ثُنائية الخوف والتجريب!

قراءة في رواية جريمة على مسرح القباني للروائي باسم سليمان

وداد سلوم


"في البدء كان الخوف، لا الكلمة... الخوف هو القاتل".


في البدء كان الخوف الذي رافق الإنسان منذ انفصاله عن مجتمع الغاب؛ خوف من الطبيعة وتبدل مظاهرها، خوف من الكائنات التي تقاسمه الجغرافيا وخوف من أبناء جلدته. هذا ما استدرجه إلى العنف والقتل لامتلاك أسباب البقاء، وحكَم وعيه فيما بعد، فبقي يتمظهر في أشكاله عبر العبادات والأساطير والفنون التي تعكس طريقته في التعبير ولعل أبرزها المسرح؛ الذي كان بدايةً للاحتفال والإنشاد بالأعياد الدينية في محاكاة لقصة الأسطورة، وذلك لتعزيز المقولة وحرصاً على الالتزام بها، بل خوفاً من مفارقتها. إنه تجلي الخوف العميق الذي يسكن العقل الجمعي من المجهول وأشباحه البعيدة أو القريبة وما قد يجره كسر التقديس من مخاطر لن يكون بإمكان الإنسان إيقافها، وما الاحتفالات الجارية عبر آلاف السنين في المنطقة بقيامة تموز وعودة بعل إلا نموذجاً. إذ لم تكن فقط إحياء لذكرى الفعل بل أيضاً محاولة الحفاظ على استمرار تأثير هذا الفعل على حياتهم، في آلية محاكاة لتجنب الخطر.

وها هو باسم سليمان في روايته جريمة في مسرح القباني الصادرة عن دار ميم عام 2020 يستعير المسرح لينشئ محاكاته الخاصة للواقع/ الحرب التي تلتهم الأرض السورية منذ سنوات طويلة، عبر جريمة تحدث على المسرح، وهي في الواقع حادثة موت مجهول الأسباب، ولحلها يستدعي إلى جانب المحقق شخصية إذاعية شهيرة ذاع صيتها عبر برنامج حكم العدالة الذي كان يبث من إذاعة دمشق على مدار أعوام، إنها شخصية المحقق هشام ومساعده جميل، ثم ينهي الرواية بتوقيع المساعد جميل وما يحمل ذلك من إشارات دالة ومدلولات.

الافتداء وتحويل القتيل إلى قربان

متجهاً إلى العمق أكثر، يستهل سليمان روايته بإهداء إلى السوريين في كل مكان مستعيراً قول رينييه جيرار (السلام هبة العنف). المقولة التي تستشرف النهاية الضرورة فهو لا يكتفي بقتل عبد الله البطل -الرمز، بل يحاول جعل هذا الموت افتداء، وذلك عبر الدعوة لتفكيك عجلة العنف وأسبابه، وإعادة قراءة عناصر الوعي المؤسس له، وتجديد مفهوم الافتداء بتمزيق الأثواب التاريخية الزائفة، ثم إعادة نسج خيوطها في قراءة مختلفة تعيد المقولة إلى حقيقتها في ديناميكية الفعل التاريخي. عبر تلمس واضح لذلك التشابك القديم في الثارات والمعارك الممتدة في التاريخ، والتي شكلت دوماً الجمر تحت الرماد، وحكمت عجلته كلما شاهد وثبة ما إلى المستقبل.

كان عبد الله لقيطاً مجهول النسب عثر عليه طفلاً ناجياً من تفجيرات الأزبكية في ثمانينيات القرن الماضي، فهو مولود من رحم الصراع ومثله مشوّه الوجه إذ احترق نصف وجهه من جراء التفجير وكبرت حروقه معه كتوءم، عاش في دار اللقطاء وتعرض للاعتداء ثم مارسه، وحين خرج لم يكن أمامه فرصة للعمل إلا زبالاً لتنشأ بينه، وبين بائع الكتب تحت جسر الرئيس صداقة توازيها صداقة بائع الكتب مع المحقق، الذي يكشف في أوراق عبد الله بعد توليه التحقيق في الجريمة قصة موازية لحياته ورؤية حكائية للحدث، وهو كوريث لمحنة الصراع / العنف الذي تغلغل في المجتمع وراح يتسع ويتفاقم ليهدد وجوده، يرى أن الخلاص يتم عبر التمثل الرمزي للأسطورة، فالضرورة تستدعي غسل الدم بفداء لا يستوجب ثأراً لإنهاء دورة العنف المتناسل، التي باتت تتغذى على سلسلة الانتقامات في متوالية الموت الكبيرة، مؤسساً أسطورته الخاصة ومكملًا تناسل الأسطورة منذ الجريمة الأولى في التاريخ الإنساني؛ أي منذ قتل الأخ لأخيه إلى الطوفان الكبير ثم افتداء إسماعيل بكبش. فالخيط المتواصل عبرها جميعاً؛ هو عملية الافتداء، معيداً القارئ إلى بذور الوعي التي أفرزت في كل مرحلة تاريخية مقولتها المتناسبة مع ظرفها الإنساني والتاريخي، وانطلاقاً من هذه الرؤية التي يسلط فيها سليمان الضوء على ضرورة إنتاج الوعي الجديد عبر فهم آلية الأصول العنفية للوجود البشري في علاقته مع المحيط ومحاكاتها بين أبناء النوع الواحد، ومحاولة وضع الظاهرة في سياقها التاريخي لإنتاج المقولة والانتقال من اللاتمايز العنفي، حيث تصاب فيه الأطراف بالالتياث وتبادل العنف المدمر لبنى الوجود الإنساني، وتتلاشى القيم الروحية والمادية ويجرف السيل كل شيء. تنشأ بالتالي ضرورة كبح هذه العجلة أولاً.

وهكذا تدور الرواية على ألسنة الثلاثة، القتيل والمتهم (حارس مسرح القباني وهو بائع الكتب تحت جسر الرئيس)، والمحقق الذي ورث ساعة الأرمني مسيو كارنيك (والذي يعني اسمه الخروف/ الأضحية أيضاً)، ثلاثة تجمعهم بمصادفة عجيبة صداقة الكتاب والبحث، وتاريخ الميلاد وجريمة تحدث في مسرح القباني، إلا أن الجزء الأكبر منها يكون في سرد أوراق عبد الله التي يجدها المحقق في غرفة أسفل المسرح. لتتوازى الحكاية في الأوراق مع الحدث الواقع وتنامي الإدراك لأبعادها لديه. كما تشغلهم الأفكار الفلسفية وتتصارع في وعيهم بطرح أسئلة تبحث عن إجابات ملحة.

هكذا ربط سليمان عبر مقتل عبد الله بين طبقات الوعي الثقافية والسياسية والدينية باللاوعي، الذي يمتد إلى بداية التاريخ الإنساني محملًا شخصية عبد الله أبعاداً رمزية، فألبس موتها دلالات وإشارات لكيفية الخروج من دوامة العنف الحادث والصريح في المذبحة السورية، ومحاولة تحويل هذا القتل إلى تطهير أو فداء عبر تحويل القتيل عبد الله إلى فدية/ قربان للخلاص.

تنتهي الرواية في أوراق عبد الله ليعلن عبرها استشرافه للفداء الذي أوكل إليه أو أوكله لنفسه منهياً بذلك شبهة الجريمة، ومعيداً الفعل لجذره الحقيقي لتبدأ الخيوط بالتكشف لدى المحقق في عملية تنامٍ تتوازى مع هضم المقولة، ودفعه للمشاركة في تحقيقها، وإظهار تجليات محاور التجريب في رسمها، فالجريمة/الفداء تحول العنف المدنس إلى عنف مقدس ينهي فعل القتل. فالجثة في المسرحية المتضمنة داخل الرواية تقف إلى جانب القاتل وتراه منقذاً لها حتى لا تستمر بأفعالها الدنيئة التي لم تخترها بل دفعت إليها بحكم السبب والنتيجة، إنها ابنة الحرب والقاتل المجهول في قولها: (الطيور على أشكالها تقع) إن هو دليل على تعدد القَتَلى الذين كان يدفعهم الخوف لارتكاب القتل، حيث أصيب الجميع بالالتياث الذي يحول الجميع إلى أدوات، ويسلب القدرة على التمييز، وهذا ما سماه رينيه جيرار باللاتمايز العنفي. ومن هنا كان لا بُد من التمييز بين موت مهدور الدم يراكم الأشلاء والضحايا، وموت الافتداء (موت عبد الله) الاختيار الذي يقود إلى موت العنف بما تحمله شخصية عبد الله من رمزية للصراع المشوه، والذي يحدث دون خوف بفعل الوعي.

رواية عميقة تعنى بالتجريب

يذهب باسم سليمان بقوة وشجاعة في روايته إلى تجريب مختلف، وحتى أقصى ما تحتمله الرواية، فضمّنها نصاً مسرحياً / مسرحية (الجثة) التي كتبها عبد الله القتيل/ والحكاية / أقصوصة الموت/ والقصة القصيرة / قصة المقص/ وإلى طرق أبواب قليل من تجرأ وطرقها، في الإشارة لضرورة إعادة قراءة النص القرآني الكريم والتراث وتفسيره على ضوء القراءة الجديدة.

إن حرفية باسم سليمان بإتيان المخزون المعرفي والثقافي؛ هي محاولة لأخذنا ليس إلى تفنيد مرجعياته، بل البحث معه في الدلالات لإعادة إنتاج هذا المخزون وتوجيهه في الحصول على بنية معرفية ثقافية واجتماعية هي الإنسان، الذي يجب أن يولد من مقتل القديم المحطم، ليس إتيان السلم بعد الحرب؛ وإنما إتيان السلم الذي يفكك أسباب الحرب، ويوقف دورة التكرار التي تواكب التاريخ وتولد منه، فكما يقول سليمان: ليس مهما فقط إيقاف الدم في هذه الحرب، بل أن نفكك آلية الثبات في أسباب الثأر التي تفتح الجروح في كل دورة منه.

ومن هنا بدأ روايته باستعراض أفكار المحقق عن معنى عيد الأضحى في محاولة لإعادة قراءة النص القرآني بطريقة جديدة، للتغلغل في معناه الأمثل الذي يمنحه قراءة لتكوين الفكر البشري ونظرته لسيرة الإنسان، كما في قراءته لقصة قابيل وهابيل؛ إذ ينظر إلى عملية القتل على أنها انتحال الأخ لإثم أخيه، وعليه يجب أن يدرأ الحد بالشبهات، ويتوقف الثأر عند الفعل ذاته.

هكذا في بحث عبد الله عن عائلته يتوصل إلى أنه يبحث في الحقيقة عن قاتله، ويتوقف عن ذلك حين يدرك أن البحث يحيله إلى المرآة. "وحينها أدرك معنى الأضحية، التي من خلال تتبع دلالاتها سيصبح من الممكن ردع الشبهات التي ستثور من جديد ما إن تسنح لها الفرصة" [ص: 159].

 

النهاية:

تأتي النهاية رمزية الحدث؛ إذ يغادر المحقق المسرح خارجاً من قلب الخشبة بعد أن قرأ أوراق عبد الله وكأنه يعيد القيامة للمسرح/ الواقع الذي يتراكم عليه تل الخردة والدمى البشرية، كما وصفه البطل في أوراقه وهو ما يوازي حركة المحقق الذي رأى في أوراق عبد الله حياة عاشها، أو يخيل له أنه سيعيشها، فتمنى لو تعرف على عبد الله قبل أن يموت حتى لا يحدث ما حدث، ويجد أن الخروج من هذه المتاهة لا يكون إلا بإعادة الحياة إلى المسرح الذي حولوه إلى خشبة مصمتة بإغلاق حجرة الملقن، وهي صلة الممثلين بالنص الحقيقي، مقاربة لصلة التجلي بالجوهر، وصلة الأصل بالانعكاس، وصلة الشكل بالفكرة. فيعلن المحقق أن خروجه من الكواليس أو من العمق الذي رغم كل عتمته أنار عقله عبر أوراق عبد الله لن يكون من الباب الخلفي، ولا من أي مكان بل من الخشبة التي يدقها برأسه حتى يدمى ليفتح حجرة التلقين خارجاً منها بما يشبه الولادة الجديدة - الخروج من الشرنقة؛ إنساناً جديداً فيتجمد الممثلون ويقف الجمهور مذهولًا.. إنها القيامة التي ينتظرها الإنسان السوري ليكتفي من الموت وينهض من جديد. ورغم إدراك الضرورة إلا أن الخوف من الجدوى ومن نجاح المحاولة يبقى حاكماً يقول باسم سليمان:

"الخوف أهم دافع في الإنسان حتى قبل الجنس، وخوفي ليس حرصاً بل ضجراً من سقم الوجود".

نميز في الرواية ليس فقط مهارة التجريب العالية بل أيضاً لغة الكاتب الخاصة، وأسلوبه الخاص المتصاعد باستمرار، والحقيقة أن مشروع باسم سليمان الفكري لا يقتصر على الإنجاز الروائي، والذي يعدنا فيه برواية ثالثة ليكمل ثلاثية كانت رواية نوكيا الصادرة عام 2013 الأولى فيها، تلاها جريمة في مسرح القباني عام 2020. بل يمتد إلى إنتاجه الثري من المقالات العديدة في التراث والفكر، مؤسساً لوعي جديد خارج عوالق التفسير والاجتهاد التي أخذته إلى أماكن أخرى فسلبته جوهره الحقيقي. ومن هنا نستطيع أن نشير إلى كاتب ومفكر له لغته الخاصة ومشروعه الذي ننتظر منه الكثير.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها