محمد إبراهيم أبو سنة

شاعر الاغتراب الرومانسي والهم الإنساني

د. رضا عطية


يجيء الشاعر المصري محمد إبراهيم أبو سنة (15-مارس-1937/ 10-11-2024)، كأحد أبرز الشعراء الذين بزغوا ضمن جيل الشعراء المصريين الذين بزغوا في ستينيات القرن الماضي كأمل دنقل، وفاروق شوشة، ومحمد عفيفي مطر الذين مثلوا الموجة الثالثة من شعراء الحداثة العربية والقصيدة التفعيلية الجديدة، بعد الموجة المؤسسة لهذا النوع الشعري التي كان أهم شعرائها من العراق كنازك الملائكة والسياب، والموجة الثانية التي ضمت عددًا من الشعراء الذين ساروا بطريق أسلافهم من المؤسسين وزادوا عليهم تطويرًا للقصيدة التفعيلية كأحمد عبد المعطي حجازي وصلاح عبد الصبور، وسعدي يوسف وغيرهم، فجاء شعراء هذه الموجة الثالثة ومنهم أبو سنة تسبقهم تجربة ممتدة لما يناهز العقدين في نوع الشعر التفعيلي، وكذلك في فترة ما بعد الكولونيالية والتحرر الوطني، فترة حاشدة بالأحداث والتغيرات السياسية والاجتماعية، ما جعل شعرهم انعكاسًا لهذه المتغيرات الجمالية والتحولات الاجتماعية.

وعلى نحو بدا محمد إبراهيم أبو سنة، منذ ديوانه الأول "قلبي وغازلة الثوب الأزرق"، ابنًا للتجربة الجديدة للنوع الشعري المحدث في الشعر العربي، شعر التفعيلة، لكن خيوطًا تربط تجربة أبو سنة بالرومانسية، فجمع شعره بين حداثة التفعيلة وروح الرومانسية.

 

أزمة إنسان العصر:

من التيمات الملحة على الخطاب الشعري لشعراء الحداثة العربية لاسيما في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، اغتراب إنسان العصر في مواجهة التطور التقني المذهل والآلية التي وسمت هذا العصر، كما في قصيدة بعنوان "حين فقدتك" من ديوانه الأول، قلبي وغازلة الثوب الأزرق، حيث يقول الصوت الشعري:
في السادسة من كل مساء
كانت تأتي الذكرى
ذكرى العشب النابت في الكلمات
ذكرى أول حلم في ليل العمر
ذكرى أول أغنية غناها لاثنين النهر
(....)
السرعة إعلان بُحَّ صوت العصر
لكن يا حبي لو أنَّ مدينتهم عشقت
ما فكر إنسان في أن يقتل زمنه
كان سيبحث عن عمر ليضاف إلى العمر
حتى البسمات هنالك قد نسيت فوق شفاهم
من أقدم عصر
علقها ذات مساء قلم أصفر 
حتى الكلمات هنالك لا تكتمل
نصف الكلمات المنطوقة تأكلها العجلات
ويظل النصف الأجمل
لم ينطق بعد

يجمع أبو سنة في خطابه الشعري بين مقولات الرومانسيين والوجوديين، كما في إبراز عذابات الذات في فقد آخرها/ الحبيبة الريفية المفتقدة في عالم المدينة، عالم الآلية والتقدم التقني وسرعة إيقاع الحياة الذي لم يكن يألفه الريفي، فتبدو ساعة الغروب كما هو عند الرومانسيين وقتًا لاجترار الذكريات وثورة المواجد، في مقابل شعور الوحشة في المدينة، عالم السرعة وفقدان المشاعر الإنسانية، كالحب، وإحساس الإنسان بثقل الزمن ووطأته، وهو ما يقتل الكلمات، حيث تمحو آلية المدينة قدرة الإنسان على التعبير باللغة عن جوهره الروحاني، أو يُحجب ما في داخل الإنسان ويكبت منعًا عن التعبير عن ذاته بشكل جمالي يليق بإنسانيته، فتبرز استعارتان- مثل: (ذكرى العشب النابت في الكلمات) التي تمثل لانغماس الطبيعة في بكارتها، ممثلة في العشب في الكلمات، في مقابل (نصف الكلمات المنطوقة تأكلها العجلات) التي تبرز التهام المدينة وآلاتها للكلمات، وسيلة التواصل الإنساني وآلة التعبير الإنساني الجمالي- تناقضًا صارخًا بين حال الكلمات مقترنة بالعشب في نمط حياة في أكناف الطبيعة البكر، والكلمات المهدرة، والضائعة بأثر الصخب المديني ونمطيتها الآلية.

أسطورة بينيلوبي وانتظار الخلاص:

يقترن الاغتراب الرومانسي عند محمد إبراهيم بانتظار خلاصٍ ليس للذات الفرد وحسب وإنَّما للجماعة الإنسانية، كما في قصيدته "قلبي وغازلة الثوب الأزرق"، التي يستحضر فيها أسطورة بينيلوبي، تلك الزوجة الوفية التي ظلت تنتظر زوجها وحبيبها الغائب "اوديسيوس"، الذي غاب عنها سنوات طويلة ناهزت الثلاثة عقود في حرب "طروادة"، فبقيت تنتظر رجوعه، ورافضة كل من حاول الاقتراب منها، فيقول أبو سنة:
قلبي عارٍ يا غازلة الثوب الأزرق
عارٍ فوق ضفاف التاريخ يلوح ويغرق
عين دامعة تبكي كل ضريح
منذ الإنسان الأول لم يعرف قلبي ثوبًا إلا الريح
إلا أغنية الجرحى تنزف فوق كل جروح
قلبي كان حمامًا يبكي في الغابات
يتعذَّب في عين الإنسان الواقف في وجه الشلالات
مذ كان يكافح أجنحة الليل تغطي كل الطرقات
مذ كان يناضل في السفح هدير الطوفان
لكن نوح يلغ الجبل الأعلى وانتصر الإنسان
أورق فوق السفح زمان
وارتاح القمر المجهد فوق الأغصان
لكن الفلك يدور
وتسقط في روما الغربان
أشعلها نيرون وراح يصفق

تبدو الذات عند محمد إبراهيم أبو سنة ذاتًا متممدة لتعني الإنسان بامتداد التاريخ حتى لحظته الآنية المعاصرة، فيتماهى الشاعر مع الإنسان عبر تاريخه حد التوحد معه في أزماته ويشاطره عذاباته ويشاركه نضالاته بغية الخلاص المنشود، فيستدعي بعض الحوادث الكبرى والمفصلية في تاريخ الإنسانية كالطوفان الذي واجهه نوح، وحريق روما على يد نيرون إبرازًا لتاريخ الفواجع الإنسانية.

ويوظف أبو سنة في هذا المقطع، كما في معظم شعره، القافية المتموجة المتعددة في حروف الروي كسياج موسيقي لفضاء نصه الشعري وكذلك تدعيمًا لدلالات مقولات خطابه، فيستهل تقفية هذا المقطع بصوت (القاف) رويًّا لأول سطرين شعرين، ومختتمًا لآخر سطر من هذا المقطع في كلمات (الأزرق/ يغرق/ يصفق)؛ وكأنَّه تمثيل لدائرية أحداث التاريخ الإنساني والعودة إلى نقطة المنطلق، وصوت (القاف) عمومًا هو من أصوات الشدة، ما يعكس شدة المأساة الإنسانية وحدة شعور الإنسان وإحساس الشاعر بها، ويتبدى أنَّ خيوطًا تربط هذه الكلمات صوتيًّا ودلاليًّا، فالأزرق الذي هو لون الثوب الذي تغزله هذه المرأة/ بنيلوبي هو لون البحر أيضًا، ويحيل البحر إلى حالة (الغرق) الإنساني عبر التاريخ في الصراع والضياع والفناء، أما الفعل (يصفق) فبوضعه إزاء الفعل (يغرق)؛ فإنَّه يعكس حالة الانفصام الإنساني بين الشاعر المهموم بالإنسانية في مآسيها التاريخية والطاغية نيرون المتلذذ بفعل الخراب والتدمير والإفناء، كذلك يأتي أبو سنة في معظم قوافيه بحرف إسناد ممدود قبل حرف الروي، محدثًا نبرًا صوتيًّا كما في: (ضريح/ الريح/ جروح)، و(الغابات/ الشلالات/ الطرقات)، و(الطوفان/ الإنسان/ زمان/ الأغصان)، فيجسد النبر الصوتي في خواتيم الأسطر الشعرية قوة شعور الذات الشاعرة بالمأساة الإنسانية، وتعمُّق إحساسها الحزين بحال البشرية.

ويعيد أبو سنة في هذه القصيدة توظيف أسطورة بينيلوبي بشكل مجدد لمعاني الأسطورة الأصلية:
يا غازلة الثوب فؤادي يطلب ثوبْ
فإذا ما كنت ستنتظرين الغائب أوديسيوس
فأنا أيضًا أنتظر الغائب
فوراء غيوم الأفق تلوح عيون الذاهب
ما زال يجاهد موج البحر
وسيرسو يومًا أقوى من هذا الصخر
سيعود يمام القرية يا بينيلوبي
والإنسان المجهد لن تهلكه الشمس
والقمر سيكمل دورته لن يبكي أبدا
ما أجمل وجه الإنسان يضيء غدا
والأغصان الجرداء كأذرعة الموتى
سوف يغطيها الزهر
وبحيرات قرانا إن جفت
سوف يعانقها البحر
أما قلبي فسيعثر في غابات الموز
على ثوب أزرق
سيتم الرحلة باسم الإنسان
ولن يغرق

يستخدم الشاعر أسطورة بينيلوبي كاستعارة عن الذات الإنسانية في انتظارها الخلاص الوجودي، وتطلعها لمستقبل مشرق للإنسانية بمثل انتظار بينيلوبي لحبيبها وزوجها الغائب، أوديسيوس، ويؤكَّد الصوت الشعري موقفه الممثل للإنسان لا كونه مجرد فرد، وفي التمثّل الشعري للخلاص لدى أبو سنة يستعمل أيضاً استعارة ازدهار الطبيعة كعلامة على الخلاص الإنساني، والعمران الكوني والإثمار الوجودي، كما يبدو على بنية التشكيل الاستعاري اعتماده أسلوب التدوير الاستعاري القائم على تكرارية غير استعارة يقوم بينها تناظر، كما في استعارتي: (والأغصان الجرداء كأذرعة الموتى/ سوف يغطيها الزهر)، و(وبحيرات قرانا إن جفت/ سوف يعانقها البحر)، اللتين تتماثلان في انتصار مظاهر الحياة كالإثمار والغمر على مظاهر الموات كالجدب والجفاف.

فلسفة المواجهة الوجودية:

في الخطاب الشعري لمحمد إبراهيم أبو سنة فلسفة استنهاضية؛ حث للذات الإنسانية على مواجهة مأزقها الوجودي، ومجابهة مصيرها بشجاعة وعزم ورغبة عارمة في إصلاح العالم وتغيير الوجود، وهو ما يتبدى في واحدة من أشهر قصائد "أبو سنة"، "البحر موعدنا"، فيقول الصوت الشعري:
البحرُ موعِدُنا
وشاطئُنا العواصف
جازف
فقد بعُد القريب
ومات من ترجُوه
واشتدَّ المُخالف
لن يرحم الموجُ الجبان
ولن ينال الأمن خائف
القلب تسكنه المواويل الحزينة
والمدائن للصيارف
خلت الأماكن للقطيعة
من تُعادي أو تُحالف؟
جازف ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي
ولا أن يُصلح الأشياء تالف
هذا طريق البحر
لا يُفضي لغير البحر
والمجهول قد يخفى لعارف
جازف
فإن سُدّت جميع طرائق الدُّنيا
أمامك فاقتحمها لا تقف
كي لا تموت وأنت واقف

يبدو خيار "المجازفة" في مواجهة عواصف الوجود هو الحل الأنسب لمعالجة فساد العالم، فخلاص الإنسان في هذا العالم بيد الإنسان لا بيد غيره، في ظل شعور بتخلي الآخر عن الذات، والإحساس بخواء العالم من التعاضد الإنساني والتضامن البشري.

يعتمد التلفظ الشعري ضمير "المخاطب" الذي يحمل قدرًا من المرواغة واحتمالية تعددية مقصده، فقد يعود المخاطب على الآخر/ الإنسان بعامة، وقد يشير هذا المخاطب إلى الذات نفسها في مونولوج يعبِّر عن انشطار ذاتي؛ حيث شطر الذات المتأبي يستنهض الذات الموضوعية لتضطلع بدورها الوجودي وتنهض بعملها الإنساني بجسارة في مواجهة عواصف الوجود وتحدي أزماته.

تلعب البنية الموسيقية في هذه القصيدة دورًا مهمًا في الإبراز الدلالي لمقاصد الخطاب الشعري، حيث أسطر شعرية مكثفة تعمل على تسريع إيقاع التلفظ الشعري بما يناسب دلالة الحث والاستنهاض المتبدي عبر الخطاب الشعري، كما تؤدي القافية أثرًا فاعلاً في تعضيد مقولات النص؛ إذ يعتمد أبو سنة قافية موحدة الروي، ليكون صوت القاف الساكنة حرفًا للروي مسبوق بحرفي تأسيس ممثلاً، في صوت مد (الألف) وصوت دخيل، صوت متحرك بالكسر بين صوتي الألف والقاف، في كلمات: (العواصف/ جازف/ المخالف/ خائف/ للصيارف/ تحالف/ تالف/ عارف/ واقف) وهو ما يحدث نبرًا في خواتيم الأسطر الشعرية يجسد إحساس المواجهة ورغبة التحدي، وتمادي الأخطار في مقابل تعمُّق الإحساس بالمسؤولية وعرامة الإرادة العازمة على تقرير مصير الذات بنفسها، كذلك يتكرر فعل الأمر (جازف) ثلاث مرات، كصيحة استهاضية ومنطلق إيقاعي في القصيدة.

يبرز عند محمد إبراهيم أبو سنة شعرية الخيال المائي في الاعتماد الاستعاري على عناصر مائية تمثيلاً لفسلفة المواجهة الوجودية للذات الإنسانية، لما للبحر من رمزيات الفساحة والامتداد اللامتناهي، والمجهول الذي يتطلب شجاعة في ارتياده، واستعارة البحر والشاطئ يكررها أبو سنة كتنويعات استعارية لموقف إنساني في مواجهة المجهول، كما يقول في قصيدة "لا تسألي":
لا تسألي حبيبتي وما نهاية المطاف
فالبحر لا يبين عن شواطئ لمن يخاف
والعاشق الجسور يكره السؤال
الأفق في عينيه خطوتان
والبحر ضربتان بالمجذاف
وما هو الزمان؟ لحظتان تعبرانِ في وداد

تكثف استعارة البحر في أشعار أبو سنة للوجود البالغ الاتساع والعالم الحافل بالأخطار، والمجهول للذات الإنسانية الذي ينشده عاشقًا جسورًا يتعامل مع أية تحديات وجودية بشجاعة ومحبة، ما يجعله يطوي هذا المجهول المتناهي في الفساحة (البحر) كضربتين بالمجذاف، وبالمثل يجعله يطوي الزمان.

وتبدو قصيدة أبو سنة جامعة لخصائص الحداثة الشعرية، ممثلة في البنية والقالب الشعري، قالب شعر التفعيلة، ووارثة لبعض سمات الشعر الكلاسيكي، كما في إيراد بعض الأسطر الشعرية كمثل سائر أو حكم، تصلح أن يكون لها حضورها المستقل مثل: (فالبحر لا يبين عن شواطئ لمن يخاف)، فتبدو حداثة أبو سنة الشعرية متوازنة في جيناتها البلاغية وأسلوبيتها التعبيرية؛ فلا تقيم قطيعة مع التراث الشعري، ولا يفوتها الأساليب الشعرية الجديدة.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها