في روايته الرائعة (الساعة الخامسة والعشرون) يقدم لنا الروائي الروماني قسنطين جيورجيو، تصوراً يُكاد يكون "تنبؤياً" لما نعيشه اليوم مما يمكن تسميته "عبوديةً تقنية". فنجده يقول على لسان بطله (تريان) في تصور مُفجعٍ لمكانة الإنسان في المجتمع الآلي- التقني الذي نعيشه: "إن الإنسان قد تحول إلى مقياس ذي قيمة آلية- اجتماعية، فإنه يتعرض للإصابة بأي شيء. يُمكن أن يُوقف، وأن يُرسل للقيام بالأعمال الشاقة، أو أن يستأصل عرقه".
فـ"المجتمع التقني" -الذي نعيشه اليوم بحذافيره المريرة- "يعمل حصراً تبعاً لنظريةٍ تقنية مستعملاً المجردات"، هي ما نعرفه بلغة الأرقام واللوغاريتمات البرمجية ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصاتها المتعددة. التي تستهدف "معياراً واحداً هو الإنتاج". وبالتالي، تحقيق الربح عن نسب المشاهدة واللايكات وإحصاء المتابعات.
ولو على حساب "إنسانية الإنسان"ـ وانتهاك خصوصيته وحريته وآلامه وحقيقته. لكنها –بذات الوقت- مبهرجة ومزينة بـ "رفاهية" يُخيل لنا ونحن نستهلكها بـ"سعادة" رغم إدراكنا ما فيها من أغلال وقيود أدمناها واستعذبنا "الانغماس بها"، ليُنهي جيورجيو تصوره المستقبلي لإنسان "المجتمع التقني" الخالي من الفكر، بأنه "لن يبقى رجلٌ حر واحد على سطح الكرة الأرضية". لنكون جميعاً اليوم "عبيداً تقنيين". فهل انتهت -حقاً- تجارة الرق؟ ما هي أبرز أشكال العبودية في مجتمعاتنا اليوم؟ وهل أصبحنا في عصر التكنولوجيا والاتصالات مجرد عبيد لما نراه؟
"الوحش الرقمي"
خلقت الرأسمالية التي أنتجتها الثورة الصناعية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر "نموذجاً مغايراً للعبودية" التي نقرأ عنها في الماضي. منجزة معها "أسطورة سيادة العنصر الأبيض المتفوق" على سواه من الأعراق البشرية الأخرى، التي خضعت له خلال الحركة الاستعمارية في القرنين الثامن والتاسع عشر. والتحكم بالمواد الخام والأسواق والبشر في البلاد المُستعمرة، ضمن ثلاثة عوامل أساسية هي (الرأسمال- العمل- الإنتاج).
ولكن الثورة التكنولوجية الجديدة أضافت عنصراً جديداً للعوامل السابقة هو (البيانات). البيانات التي نولدها على مدار الساعة. منذ أن نستفيق حتى نخلد إلى النوم. حتى أثناء نومنا. أين نحن، كيف ندفع فواتيرنا، كم عدد الأشخاص الموجودين في المنزل، ما هي مقاطع الفيديو التي نشاهدها، ما المواقع التي نزورها، ما نشتريه، أين نذهب، من هم أصدقاؤنا وعائلتنا، أين نعمل، ما هي كرة القدم الفريق الذي ندعمه. مع مرور كل يوم نقوم بإنشاء حجم متزايد من البيانات. والتي نشكلها بقدر ما تشكلنا.
فإذا كانت البيانات تمثل عاملاً جديداً للإنتاج؛ فإن الخصوصية يجب أن تكون العنصر الذي يحدد قيمتها. علاوة على ذلك، يجب على كل واحد منا، كأفراد ذوي سيادة، تحديد مستوى الخصوصية الذي نرغب في الحصول عليه، وبالتالي قيمة بياناتنا. إذا فشلنا في ذلك، فسنقوم ببساطة بالتنقيب عن البيانات يوميًا بينما يستفيد الآخرون من قيمة تخصنا، وبالتالي تحديد مستوى الخصوصية الممنوح لنا. هذه هي العبودية الرقمية.
المفارقة الصادمة.. نحن نولد قيمة هائلة، لكننا غافلون عن الحقيقة. نحن نكشف عن خصوصيتنا في العالم الرقمي، لكننا لن نفعل ذلك أبدًا في حياتنا التناظرية اليومية؛ فنحن نسلم جزءًا من تراثنا الشرعي في العالم الرقمي، وهو أمر لم نكن نحلم أبدًا بفعله في العالم التناظري؛ ونتخلى عن السيادة الفردية على الإنترنت، وهو الأمر الذي لن نوافق على القيام به عن وعي. يكفي أن نذكر ما نشرته دراسة مجلة (هارفارد بيزنس ريفيو) عام 2018، أن ما تبلغه قيمة البيانات التي تنتجها أسرة مكونة من أربعة أشخاص حوالي 20 ألف دولار سنويًا.
العبودية "باقية وتتمدد"؟
يبدو للوهلة الأولى، أن تطبيقات التكنولوجيا الحديثة وأجهزتها ووسائل التواصل الاجتماعي المتفرعة عنها قد جعلت حياتنا أسهل وأكثر انفتاحاً. فنحن بِتنا نطل من شرفة صفحاتنا الإلكترونية على "العالم أجمع". تعارفاً واحتكاكاً بأشخاصٍ وثقافاتٍ تبعد عن حيزنا الجغرافي آلاف الأميال، ربما. حياةٌ لا تنفك تغلق أصفادها المحكمة وتجعلنا مرئيين بشكل فاضح على الملأ وكأننا نسير عراة في ردهاتها الرقمية. وتعقيدات جمة "تغلفها البساطة"، لا نلبث أن نشعر بوطأتها في كل تفاصيل حياتنا اليومية. وكذلك، أمّنت لنا وصولاً يسيراً وسريعاً إلى مصادر المعلومات والأخبار بلحظتها ونحن نجلس خلف شاشات هواتفنا الذكية. فيكفي اليوم أن تسأل "عمو غوغل" حتى يأتيك بالخبر اليقين.
"قرية صغيرة" أصبحنا حبّاً أو كراهية جزءاً من سكانها أو عبيدها لا فرق. وإذا كان الرقّ أو العبودية فيما مضى من قرون خلت "أن يستعبد الإنسان أخيه الإنسان"، وأن يجعله ذاتاً وجسداً جزءاً من "ممتلكاته الفردية" الخاصة. فإن هذه التكنولوجيا الرقمية المدهشة تجعلنا أسرى لحاجتنا لها، وضرورتها الحتمية في عالم اليوم المتسارع. فنحاول أن نبدو عكس ما نكونه كنوع من النكران لحياتنا الواقعية في عالمنا الافتراضي الموازي.
الجسد-الوهم!
هروبٌ يحضر فيه الجسد بالمعنى المجازي، نريد أن نعكس فيه هواجسنا ورغباتنا وأفكارنا التي نحسبها "حريةً" لا تلبث أن تتحول إلى "عبودية تقنية". إضافةً، لتسطيح وتسخيف أي قيمة معرفية أو أدبية أو فكرية يتساوى فيها العارف بالجاهل، والحقيقي بالزائف، والحر بالعبد. ليختصر الأمر برمته بـ"ماذا تفكر؟" أو بـ"ماذا تشعر"؟ وليصبح الجميع دون استثناء جلادين وقضاة، حاكمين ومحكومين، نوابغ وتافهين!
الكاتب البريطاني (ميك شسنيل) وفي مقالة له على موقع (مدرسة لندن لعلوم الاقتصاد والسياسة) يوضح بدقة فكرة "غياب الجسد"، الجسد الذي نكتشفه عميقاً في عالم يشمل الذاكرة والمعرفة والمعتقدات والمشاعر والتاريخ والهوية. إلا أنه يبدو غير موجود. فالعالم الذي يسكنه الجسد يشمل العالم الافتراضي الذي نسميه الإنترنت. بالنسبة لشسنيل: "نحن نقع في الحب، والكراهية، والاستكشاف، والتعلم، ونصبح مفتونين بهذا العالم الافتراضي".
لكن كل هذا النشاط الجسدي عبر الإنترنت ليس له وجود مادي إلا في "مزارع التخزين الرقمية عبر الإنترنت. مثل المسارات العصبية الكهروكيميائية للدماغ، تقوم مزارع تخزين البيانات هذه بتتبع رقميًا، وتحتفظ في الغالب، شيئًا فشيئًا، بذاكرة الجسم وسلوكياته وعلاقاته وسفره في هذا العالم الافتراضي".
وبالتالي، يتأتى عن هذا الحضور-الغياب، مسألة أخرى يتناولها شسنيل هي "عندما تحصل الحكومات أو الشركات على هذه البيانات، بشكل قانوني أو غير قانوني، من خلال عقود غامضة وطويلة، أو خداع، أو تلاعب، أو مجرد سرقة بسيطة، فإن موضوع الجسد يصبح مستعبدًا بمعنى الملكية". وعندئذ يكون "الجمع بين البيانات الشخصية المرتبطة، وجمع المعلومات القسري والآلي، و"التخزين الدائم" قد أتاح ظهور أنواع جديدة من المعلومات "أصحاب العبيد". يتم استخراج البيانات الشخصية، وتسليعها، وتحويلها إلى أصول، والاتجار بها".