تحقيق المخطوطات.. فرصة للتلاقح الثقافي بين الجيال

دار المخطوطات الإسلامية بالشارقة نموذجاً

د. هشام محمد خليل


كثيراً ما يُطلق الكتاب على الترجمة أنها ناقل حقيقي للثقافة وهذا أكيد، ولكن ما لا يعرفه الكثير أن تحقيق الكتب والمخطوطات أيضاً هو ناقل حقيقي للثقافة؛ ولكن من الأجيال السابقة لنا. بل وكثيراً ما نرى بين أيدينا الكتب التي مضى على تأليفها لأكثر من قرن.. نراها مطبوعة وبخط جميل وترتيب مُتقن، ونجد هوامش وتعليقات أسفل ورقات هذه الكتب.. وهذا كلُّه بفضل تحقيق المخطوطات، التي عمل العلماء على استخراجها والعمل على نشرها من جديد.
 

فالتحقيق هو علم وفن، يهدف لإحياء الكتب التراثية والمخطوطات الملقاة على رفوف المكتبات، لتخرج المخطوطة في صورة كتاب مكتمل للطلاب والباحثين بعد أن كانت ميتة على رفوف المكتبات.

وقد بدأ تحقيق المخطوطات منذ قرون عند العرب، لكنه لم يكن علماً مستقلًا له أصوله ومناهجه الواضحة التي تُدرَس، بل مجرد إجراءات وعمليات يقوم بها بعض الأفراد، وقد تطورت هذه الإجراءات حيث أظهرت غيرها كالفهارس وعلامات الترقيم، والشرح والتعليق، والمقدمة والخاتمة.... وبدأت عملية التحقيق توازي عملية الطباعة؛ إلا أن أولى المطبوعات العربية التي نُشِرَت لم تُحقَّق، حيث اكتفى المستشرقون بنشرها كما هي في الغالب، بلا مقابلة ولا تصحيح ولا فهرسة.

لذا؛ يعتقد البعض أن التحقيق مجرد طباعة المخطوطة، بل التحقيق مفهوم واسع يشمل الكثير في المخطوطة من خط وترقيم وأعلام وكل ما فيها، وأي نسخ أخرى للمخطوطة.

فتحقيق المخطوطة هو ما يقوم به المحقق من إخراج نصوص المخطوطات القديمة في صورة صحيحة متقَنة، ضبطاً وتشكيلاً، وشرحاً وتعليقاً، وفق أصول متبَعة معروفة لدى الذين يتعاطون هذا العلم، فيما عرَّفه بعضهم بالقول هو: "علم بأصول إخراج النص المخطوط على الصورة التي أرادها صاحبها من حيث اللفظ والمعنى"، فإن تعذّر هذا كانت عبارات النص على أقرب ما يمكن من ذلك.

والتحقيق يمر بمراحل أولها: الحصول على المخطوطة والتأكد من عدم تحقيقها، ثم البحث عن نسخ أخرى والمقارنة بينها، وفي علم المخطوطات تكون أفضل نسخة هي التي بخط المؤلف نفسه، ثم طباعة المخطوطة، وغيرها من الإجراءات، وبعد ذلك طباعة النص مع ضبطه، وإصلاح أي أخطاء مع التعريف بالأعلام والكلمات الغامضة، وإذا كان هناك اختلاف بين النسخ يجب توضيح ذلك.

ويشترط في المحقق شروطاً عامة لكل محقق ومنها: أن يكون عارفًا باللُّغة العربية - ألفاظها وأساليبها - معرفةً وافية، وأن يكون ذا ثقافةٍ عامة، وأن يكون على عِلم بأنواع الخطوط العربية، وأطوارها التاريخية، وأن يكون على دراية كافية بالمراجع والمصادر العربية (ببليوغرافيا)، وفهارس الكتب العربية، وأن يكون عارفًا بقواعد تحقيق المخطوطات، وأصول نشر الكتب.

بالإضافة إلى ما سلف، يفترض على المحقِّق أن يكون متخصصًا بالكتاب المراد تحقيقه، عارفًا بأصوله، فمن أراد تحقيق مخطوطٍ في النحو، فعليه أن يكون نحْويًّا ذا دراية بتاريخ النحو والنحاة ومدارسهم، ومن أراد التحقيق في الرياضيات، فعليه أن يكون رياضيًّا ذا دراية بتاريخ العلوم عند العرب... وهكذا.

ومن المشكلات التي تواجه المحقق: العثور على نسخة المخطوط، فقد يصول ويجول الباحث للبحث عن نسخة، وقد يحتاج لأجل تصويرها مبلغاً كبيراً قد لا يستطيعه، ومن المشكلات المدة الزمنية الطويلة التي يحتاج لها المحقق لتحقيق كتاب، فمثلاً قد يكون الكتاب 100 صفحة، فيحتاج إلى سنوات، لتحقيقه، لذا في أقسام الدراسات العليا بالجامعات يتم توزيع المخطوطة على مجموعة طلاب، بحيث يكون كل طالب يستطيع في نهاية الدراسة أن يحقق الجزء المطلوب منه. ويعتبر سوء جودة المخطوط من المشكلات، فقد يكون الخط سيئاً أو قد يكون المخطوط ذاته سيئاً، أو يكون قد سقط من المخطوط صفحات، وهناك مشكلات أخرى كثيرة من الصعب حصرها تواجه المحقق.
 

وإن أول كتاب في تحقيق المخطوطات تحقيق النصوص ونشرها لعبد السلام هارون، وقد صدر سنة 1954م، وفيه أفاض الحديث عن هذه الصنعة، وأنواع الورق، والمخطوطات وكيفية التعامل مع المخطوطات، وكيفية التعامل مع النسخ، فقد وضع منهجاً لكل محقق يريد أن يسير عليه.

ومن أبرز المحققين: أحمد زكي باشا شيخ العروبة (كتاب الأصنام، أنساب الخيل)، ومحمد محي الدين عبد الحمید: (مؤلفات ابن مالك، وابن هشام وابن عقیل، والأشموني)، وأحمد محمد شاكر (الرسالة للشافعي، مسند أحمد)، ومحمود محمد شاکر (تفسير الطبري، طبقات فحول الشعراء)، عبد السلام هارون (معجم مقاييس اللغة، جمهرة أنساب العرب، خزانة الأدب)، عبد القادر الأرناؤوط (جامع الأصول، زاد المعاد بالاشتراك)، وشعيب الأرناؤوط (سير أعلام النبلاء، شرح السنة للبغوي، مسند الإمام أحمد، العواصم لابن الوزير)، بشار عواد (تاريخ الإسلام للذهبي، التمهيد لابن عبد البر، تاریخ بغداد للخطيب)، وعبد الفتاح أبو غدة ومحمود الطناحي، وعبد الفتاح الحلو، ورمضان عبد التواب.

وقد كانت البداية لإحياء التراث وطباعة الكتب منذ وصول المطبعة لأرض العرب، فبدؤوا يطبعون الكتب التي كانت في البداية ذات طابع مسيحي؛ لأن رواد الطباعة كانوا مسيحيين خاصة في لبنان.

 وانتشر طبع كتب التراث المختلفة خاصة في مصر بالمطبعة الأميرية (مطبعة بولاق) وقد كانت باكورة المطابع التي تهتم بالتراث وقد عملت على طباعة مئات من كتب التراث بنسخ وجودة مقبولة، بل تعتبر نسخها الآن من أفضل النسخ في التحقيق.

ومن دُورِ الاهتمام بالمخطوطات الرائدة في مجالها دار المخطوطات الإسلامية بالشارقة، حيث شُيدت دار المخطوطات الإسلامية في الجامعة القاسمية على طراز معماري إسلامي فريد، وبلغت تكلفة إنشائها وتجهيزها نحو 70 مليون درهم، وتقع الدار على مساحة تصل إلى قرابة ثلاثة آلاف متر مربع، وتضم 1500 مخطوطة أصلية نادرة من مقتنيات صاحب السمو حاكم الشارقة الخاصة، وذلك كدفعة أولى، تتبعها دفعات إضافية مستقبلاً.

وتُعدُّ دار المخطوطات صرحاً فكرياً، ومنارة ثقافية في المنطقة ككل، تربط الماضي بالحاضر، وقد أنشئت بتوجيهات صاحب السمو حاكم الشارقة؛ للاهتمام بالمخطوطات. وترتبط الدار بالشبكة الرئيسة للجامعة القاسمية. وتتكون الدار من طابقين؛ يحتوي الطابق الأرضي على مجلس، ومسرح لإقامة الندوات، والدورات العلمية المتخصصة، إلى جانب الأقسام الفنية، ومنها: قاعة لحفظ المخطوطات مزودة بإضاءةٍ مناسبة، ومجهزة بنظام إطفاء حريق خاص بالكتب النادرة، وخزائن حفظ آلية مقاومة لدرجات الحرارة العالية، ومطليّة بطبقة مضادة للبكتريا، والفطريات، ونظام أمان رقمي، بالإضافة إلى وجود مختبر لصيانة المخطوطات، يقوم على معالجتها كيميائياً، وترميمها، فضلاً عن التنظيف الجاف والميكانيكي لها.

وتضم الدار أيضاً أحدث الأجهزة لحماية المخطوطات وحفظها وفقاً للنظم العالمية، منها ما يتحكم في نسبة الرطوبة والحرارة، فضلاً عن أجهزة متطورة في التعقيم، والترميم، والفهرسة، والمسح الضوئي، وشبكة متكاملة من الحواسيب الآلية الحديثة، ومنظومة اتصالات متقدمة في التواصل مع إدارات الجامعة بالكامل.

وتعد الدار من أكبر دور الاهتمام بالمخطوطات، حيث تضم العديد من المخطوطات النادرة والتي تعود للقرن السابع، وتقدم خدماتها لجميع الطلاب والباحثين والمهتمين بتحقيق المخطوطات.

وما زال التحقيق رافداً يرفد الطلاب والباحثين بما يوجد من كتب القدماء التي لم تظهر للنور بعد، في شتى العلوم من طب وفلسفة وأدب وهندسة ومنطق، بل أصبح اليوم تخصصاً في الدراسات العليا، وله مناهج وأنظمة، وأجهز لحفظ ومعالجة المخطوطات وحمايتها من التلف.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها