تشيخوف: الموهبة معركة قِوامها الشجاعة والالتزام

رضا إبراهيم محمود


في مجمل حديثه عن الأديب الروسي الشهير أنطون تشيخوف (1860 –1904م) يقول أندريه ماليف بابل أستاذ مساعد المسرح بجامعة فلوريدا الأميركية: "كان أنطون تشيخوف وسيظل بوصلة أخلاقية، فقد قامت أجيال من الروس بقياس حياتهم مقارنة بحياة تشيخوف". ويقول الأديب الروسي الشهير مكسيم غوركي (1868 – 1936م) في مذكراته عن أنطون تشيخوف: "لم أقابل في حياتي من فَهِم عمق معنى العمل كأساس للثقافة مثل تشيخوف".


ومن المعلوم أن تشيخوف كان على وعي دائم بقسوة المجتمع الطبقي الذي نشأ فيه، حيث عانى كثيراً من ظروف عائلية وشخصية واجتماعية صعبة جدّاً، وكان يقدر أثر تلك الظروف على أهل الفن والأدب، ممن نشأوا في ظروف تتشابه مع ظروف نشأته وحاولوا الثبات، لكن الجزء الأكبر منهم فشل في أن يستمر فناناً مبدعاً.

رأيه في الإبداع والضمير:

جاء اهتمام تشيخوف طيلة حياته، بمسألة الموهبة الفنية وتنميتها وصقلها، باعتبارها مسألة حياة أو موت، ومن وجهة نظره عدّ تشيخوف الموهبة معركة يومية، لا تنتهي أبداً سوى بالموت، ودوماً ما كان يردد مقولة غوته الشهيرة: "إن الذي يستحق موهبته، هو الذي يقاتل من أجلها كل يوم"، حتى إن تشيخوف كان يدير على السنة أبطال قصصه ورواياته، العديد من المناقشات والحوارات حول الموهبة، ما يدل على أن معركة الإبداع والخلق الفني، وبالأخص بين الفنانين الفقراء كانت تسيطر على عقله، وكان دائم البحث عن حل لها. على أن يسمح ذلك الحل للفنانين من كل الطبقات، بأن يعيدوا ثقافتهم وشخصيتهم، وأن ينطلقوا بهما إلى آفاق للإبداع الدائم في وجه مقاومة اجتماعية شرسة، ومن هنا كان تشيخوف يعد معركته معركة جماعية، وكان يردد دوماً بأنه يجب أن يصل الكثيرون منا إلى مستوى الإبداع الفني، والضمير هنا يعود إلى أبناء الطبقات البائسة.

ونرى ذلك بشكل واضح على لسان "لابتيف" وهو أحد أبطال رواياته الموسومة بـ"ثلاث سنوات"، حيث يقول لابتيف: "إنني ببساطة لا أستطيع أن ألائم بين نفسي وبين الحياة أن أكون سيد حياتي، ذلك أنني ولدت عبداً وكان جدي من رقيق الأرض، ومثلنا يسقط على جانب الطريق في نضاله ليقف على الأرض".

الموهبة الفنية معركة دائمة:

عندما سئل تشيخوف عن طبيعة المجتمعات الفاشلة أجاب قائلاً: "في المجتمعات الفاشلة يوجد "ألف" أحمق مقابل كل عقل راجح، و"ألف" كلمة خرقاء مقابل كل كلمة واعية، تظل الغالبية بلهاء دائماً وتغلب العاقل باستمرار، فإذا رأيت المواضيع التافهة تتصدر النقاشات بأحد المجتمعات ويتصدر التافهون المشهد، فأنت تتحدث عن مجتمع فاشل جداً، وعلى سبيل المثال الأغاني والكلمات التي لا معنى لها تجد ملايين الناس يرقصون ويرددونها، ويصبح صاحب الأغنية مشهوراً ومعروفاً ومحبوباً، بل حتى الناس يأخذون رأيهم في شؤون المجتمع والحياة، بينما الكُتَّاب والمؤلفون، فلا أحد يعرفهم ولا أحد يعطيهم وزناً أو قيمة، معظم الناس يحبون التفاهة والتخدير".

وأضاف تشيخوف بأن الموهبة الفنية معركة دائمة، تدور رحاها بين الفنان وبين التخلف، سواء في نفسه أو في الوسط الفني الذي يعيش فيه، وهي معركة يلزم أن تكون جماعية، بمعنى أن يقوم الفنان بدعوة أقرانه إليها، مثلما يدعو الجندي زملاءه في العراك، لذلك فالموهبة الناضجة لا تقتضي من الفنان تقويماً فكرياً فقط، بل تقتضي منه تقويماً خلقياً في نفس الوقت، بعيداً عن كل أثر للهمجية، سواء في الفكر أو السلوك، لذلك اهتم تشيخوف بأن يكون الفنان مخلصاً بشكل كبير مع نفسه وهو يبدع، وأن يكون على علاقة وطيدة ومباشرة مع أعماقه؛ لأن أجمل ما بالفن يكمن في الإخلاص والبساطة.

الموهبة قوة أصلية:

دوماً كان تشيخوف يردد مقولة (الموهبة هي الشجاعة)؛ لأن الرعشة أو التخاذل من وجهة نظره لا ينتجان أبداً فناً، بل هما مرضاً يلبس مسوح الفن، وإذا كانت الشجاعة تكلف المرء الكثير، فإن الفن أيضاً يتطلب من الفنان العديد من الخصائص والسمات الشخصية الممتازة، والتضحيات التي لا حصر لها، لذلك كانت أمه السيدة يفيغينيا وهي راوية قصص مميزة، تبدأ معظم رسائلها إليه بــ"يا ولدي القوي الذي يحتمل أي مشقة في صمت".

ويتذكر تشيخوف شخصية أمه فيقول: "لقد حصلنا على مواهبنا من والدنا، لكن روحنا حصلنا عليها من أمنا"، وبصورة محكمة ربط تشيخوف بين الموهبة والقيم الأخلاقية؛ لأن الإبداع الأصيل والأخلاق هما جناحا الفن الحقيقي، ففي قصته مشاعر حادة يقول: "إن الموهبة قوة أصلية كالغرائز.. كالأعاصير، تستطيع سحق الصخر تراباً، وأن تخلق كل شيء، وأن تدمر أي شيء، إنها قادرة على توليد قوة رهيبة، إن لم تصاحبها مشاعر إنسانية سامية".

الموهبة شجاعة واستقلال رأي:

يشير تشيخوف إلى أن تنمية القيم الأخلاقية، ترادف تنمية المعرفة بالثقافة والحياة، باعتبارهما دعامتان لا غنى لإحداهما عن الأخرى؛ لأن الفنان الحقيقي إنسان متحضر يكره الكذب، كما يكره الطاعون، لا يتكلف سلوكاً، فهو يتحرك بين الناس كما يتحرك في بيته، ولا يثير ضجة كبرى خلال إنجازه عمله الفني، ويجب أن يتجنب الأضواء، ويفضل أن يكون بين الجمهور في الظل؛ لأن البرميل الفارغ يثير من الضجة ما لا يثيره الملآن.

والفنان يضحي من أجل موهبته بالأمن الشخصي والحب والخمر، كي لا يفقد انتباهه لحظة، كما يلزم أن يضحي بالكبرياء، والفنان معتز بموهبته، لديه وعي بأنه مطالب بأن يؤثر في الآخرين، ويعلمهم ويرشدهم إلى الطريق المستقيم.

مضيفاً بأن الفنان من الصعب إرضاؤه، كونه دؤوب على صقل أحاسيسه الجمالية، وعلى التسامي بغرائزه الإنسانية، وصاحب الموهبة الإبداعية لا يكتفي بأن يحفظ عن ظهر قلب مذكرات أو كتب الآخرين ممن هم سبقوه، لكن عليه أن يثقف نفسه بجهد دؤوب في الليل والنهار؛ لأن كل ساعة من حياته ثمينة ولها قيمتها، ويقول تشيخوف في مسرحيته (الخال فانيا) على لسان يلينا.. سونيا.. "أتعلمين ما هي الموهبة، إنها الشجاعة واستقلال الرأي، وسعة الأفق".

الشكوى انتقاص للفنان:

في عام 1886م كتب تشيخوف رسالة إلى أخيه نيكولاي حيث قال فيها.. أعتقد أن الأشخاص الموهوبين المتحضرين يجب أن يستوفوا المعايير التالية، إنهم يحترمون البشر كأفراد، ولذلك فهم دائماً متسامحون، ولطيفون ومهذبون ومطيعون.. ولا يخلقون مناظر على مطرقة أو ممحاة ضائعة، لا يجعلونك تشعر أنهم يقدمون لك فائدة كبيرة عندما يعيشون معك، لا يرهقون أنفسهم من أجل إثارة تعاطف الآخرين.. إنهم لا يلعبون على أوتار قلوب الآخرين ليتم تنهدهم وتدليلهم.

وما زال حديثه في نفس الرسالة، حيث يقول.. هذا النوع من الأشياء، هو مجرد سعي رخيص لتحقيق التأثيرات، وهو مبتذل وقديم وكاذب إذا كانوا يمتلكون الموهبة، فإنهم يقدرونها ويفتخرون بها، ويعلمون أن عليهم مسؤولية ممارسة تأثير حضاري على الآخرين، بدلا من التسكع معهم بلا هدف، وهم دقيقون في عاداتهم، يعملون على تطوير حسهم الجمالي، أولئك الأشخاص لا يطيعون ببساطة غرائزهم الأساسية.. إنهم يحتاجون إلى عقل الرجل في الجسد.

وفي حديثه عن الكاتب الروسي ياكوف إيفانوفيتش بيليبين (1779 – 1854م)، يؤكد تشيخوف على أن ما ينقص موهبة بيليبين العلم بالحياة، وحيث لا تكون هناك معرفة لا تكون هناك شجاعة، والملاحظ أن هذا الرباط المقدس بين التثقيف الفكري والخلقي، يسري دوماً وبلا انقطاع في حديث تشيخوف عن موهبة الفنان، وطالما كان يردد بأن الموهبة هي العمل، وعلى الكاتب أن ينمي في نفسه ملكة الملاحظة بلا كلل، ويجب عليه أن يجعل الملاحظة عادة فيه أي طبيعة ثانية، ولا ينبغي على الفنان أن يشكو أبداً؛ لأن الشكوى هي انتقاص من قدرة الفنان على العمل والإنتاج، كما اعتقد تشيخوف أن الموهبة تضم بين عناصرها الإحساس القوي بالالتزام نحو أبناء جلدته، ونحو قضية الثقافة والفن في وطن الفنان، أي إن الموهبة القويمة تتضمن إحساساً بالالتزام.

 


الهوامش:
1. لعبة الأدب، عباقرة فن الكتابة يشرحون أسرار المهنة (طبعة: 1)، فتحي خليل، منشورات دار الآفاق الجديدة (بيروت) 1980م.
2. إبداعية النص الأدبي، سعاد جبر (طبعة: 1)، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع (إربد) 2014م.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها