إن التطور التكنولوجي السّريع والتحولات التي أحدثتها الرقمية في مختلف المجالات هي مؤشرات على تحولات عميقة في حياة الإنسان، في المستقبل القريب، والتي يمكن أن تؤثر بشكل غير مسبوق في كينونته ووجوديته أيضاً؛ فمنذ تسعينيات القرن العشرين، وفي خضم التطور الكبير للتكنولوجيا ولعلوم الحاسوب ظهر حلم جديد راود الباحثين في مجال السيبرنيطيقا (Cybernetics)، والذين تمظهرت أحلامهم خصوصاً في البحث عن بديل للإنسان الحالي، تمثل أولًا في محاولة خلق نوع من التزاوج بين الإنسان والآلة، بحثاً عن كمال للإنسان، ثم بعد ذلك في السايبورغ (Cyborg) المستقل نسبياً عن الإنسان والبديل الحالي له، والذي لم يفصله عن هذه الاستقلالية إلا الإرادة الخاصة والعواطف الإنسانية.
السيبرنيطيقا وفكرة التطور الإنساني:
إن الباحث في تطور الإنسان، بغض النظر عن التوجهات الداروينية للتطور (Darwinism theory of evolution)، يجده تنقل فكرياً على الأقل من ذلك الإنسان ما قبل الماهر، إلى الإنسان الصانع ثم المفكر الذي تدرجت أفكاره من جيل إلى جيل، وتدرج نموه العقلي عبر العصور ليصل إلى الكمال.
ولعل ذلك التجدد في تفكير الإنسان واجتهاده العقلي والعلمي، هو مراهنة ظاهرة على أن الحقائق التي تبدو ثابتة اليوم سرعان ما تصبح متلاشية وخاطئة مع الزمن، فمنذ بطليموس آمن الناس بمركزية الأرض، ليكتشف العلم بعد قرون أن هذه الفكرة كانت مجرد وهم مع الثورة العلمية التي انتهت باكتشاف النسبية في القرن العشرين من طرف أينشتاين، بل إن هذه النسبية أيضاً أصبحت محط نقد من طرف العلماء الذين تحدثوا عن نسبية تلك النسبية.
إن السبيرنيطيقا التي تعني فن التحكم هي تطور جديد وإبدال أو براديغم جديد (new paradigm) سيغير كثيراً من الأفكار، بل إنها تحاول أن تجعل من الإنسان الذي جعلته الحداثة مركز العالم محط تساؤل ونقد ونقض أيضاً بتطور ليس الآلة كما هو الحال للعصر الصناعي بل الرقمية بما تعنيه من هيمنة المعلومة والرقمنة والبرمجة الآلية على العالم، ولعل تطورها السريع هو الذي سيبشر بتغييرات وإبدالات جديدة حددتها السيبرنطيقا، وأبرزها مبدأ الشفافية الذي كان وراء اختراع الحاسوب سنة 1946 والذي كان يهدف بالدرجة الأولى إلى عدم تكرار فظائع الحرب العالمية الثانية كما يذهب إلى ذلك الباحث محمد أسليم.

البحث عن الإنسان الكامل أو السايبرمان:
هكذا انتقلت السيبرنيطيقا مع تطور الحاسوب الذي يتطور بشكل كبير جداً يوما بعد يوم، مع التسعينيات إلى محاولة الاستفادة من هذا التطور للبحث عن إنسان كامل يتجاوز مفهوم السايبرمان (Cyberman) عند الفيلسوف فريديريك نيتشه إلى نوع جديد يمزج بين هذا الإنسان والآلة، ومن ثم إمكانية تطوير قدراته وحياته، وإذا كانت هذه التطورات في ميدان التكنولوجيا تحدث بشكل سريع جداً، فإن المفكرين حالياً يعملون على تحسين هذه التقنية من أجل رفاه الإنسان والتفكير في سعادته، وجعله بفضل هذه التقنية يتحكم في مصيره وقدره.
وبفضل علوم أخرى ذات علاقة بالطب والبيولوجيا الدقيقة يسعى العلماء عبر الحاسوب إلى التفكير في تمديد عمر الإنسان ليصل 500 سنة مستقبلًا مؤمنين أن ذلك سيكون بعد عقدين على الأكثر، وهم يعملون عن قناعة تامة على هذا المشروع، وتدعمهم في ذلك الشركات الرقمية العملاقة مثل غوغل وغيرها.
إن العلماء يتباحثون في إمكانية القضاء على الجينات القاتلة، منطلقين من تصورات نظرية وفلسفية عمرت في القرن العشرين خاصة فلسفة داروين الذي اعتقد أن الإنسان قد تطور من كائن غير ناطق يشبه الشامبانزي إلى كائن ناطق، ومن فلسفة فرويد خاصة منها تلك المتعلقة باللّاشعور، ومن ذلك يؤسسون فكرهم على تطوير أمد حياة الإنسان، وفكرة أخرى أكثر غرابة تقوم على ما يسمى بما بعد الإنسانية أو الإنسانية العابرة، حيث تتدخل الآلة في الإنسان وتتبرمج مع تفكيره، وذلك قصد جعل الإنسان يتحكم في ذاته، وذلك ينسجم مع ما يطلق عليه السيبرنطيقا أو علم القيادة والتحكم الذي تأسس مع نوربرت فينر (Norbert Wiener) في مجال الرياضيات قبل أن ينتقل إلى علم الإحياء والعلوم الإنسانية.
لقد أصبحت هذه الفكرة التي انتشرت مع السيبريطيقا بمثابة حركة إيديولوجية جديدة عرفت موقفيْن موقفاً رافضاً لها وموقفاً آخر مؤيد، الأول يستند إلى أبعاد أخلاقية وقيمية بالدرجة الأولى وعقلية تتميز بالموثوقية مما سبق إليه السلف وما جاء في التراث، والثانية مؤيدة تؤمن بدور العلم بالتطور وتستند في الغالب إلى فلسفة داروين وفرويد، وإلى العلم والتقنية، ويؤمنون بإمكانية هذا التحول على اعتبار أن الإنسان منذ وجد لم يستخدم إلا حوالي 5 في المائة من ذكائه، ولو استخدم ذكاءه كله لحدثت معجزات عدة، وما نشاهده في تطور الحاسوب اليوم دليل واضح على هذه الإمكانيات، ومن جهة أخرى؛ فإن عدداً من تلك الاختراعات قد تحققت بشكل متقدم في مجال الطب والاتصال.
وإذا كان هذا المشروع الساعي إلى جعل الإنسان يتحكم في ذاته ومصيره وجعل التقنية جزءاً منه، إذا كان يتنافى مع المعتقد السائد؛ فإن البحث العلمي المعاصر الذي تقوده بشكل خاص شركة غوغل (google) تؤكد هذه الفرضيات، وتحاول جعل محرك البحث هذا ينتقل من وسيلة للبحث تساعد الإنسان على المعرفة والتواصل مع مستجدات العالم، إلى وسيلة تتغلغل في عقل الإنسان أو تسيطر عليه في المستقبل، فيصبح نصفه إنساناً ونصفه آلة، فمن المشاريع الكثيرة التي تطلقها "غوغل إكس"، والتي قد تغير حياة الإنسان في المستقبل، النظارة الكومبيوتر، والسيارة بدون سائق، ثم الإنسان المغطى بالإلكترونيات والذي يصبح بالتالي نصف إنسان ونصف آلة.
الإنسانية العابرة أو ما بعد الإنسانية:
فنظرية «الإنسانية العابرة" أو "ما بعد الإنسانية" تقوم على تحويل التكنولوجيات الحديثة التي تتطور باستمرار إلى قوة قادرة على التحكم في مستقبل الإنسان، والتي قد تتفوق على ذكائه مستقبلًا، بتحويل الجسد والمخ الإنساني إلى "Interface"، أو سطح بيني يجمع بين ما هو إنساني، والآلة أو الكومبيوتر في علاقة تفاعلية ترفع من قدرات الإنسان ومهاراته، بل إن هذه النظرية تخطط لبرمجة الإنسان منذ ولادته، أو حتى قبل ولادته على نوع من السلوك والمهارات التي يكون عليها طيلة حياته.
إن التقنية الحديثة والتكنولوجيا الذكية اليوم وصلت حداً من التطور الذي لم نكن نتصوره، بل لم يتصوره حتى بيل غيتس الذي أكد أن تطور التكنولوجيا والاستفادة منها لم يكن لجيله بل للأجيال القادمة التي ستدفع بها إلى الأمام، حيث أصبحنا اليوم نعيش هيمنة التكنولوجيا الرقمية على الأسواق العالمية الكبرى وعلى العلاقات الاجتماعية والسياسية، ولنا بذلك أن نتصور التقدم الذي يحصل في المستقبل بعد أربعة أو خمسة عقود.
فمما تتوقعه غوغل هو أن يتم استغلال التقنيات الحديثة في مجالات أكثر اتساعاً وتقدماً، من خلال تطوير الحاسوب والعلوم الرقمية، ومن ذلك توجيهها لمواجهة الشيخوخة التي أصبحت تعتبر عند بعض الباحثين مرضاً ومن ثم القضاء على الموت، ومن ذلك إمكانية نسخ كافة المعطيات في المخ الإنساني في قاعدة معطيات ثم نقلها إلى غلاف أكثر مقاومة من الجسد الإنساني، كما يتوقعون تطوير إمكانيات الإنسان والإتيان بإبدالات جديدة تتجاوز الحضارة المعاصرة، ففي الطب مثلًا سيصبح الحاسوب، انطلاقاً من تلك الرؤيا، قادراً على فحص الإنسان عبر تصوير أو "سكانير" مباشر يقوم به المريض ذاته، حيث يقدم، بشكل شفاف ودقيق، الوصفات والأدوية المناسبة كما عوضت الآلة، من قبل، عمل الإنسان وسرحت العمال، ومن ثم إمكانية اختفاء بعض المهن التي ستبدو حينها تقليدية وبدائية.
إن قانون الإنسانية العابرة أو ما بعد الإنسانية (posthumanism) يقوم على فكرة أن الإنسان التقليدي تم تجاوزه، وأن الطبيعة الإنسانية لن تبقى مستقرة على حالها بعد أن عرفت تحولات في السابق، ومن هذا المنطلق أعلنوا الإنسان الآلة (man-machine)، كما نجد ذلك عند بوستروم (N. Bostrom) الذي يؤكد على إمكانية التحكم في الجينات الإنسانية لتطوير قدرات الإنسان، وذلك عبر دمج آلة تحكم إلكتروني في جسده، ومن ثم التحكم في جيناته المسؤولة عن المرض وعن الموت وعن التفكير.

السايبورغ وإبدال ما بعد الإنسانية:
إن الإنسان حسب كيرزويل ( Ray Kurzweil) يتشابه مع باقي الكائنات الأخرى من حيث ذكاؤه بنسبة تتجاوز 98 في المائة، وبذلك فإن تفوُّقَه عنها لا يرجع إلى ذكائه بل إلى قدرته على تخزين المعلومات ونقلها من جيل إلى آخر، ومن ثم فالآلة التي تفوق الإنسان تخزيناً للمعلومات قد تتفوق في يوم ما على هذا الإنسان وتتجاوزه، إذا ما استطاعت فقط أن تتحكم في نفسها عوض أن يتحكم فيها هو، ولعل السايبورغ اليوم هو نموذج بداية هذا التجاوز.
إن السايبورغ (cyborg) أو الإنسالة التي تعني مزيجاً بين الإنسان والآلة، هو آخر ما توصل إليه البحث الياباني والأنجلوسكسوني في مجال صناعة الروبوت، وقد انتقل من مجاله الخيالي والفني (السينمائي بالخصوص) إلى مجال التطبيق الواقعي من خلال سلسلة تطويرات للآلة التي تحمل نوعاً من الذكاء الإنساني إلى حد تمثيل نوع من مشاعره وعواطفه التي تجعله كائناً ينفعل ويحس، انطلق هذا الابتكار في اليابان مع آزمو (ASIMO) وهو إنسالة أو آلة ذكية تستطيع المشي وصعود السلالم سنة 1993 والتي تطورت وأصبحت منذ 2004 قادرة على تعرف الوجوه وتمييزها، ثم مع آيبو (AIBO) التي حاكت الحيوان أو الكلب الاصطناعي الذي يستطيع تلقي التعليمات وتأويلها، وأخيراً مع كسمت (Kismet) كإنسالة أكثر ذكاء من خلال قدرتها على التعبير عن حالات عاطفية كالفرح والسعادة والدهشة عبر تحريك عينيها وحاجبيها مثلًا، وبذلك فإن هذا التطور من شأنه أن ينقل المشاعر الإنسانية إلى الآلة مستقبلا.
إن هذا التطوير المستمر للسيبرنيطيقا أو التحكم الآلي يسعى بالأساس، حسب أبرز الخبراء مثل فينر (Norbert Wiener)، وفارفيك (Kevin Warwick) أستاذ السيبرنيطيقا في جامعة كوفنتري (Coventry) البريطانية الذي يعتبر أول من طبق سلوك السايبورغ، عبر غرسه رقاقة إلكترونية في ذراعه تمكنه من الاتصال مع آلات أخرى رقمية، يسعى إلى البحث عن رفاه الإنسان، وتطوير إمكانياته وقدراته وذكائه، وصحته من خلال محاولة البحث عن الجينات المسؤولة عن المرض بل المسؤولة كذلك على الموت على اعتقاد من بعضهم أن الموت مرض وليس حالة بيولوجية طبيعية؛ غير أن المشاكل التي تطرح تبقى ذات بعد قيمي وأخلاقي، على اعتبار أن الآلة غالباً ما تستعبد الإنسان، ومن ثم فالأسئلة التي تطرح اليوم هي: ما مصير الإنسان إذا ما أصبحت الآلة مستقلة عنه تتحكم في نفسها بل وتتحكم فيه هو أيضاً، (وقد برزت بعض ملامحها اليوم)؟ ما ذا لو أصبحت الآلة أو السايبورغ ذا مشاعر وعواطف وانفعالات؟ هل يمكن أن يكون السايبورغ هو إنسان المستقبل؟ هذه أسئلة تطرح من بين أخرى لعل العلم أو السيبيرنطيقا من سيجيب عنها في المستقبل القريب.