ظِلٌ!

رأفت عزمي علي


هبت نسمات هواء الأربعين الحزينة عبر نافذتها النصف مغلقة، اتكأت بساعديها ورأسها منتكسة، بينما نظرتها المشدودة إلى السماء، غامت ذكرياتها المعلقة مع دموعها المتساقطة مثل الغيوم الرمادية في ليلة شتوية من ديسمبر.

يبحر في محيط عينيها، بدا كعلامة استفهام تشكلت فوق تجاعيد وجهها الثلاثيني كأنه الستيني من قسوة الأيام.

هامت خواطرها الممزقة في جنبات الحجرة.. تتفرج شفتاها سخرية من حظها.

تلمح ظلًا قادماً من المجهول. عيناها يقظتان مستغربتان.. تتوهج النار في بريق عينيها تصعد زفرات الشوق من قلبها. يغطى السواد معظم جوانب الحجرة ذات الضوء الخافت. تسرح بخيالها، تعزف أنينها على أوتار واهية. ترى أوراق حياتها الخضراء قد يبست في ديسمبر الكئيب.

كبرياء العودة يؤرقه.. هي تلمح في رماد عمرها بصيصًا من أمل. غفت عيناها قليلًا، تراه يرسم بقلمه الأحمر أوجاع الغدر على جبينها. تحس بدفء أنامله. يجذبها برفق. تتعلق يداها بكتفيه. يلف خصرها بذراعيه ثم تلقي رأسها، وتسرح بخيالها. تشعر بالحنان المفقود منذ زمن بعيد. في تلك اللحظات كان القمر مطلًا بين الغيوم بوجه حزين باهت. يناديه بنبرة حادة: تعالى بسرعة.. ميعادك فات.

يتمدد طولا... ينكسر...

يستعد للرحيل تجذبه بقوة تستعطفه قائلة:
اصبر... سيبه شوية... لسه بدري.

الهواء الساكن في أرجاء الحجرة ما زال مثقلًا بعبق روائحه المسكية. تستنشقه كأنه إكسير الحياة الأبدية.

هاتف هامس يطرق أبواب أذنيها. تشعر أن هناك من يعكر الصفو يتلصص عليهما.

يرصد همساتهما.. أوصدت النافذة وأسدلت الستار. يلوح في الأفق البعيد مجهول قادم يغرق حجرتها بشبح الظلام المخيف.

تتساءل في حيرة ولهفة:
- آيه الضلمة دي.. راح فين.. اختفى فين.

ترتجف ويسكن الرعب في حنايا قلبها وسراديب روحها.

تهمس في جنون.. هو هناك.

- نعم هناك لم يرحل. ما زال مستيقظًا على سريره، الوسادة دافئة ينفث منها رائحة عرقه.

ينظر إليها طويلًا، ويلوح بيده مع صوته المتهدج بحروف الرحيل، يعزف لسانه لحنًا لا تعرفه إلا أذناها مثل صوت دقات الساعة المزعجة.

يمر بسرعة كلمح البصر مصطحبًا القمر الخافت. عيونها تلمحه وهو يفر.

تتوالى زفراتها المتلهبة.. تعلو صرخاتها فتضرب الحائط بيدها. تسقط صورته المعلقة. فيختفي الظل فيسقط قلبها فترتمي عليها بكل مشاعرها على بقعة الظل الغائب.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها