معها، ففي المعرض الحالي لم يكن لدي حيز، ولا مرسم، فكان من الطبيعي أن أشتغل على طاولة صغيرة، لذلك الأعمال صغيرة أو من ورق، لأنه لا مكان لاستيعاب مواد فيها ألوان كبيرة، إضافة إلى أنه بتلك الفترة قمت والدكتور حسان عباس بتنفيذ تجربة مهمة وهي "دليل للمواطنة"، ونحتّ مجموعة كبيرة من الأعمال بالطين، وصورتها، واستخدمت الوثيقة البصرية بالصورة، وألغيت الأصل الطيني؛ بناء عليه خلقت المادة البصرية التي وضعت إلى جانب خمسين سؤالاً عن المواطنة، وكان الهدف هو في إمكانية أن نعمل شيئاً قابلاً للنقل بالشوارع؛ أي نضعه في ساحة شمدين وساحة عرنوس وأي ساحة أخرى بعدها.

اليوم لم تعد تلك المنحوتات موجودة؛ وإنما الوثائق البصرية التي بقيت. لأني من نفس الطين كنت عندما أنتهي من العمل أكسره، وأعاود طحنه وعجنه، وأعمل به عملاً آخر. الهدف ألا يكون هناك بقايا للمنتج النحتي، والعلاقة بالتفكير بقيمة الوثيقة البصرية وقيمة التوثيق.

⊙ لوحاتك فيها شيء واقعي وشيء متخيل، ما الأفضل للفنان: الواقعي أم المتخيل؟

هي لعبة ننطلق بها من واحدة للأخرى، وتدور بين الاثنين، هي مثل اليانغ واليونغ لنتمكن من الدوران بين الحالتين، حسب المواضيع التي يجب تناولها، ثمة مواضيع ذات طبيعة روحانية سرية، وهناك مواضيع تكون مفتوحة، بالحالتين الصدق يؤكد مسألة أن الفنان عندما يرسم بصدق يكون مكشوفاً؛ لأن خطوطه تدل على حقيقة وضعه.. ألمه سيتضح مثلاً، وأحياناً بالعكس عندما يكون ألمنا كبيراً نحاول توريته. فقد نرى لوحات مليئة بالألم لكنها مليئة بألوان مليئة بالزهو، بطبيعة الفنان ألا يعدي غيره بالألم الذي يعيشه.

⊙ وفق كتيب المعرض اخترت العمل على أول الفنون، رقصة صوفية تدعى الزار، أين الحداثة؟

بالنسبة لأطروحة الحداثة وما بعد الحداثة؛ هي تعبيرات يضطر لها النقاد للتعامل مع التجارب الواقعية، بغض النظر عن ربطها بارتباطات تاريخية وذاتية ما. أتساءل: هل مررنا بالحداثة حقيقة حتى نمر بما بعد الحداثة؟ وهل لنا علاقة بما بعد الحداثة طالما أن الحداثة لم نمسك بها بشكل حقيقي ولم نتعامل معها؟ وما بعد الحداثة هو إطلالة نكوصية باتجاه الحداثة، بمعنى المراجعة ومناقشة الحداثة، طالما أنك لم تمر بالحداثة نفسها بتّ كمن يتنشف ولم يطأ النهر! القصة كذلك! هذه المسائل وعلاقتنا مع الحداثة فيها التباس؛ لأننا لم نشارك بالحداثة بشكل حقيقي، بعضنا نعم شارك في قضايا ذاتية نتيجة وجودنا بالغرب وقراءتنا المستمرة، لكن هل نحن فعلا نعيش الحداثة؟ هذه مسألة حساسة جداً.

⊙ ماذا يغريك في التشكيل: الحركة أم السكون؟

أنا كما يقول أنطوان مقدسي من فناني الحركة بامتياز، فالحركة بالنسبة لي شيء مهم جداً أولاً، وثانياً أعتبر أن الرقص واحد من أهم الفنون إطلاقاً، وبالتالي قدرة الرقص على التعبير هي الأصدق بين كل التجارب الفنية بالعالم، ولذلك الحركة ضرورية لكن هل يا ترى أنا اليوم بهذا العمر لدي نفس القدرة على أداء نفس الإيقاعات التي كنت أقوم بها سابقاً؟ أتصور أن ذلك صعب قليلاً، لذا السكون بات مطلباً أحياناً، وكما يقول أبو نواس: والضد يظهر حسنه الضد، بلا السكون لا يمكن أن نرى الحركة، وبدون الحركة لا يمكن أن نرى السكون، وحتى بالفيزياء الكوانتية اكتشفوا شيئاً عظيماً أنه أحياناً وأنت في الفضاء، إن وقفت مركبتك ستظن أنه لم يعد هناك جزيئات وبالتالي بتّ في الفراغ، لكن الحقيقة هذه خدعة؛ لأنه مجرد أن تتحرك تكتشف أن كل شيء يظهر، بالتالي أتصور الحركة والسكون يمثلان نفس اللعبة التي نراها بين الأبيض والأسود والسالب والموجب، ولا يمكن الخروج خارج هذا النوع من الإيقاع والديالكتيك والتباين إلخ، هذا يخلق الفرص لنا حتى كي نتكلم؛ لأنه بين مقطع صوتي وآخر فالسكون هو ما يجعلنا نفهم بعضنا، بالتالي هذا جزء من تكويننا كبشر.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها