يشكِّل التُّراث الشَّعبي علامةً فارقة في تاريخ الأمم، وإطاراً منسجماً في التعبير عن كينونتها وأصالتها، ومُلهماً لإنجازات أبنائها وعطاءاتهم خلال المراحل التاريخية المتعاقبة، والأمَّة الحيَّة هي الأمَّة التي تتمسَّك بتُراثها وتحافظ عليه، بوصفه حصيلة معارفها وخبراتها وسِجلّ وإنجازاتها وإبداعاتها، ومصدر فخرها واعتزازها، ومرآةً تعكس ذاكرتها وهُويَّتها الثقافيّة بين الأمم. والتُّراث الشَّعبي هو: مجموع الخبرات أو الحصيلة المعرفية والثقافية والفنِّية المتراكمة، التي يتداولها الناس فيما بينهم، بعد أن يتعلَّمونها بطريقة عفوية ويلتزمون بها في سلوكياتهم. ويشتمل التُّراث الشَّعبي على جانبين: الجانب الفكري أو اللامادي، الذي يتجسَّد في المعتقدات والطقوس والقيم، والأشعار والأساطير والحكايات الشَّعبية، والأمثال والألغاز والأغاني الشَّعبية. والجانب المادّي الذي ينطوي على موروثات تتجسَّد في أساليب الحياة العامة وترتبط بالاحتياجات اليومية، كالصناعات اليدوية، والفنون الشعبية والألعاب الشعبية وغيرها من الأشكال. ويأتي الأدب الشَّعبي في مقدَّمة موضوعات التُّراث الشَّعبي أو الفولكلور، إلى جانب مجالاته الثلاثة الأخرى: العادات والتقاليد، المعتقدات والمعارف الشَّعبية، الثقافة المادية والفنون الشَّعبية بحسب التصنيف الذي استحدثه محمد الجوهري(1).
يدلُّ الأدب الشَّعبي أو الإبداعات الشَّعبية الشفاهية تحديداً على الفنون القولية التي أبدعتها جماعة شعبية خلال تجاربها الحياتيّة، وتناقلتها أبناؤها عن طريق الرِّواية الشَّفوية وليس الكلمة المكتوبة، لتعكس واقع حال مجتمعاتهم الإنسانية وتعبِّر عن أحلامها وتطلّعاتها، وبذلك لا يعود إنتاجه لفرد واحد، ولا يُعرف مؤلِّفه أو مؤلِّفوه، بل إن الوجدان الشَّعبي أو الإبداع الجمعي شارك في صناعته وتعديله وتهذيبه ليتناسب الذوق الشَّعبي العام، وقد أطلق الباحثون عليه أسماء عدَّة منها: الأدب المحلي، أو الأدب الشِّفاهي، أو الأدب غير المدوّن.
وأهم فنون الأدب الشَّعبي هي: الشعر، من أكثر عناصر الأدب الشَّعبي انتشاراً بين الناس، والأهازيج الشَّعبية، التي تعدُّ سجلّاً حافلاً بالأغاني التي تردَّد في المناسبات، والأمثال الشَّعبية، وهي مرتبطة بالكلام العادي أو اللغة المحليّة الدارجة، والألغاز الشَّعبية، التي تقوم بوظائف عدّة منها الوظيفة الترفيهية، وأخيراً القصص المنثور، التي تشتمل بدورها على ثلاثة أنواع أساسية تشكِّل العمود الفقري للفنون القولية، وهذه الأنواع هي(2): الأساطير الشَّعبية، الحكايات الشَّعبية، السّير الشَّعبية.
الحكاية الشَّعبية هي نتاج معتقدات البشر وعاداتهم منذ أزمنة موغلة في القِدم، تناقلوها عن طريق المشافهة، وعبَّروا خلالها عن مضمون أفكارهم وعواطفهم وخيالاتهم، لذا فهي ترتبط بأفكار وموضوعات وتجارب تمسُّ حياة الإنسان أينما وجد. ومن الصعوبة تحديد تاريخ معين لظهورها، إذ يرجع جذورها إلى الحضارات القديمة كحضارة اليونان وبلاد الرافدين وشرق آسيا وغيرها، وهي تكون غير محدّدة الزمان أو المكان غالباً، ومصاغة في بناء قصصي محكم، زاخر بالحكمة والعِبر والقيم، أضفى عليها الإنسان بأدواته الإبداعية الكثير من الخيال والسِّحر والجاذبية.
ولهذا اللون من الإبداع الشعبي أهدافٌ تربوية ونفسية واجتماعية عدّة، فهي وسيلة لاكتساب الخبرات الحياتية، وترسيخ القيم الثقافية وتأصيل العلاقات الاجتماعية الإيجابية، إلى جانب دورها في المحافظة على الموروث الجماعي ونقله إلى الأجيال، وإثراء اللغة المحلية، وتنمية التذوّق الفني والجمالي، وفوائد الإمتاع والتسلية والترفيه. ويذهب هادي نعمان الهيتي إلى(3): (أن ليس بالوسع تصوّر شعب لا حكايات شعبية له). والجدير ذكره ثراء المجتمعات الإنسانية بهذا النوع من الأدب الشِّفاهي عموماً، والتشابه الكبير في أشكالها ومضامينها وموضوعاتها.
✧ الحكاية الشَّعبية الكرديّة ✧
يعدُّ التُّراث الأدبي الكُردي أو الأدب الشَّعبي الكُردي كسائر آداب الشّعوب الحيّة، أدباً غنيّاً جداً بالحكايات والأساطير والملاحم، وحافل بالسِّير والنوادر والطُرف، والحكم والأمثال والأقوال المأثورة، والأغاني والتهليلات والأهازيج والألغاز والأحاجي الشعبية، والطقوس الممارسة نتيجة معتقدات خاصة كطقوس هطول المطر، وغيرها من الأشكال الفولكلورية، بل من أكثر الآداب غنىً وثراءً، حتى إن الكثير من تلك الأشكال نظراً لعمقها ومدلولها ومضمونها دخلت في آداب الأمم المجاورة أحياناً، والتي اقتبست نماذج من الفولكلور الكردي. يشير إلى ذلك بعض المستشرقين والباحثين في التُّراث الكردي، حيث تقول الباحثة الأرمنية: (ش. س. موسيليان)(4): (الفولكلور الكردي غنيٌ بتعدّد جوانبه، وثمة نتاجات كثيرة مُنتشرة بين الكرد حتى يومنا هذا، وتعكس هذه النتاجات الأدبية المنتمية إلى مراحل مختلفة؛ خصائص الحياة المعيشية للأكراد، ونضالهم ضدَّ المعتدين، وكذا حُبهم ووفاءهم للصديق، وطموحهم للحرية والسعادة، كما تعكس هذه النتاجات أفراح الإنسان الكردي البسيط ومآسيه وأمانيه وأحلامه).
ويزخر التُّراث الكردي خلال المراحل التاريخية المتعاقبة التي مرّت بها المجتمعات الكردية بالكثير من صور النضال الإنساني في مواجهة القهر والظلم، بدءاً من الأساطير الخالدة، كأسطورة: (Kawayê hesinkar- كاوا الحداد) والتي انبثق منها (النيروز- اليوم الجديد) مروراً بالملاحم الواقعية، كملحمة: (Keleha dumdum- قلعة دُمدُم) وكفاح الإمارات الكردية التي بقيت شبه مستقلة في القرنين الثامن والتاسع عشر، مثل: كفاح البدرخانيين في إمارة بوتان، وليس انتهاءً ببعض الشخصيات التاريخية الكردية الفذّة؛ التي أدّت أدواراً نضالية هامة خلال الفترات التي عاشتها، وأسهمت في رفد الإنسانية بالكثير من المبادئ والقيم الفكرية والأخلاقية السّامية، أمثال: (كريم خان الزندي، والشيخ سعيد پيران، وغيرهما الكثير) والتي أصبحت جميعها مادّة خصبة للحكايات الشَّعبية الكردية.
يعود غنى وثراء الفولكلور أو الأنواع الإبداعية الشَّعبية الكردية إلى عدَّة أسباب موضوعية، منها: اعتماد الكرد على الأشكال الشِّفاهية في التواصل بشكل شبه رئيسي، بسبب ندرة المؤسسات التعليمية والثقافية خلال فترة طويلة من الزمن، وتأخّر ظهور الأدب المدوَّن وضعف تطوره الطبيعي بشكل عام، وتعدُّد لهجات اللغة الكردية، ومحاربة الموروث أو الفولكلور الكردي من قِبل الأنظمة الحاكمة على مرِّ الزمن.
إذا كان للأدب الشَّعبي تلك المكانة الكبيرة في التُّراث الكردي عموماً، فإنَّ للحكايات الشَّعبيّة مكانة مماثلة بالنسبة للأدب الشَّعبيّ بشكل خاص، إذْ أنَّها تحتل موقعاً متصدِّراً لأنواع الفنون القولية التي أبدعها الإنسان الكردي وتذوَّقها عبر تاريخه الموغل في القِدم، نظراً لما تمتاز بها مادَّتها من البساطة شكلاً وأسلوباً ومن الثراء والعمق بالوقت نفسه، وما تمتلكه من أدوات مؤثِّرة وقادرة على سبر أغوار نفسه العميقة. يقول مظفر بشير(5): (الحكايات الشَّعبية الكردية كثيرة ورائعة، تصف طرائف الطبيعة ومعالمها الغريبة، مع نوادر قصيرة ودعابات مرحة وقصص الحيوانات التي تظهر طبائعها وصفاتها المختلفة بأسلوب أدبي رمزي خالد).
وتأخذ الحكاية الشَّعبية في المجتمع الكردي نماذج عدّة، هي بحسب التصنيف الذي أورده علي الجزيري(6):
1. الحكاية الخرافية، أو حكايات الجان، أو حكايات الخوارق
2. حكايات الحيوان الرمزية
3. الحكاية الأسطورية
4. الحكاية الاجتماعية
5. حكاية الألغاز والأحاجي
6. حكاية الحكم والأمثال
7. الحكاية الفكاهية
8. حكايات البطولة- السِير الشَّعبية
لقد ارتبطت الحكاية الشَّعبية بحياة الكرد ارتباطاً وثيقاً، وأصبحت جزءاً من ثقافتهم وعاداتهم وطقوسهم، ووسيلةً للتعبير عن تجربتهم في معايشة أحداث الحياة، واستطاعت أن تعكس حكمة هذا الشعب وخصائصه الاجتماعية الأخلاقية، وكفاحه الإنساني من أجل البقاء، وكذلك صراع الطبقات التي يتكوّن منها المجتمعات الكردية، ناهيكم عن قدرتها على تصوير الطبيعة الأخّاذة لبلاد الكرد وتنوّع مظاهرها وتضاريسها، لذا يعدُّ هذا النوع من أكثر الأنواع الأدبية الشَّعبية انتشاراً وتداولاً في المجتمعات الكردية.
تنقسم الحكاية الشَّعبية الكردية إلى: الحكاية الطويلة وتسمّى: çîrok، والحكاية القصيرة التي تسمّى: çîrok çîr، يرويهما (الحكواتي: çîrokbêj) أو ينشدهما (المغنّي: Dengbêj) وهي تبدأ عادةً بجمل وعبارات ثابتة، تتضمن الدعاء للسّامعين، من قبيل:
◅ Hebû tinebû، rehme li dê û bavê min û we bû
كان ياما كان، رَحِم الله والديّ ووالديكم.
◅ Hebû carekê ji caran، xêr û xweşî bibare li hazir û guhdaran
كان ياما كان، وليعمَّ الخير والعافية على الحضور والسامعين.
◅ Hebû tinebû، carekê ji caran، rehme li dê û bavê hazir û guhdaran، ji xeynî fessad û ewanên ber dîwaran
كان يا ما كان، رحم الله والديّ الحضور والسامعين، باستثناء المفسدين).
ويتمثل غنى الفولكلور الكردي أيضاً بالآلاف من الحكايات الشَّعبية والأقاصيص الخاصة بالأطفال، والتي لا يزال الكبار يروونها لصغارهم حتى هذه الأيام، والأمثلة على هذه الحكايات كثيرة جداً ولا حصر لأنواعها، بحيث تجد كلَّ ما يناسب اختلاف مراحلهم العمرية، من أمثلتها: (Şengê û Pengê- السخلتان شنكي وبنكي) التي تعدُّ واحدة من روائع الحكايات في التراث العالمي، ولها تسميات كثيرة، ونجد أيضاً: (kaviroMişko miş- أيها الفأر الممتلئ) و(Kêzê kêzxatûnê- السيّدة الخنفساء) وغيرها الكثير من الحكايات الشَّعبية. ولعل أبرز الأشكال الحكائية وأقدمها في الموروث الكردي (حكاية الحيوان)، حيث تتصرف الحيوانات في بيئات حيّة، تفكِّر وتتحدّث كالبشر، وربما يرجع سبب ذلك إلى اتخاذ شخصية الحيوان ستاراً لتجنّب رقابة السلطة.
وتعدُّ الملحمة الشَّعبية، النوع الأقرب إلى الحكاية الشَّعبية بطبيعة الحال، وهي تنقسم في الأدب الشَّعبي الكردي إلى شكلين رئيسين: أولهما ملاحم العشق، ومنها: (شيرين وفرهاد)، (خجي وسيامند)، (زمبيل فروش- بائع السلال)، إلا أن أشهرها ملحمة: (مم وزين) المبنية على أساس الحكاية الشعبية: (ممي آلان) وقد صاغها شعراً العلامة والشاعر الفذ أحمد خاني في (2659) بيتاً شعرياً، عام (1692م)، أي في أواخر القرن السابع عشر الميلادي، لتصبح مفخرة الشعر الكردي الكلاسيكي، وقد ترجمها إلى العربية العلّامة محمد سعيد رمضان البوطي.
أما الشكل الثاني من الملاحم الشَّعبية فهي: الملاحم البطولية التي تكشف عن جوانب شتّى من الحياة الاجتماعية الكردية. ومن أشهر هذه الملاحم: (قلعة دُمدُم) التي تروي قصة واقعية عن بطولة الكرد وتصدِّيهم لجيش الشاه عباس الصفوي بين عامي (1605-1609م) أي في أوائل القرن السابع عشر الميلادي، بقيادة الأمير (أميرخان- ذو الكفِّ الذهب) وقد أصبحت هذه الملحمة فيما بعد معيناً لا ينضب للعديد من الإبداعات الشعرية والنثرية في الأدب الكردي الحديث.
● ترمز الصورة إلى: (Şahmeran - ملكة الأفاعي) التي غدر بها الإنسان، بعد أن أنقذته من الهلاك، بحسب الحكاية الشَّعبية الكردية، وهي صورة منتشرة بكثرة بين المجتمعات الكردية.
هوامش: 1. علم الفولكلور: المفاهيم والنظريات والمناهج، موسوعة التراث الشَّعبي العربي، الجزء الأول، تأليف د. محمد الجوهري، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، ص: 109.┇2. أشكال التعبير في الأدب الشَّعبي، ط 3، تأليف: نبيلة إبراهيم، دار النهضة للطباعة والنشر، القاهرة، 1991.┇3. سلسة عالم المعرفة، العدد 123 المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، مارس/آذار 1988 (ثقافة الأطفال) تأليف: د. هادي نعمان الهيتي، ص: 175.┇4. قراءة في ماهية الفولكلور- الفولكلور الكردي نموذجاً، الحوار، مجلة ثقافية فصلية حرّة تهتم بالشؤون الكردية، وتهدف إلى تنشيط الحوار الكردي- العربي، السنة الرابعة عشر، العددان (54-55) شتاء وربيع 2007، فراس محمّد، ص: 13/ نقلاً عن: (من الفولكلور الكُردي، قصص غنائية، حكم وأمثال)، د. محمد عبدو النجاري، مطبعة الكاتب العربي- دمشق، ص: 29. موسيليان: باحثة أرمنية وصديقة وفيّة للشعب الكردي، خدمت تاريخ الكرد وثقافتهم بكلّ إخلاص وتفان.┇5. نماذج من الأدب الكردي، مجلة المعرفة، العدد 156 آذار 2008.┇6. الأدب الشفاهي الكُردي (دراسة)، الجزء الأول، تأليف: علي الجزيري، الطبعة الأولى/2000، كاوا للثقافة الكردية، بيروت، ص: 42.