
أثناء اشتغالي على فيلم وثائقي حول "الأيقونة السورية" تعرفت على إلياس الزيات عن قرب، رافقنا لأيام كثيرة خلال التصوير واختيار الأسماء والأماكن والكنائس والأيقونات، وهو الأيقونة المحببة والطيبة والعارف بهذا الفن الكنسي الأصيل، رسماً وترميماً وتأصيلاً، وأثناء العمل والتجول تكتشف إلياس زيات الإنسان عن قرب.. علاقته بالناس والفنانين، والفن، ومواقفه وآرائه.
بعد فترة زرته في معرضه آنذاك في إحدى الصالات الدمشقية، وكان كامل المعرض مأخوذاً من كتاب النبي لجبران خليل جبران، كيف ذلك، إلياس أخذ من هذا الكتاب روحه وتفاصيله ومقولاته وأعاد صياغتها لوحة وألواناً وكلماتٍ، حواره البصري والروحي مع «نبي» جبران خليل جبران أثارني وحفزني، قلت له حينها أرغب أن أصورك وتتحدث لي عن المعرض واللوحات وجبران، ولشدة طيبته وإنسانيته أتى في اليوم التالي باكراً وعملت فيلماً عنه وعن جبران وعن اللوحات أسميته "أناشيد الغاب"، هنا نكتشف في إلياس العوالم الداخلية الغنية والرؤية الإنسانية للكلمة والمعنى، وكيف تتحول إلى لون وحياة من جديد في أسطورة خلق جديدة تشكلت فوق قماش أبيض وقلب أبيض وروح غارقة في الحياة والفن حتى الثمالة.

يميل فن إلياس زيات إلى الفن القدسي والروحاني "الكنسي والحياتي" في الفن السوري القديم، وذلك من خلال استخدامه لتقنيات الألوان والتشكيل والرموز والأسطورة، أو من خلال اختيار شكل الملابس وطراز العمارة بما تحويه من رموز، وكل ذلك يستعيره الزيات من الحضارات السورية القديمة.
وُلد إلياس الزيات في دمشق عام 1935 في حارة الجوانية بحي باب توما، أتم دراسته الثانوية في المدرسة الأرثوذكسية في دمشق عام 1954، وتابع دراسة الرياضيات في جامعة دمشق عام 1954-1955 ثم درس الفنون الجميلة، وتخرّج من قسم التصوير الزيتي في أكاديمية الفنون الجميلة في العاصمة البلغارية صوفيا عام 1960، ثم أكمل دراسته في كلية الفنون الجميلة في القاهرة. وفي عام 1973، تخرّج من أكاديمية الفنون الجميلة في بودابست باختصاص الترميم الفني. ثم انتقل إلى سوريا، حيث درّس في كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق بين عامي 1980 و2000، وخلال هذه الفترة نشر العديد من المقالات عن الفن والترميم..

يُعد الفنان إلياس الزيات أيقونةً من أيقونات الفن السوري خاصةً والعربي عامةً، أنجز خلال حياته عددًا كبيرًا من اللوحات الفنية التشكيلية، وأقام عددًا كبيرًا من المعارض، في سوريا والعالم.
في أعماله أصالة وجمالية.. وبالرغم من أنه بدأ فنياً رسّاماً واقعياً أكاديمياً إلا أنه عبر عدداً من المدارس كالتعبيرية والرمزية والتجريدية، وبالرغم من ذلك كانت أعماله تتميز بالغنى البصري واللوني والحيوية والجمال والمزج الخلّاق بين المقدّس والأسطوري.
خلال حياته التي امتدت 87 عاماً اهتم الزيات بتزيين العديد من الكنائس في سوريا بالأيقونات والجداريات، وهو الفن الذي أبدع فيه وعشق، رسماً وترميماً وتأصيلاً، فقد أبدع وتفرد في رسم الأيقونة السورية المحلية واشتغل عليها طويلاً، وفي كل ذلك نحس بعلاقته الطهرانية مع حواريي الأيقونة، بالإضافة إلى رهافة خطوطه وتكويناته، وتجانس الأشكال في خصوبة لونية فريدة اللونية، وتعبيراتها المحليّة الخاصة، الأمر الذي حملها بصمته الشخصية المتفردة، وربما فيها ينعكس تعلقه بالأمكنة كدمشق والقدس حباً وأسطورة وملحمية، كما ألّف وقدم محاضراتٍ حول الفن الأيقوني، وأقام عددًا كبيرًا من المعارض الفردية داخل سوريا وخارجها؛ كما حصل على الجائزة الدولية التقديرية بحفلٍ أقيم في مكتبة الأسد عام 2013.

كان الزيات أحد الرواد الأوائل الذين أسسوا البداية الحقيقية للفن التشكيلي السوري، وشارك في تأسيس كلية الفنون الجميلة في جامعة دمشق، وقام بالتدريس فيها منذ تأسيسها وحصل على رتبة أستاذ منذ عام 1980، وشغل منصب رئيس قسم الفنون ووكيل الكلية للشؤون العلمية أثناء عمله فيها، وألف كتاب (تقنية التصوير ومواده) لصالح طلبة الكلية، وصدرت الطبعة الأولى من جامعة دمشق عام 1981-1982.
غنى أعماله اللونية وعراقتها وتكوينها الخاص وتنوع آليات التعبير سمة مميزة للوحاته، ففيها خصوصية التناول، وتصاعد الأصوات والتعابير والمعاني من بين خطوط الألوان المتناغمة والمتداخلة من الحرف والتاريخ والأسطورة والحب، والمتسائلة في الكون والحياة والدين والثراء الروحي للإنسان والأسطورة غير نموذجية للحالات والأفكار والمدن والشخصيات وتقنيات استخدام اللون، بالإضافة إلى خصائص تجربة فريدة وخاصة في تكثيف الرموز والغرق في أسطورة الشرق عموماً والأسطورة السورية خصوصاً، وقدرته الكبيرة في رسم التعابير والصور الشعبية في خطوطه وصياغاته اللونية المبتكرة. كل ذلك نجده مندمجاً مع وجوه القديسين وعوالمهم الروحانية الصوفية في فضاء تشكيلي بصري ولوني متفرد وخاص، كل ذلك جعل منه معلماً حقيقياً للفن السوري وأباً روحياً لأجيال من التشكيليّين السوريين الذين استمدوا من خبرته الطويلة في العمارة اللونية مخزوناً حضارياً لا ينضب.

مرة سأل أحدهم الزيات عن تأثير اسمه "إلياس" عليه نفسياً وروحياً وفكراً وسورياً، وخصوصاً إذا علمنا أن إلياس هو تحوير لكلمة إيل وهذا الاسم أو الصفة (إيل) يعود إلى 3000 سنة قبل الميلاد في سورية؟
يجيب: "إن ما تقوله صحيح، فهذا الاسم موجود في المنطقة منذ القديم، وهذا الاسم موجود في القرآن (هذا الاسم ينبع من هذه المنطقة، من حضارة سورية منذ القديم)، نعم أعرف أن إلياس من إيل وحديثك بهذا الشأن يثبت شعوري بالانتماء إلى أعرق الحضارات، وفي المقابل لا بد أن تكون لكل امرئ من اسمه نصيب، ومن هنا يأتي رسمي وتوجهي الفكري ودون سابق إصرار فكري على التوجه بهذا الاتجاه الذي يحاكي فكر المنطقة وجذورها، الإنسان أو الفنان إذا ما تصالح مع نفسه لا بد أنه سيعكس الجوهر الذي ينتمي إليه، نحن بكل تواضع نعرف الطريق إلى الجوهر".
أعمال الراحل إلياس الزيات محفوظة في المتحف الوطني في دمشق، ومعهد العالم العربي – باريس، وفي العديد من متاحف العالم العربي والغربي.