على مدار ثلاثة عقودٍ مضت استقرت خريطةُ الشعرِ العربي على أسماء بعينها مثلًا: محمد أدم، وعماد أبو صالح، وأخيرًا فتحي عبد السميع في مصر، ووديع سعادة في لبنان، وموسى حوامدة في الأردن، وسركون بولص وسعدي يوسف في العراق، وقاسم حداد في البحرين، وسيف الرحبي في سلطنة عمان، هكذا رأيت خريطة الشعر العربي الحديث في الثلاثين سنة الماضية، أو هذا ما تمَّ تصديره لنا، وللأسف لم تكن المملكةُ العربيةُ السعوديةُ ممثلةً في هذه الخريطةِ، في نفس الوقت أعجبتني تجاربُ عديدة متميزة في الشعر النبطي السعودي، وفي الرواية السعودية ظهر كتابٌ بارعون قدموا منجزًا كبيرًا ومميزًا، وكنت أندهش وأسأل نفسي: أين المملكة العربية السعودية من خريطة الشعر العربي الحديث؟ حتى وقع في يدي ديوان "مطرٌ كسولٌ على الباب" للشاعر الكبير عبد المحسن يوسف، الديوان صدر منذ أيامٍ ضمن مشروع 100 كتاب الذي تقدمه دارُ أدب للنشر، وبدعمٍ من الصندوق الثقافي السعودي.
قرأته مرات وبكل صدقٍ غيَّر هذا الديوانُ خريطةَ الشعر العربي لدي، وجعل للملكة العربية السعودية موقعًا متميزًا فيها، يقول الناقدُ والمؤرخُ الثقافي حسين بافقية عن عبد المحسن يوسف في مقدمة الديوان: "الشاعر السعودي عبدالمحسن يوسف هو شاعرٌ كبيرٌ رُزِقَ موهبةً، وعرف أصول الصنعة ومَنْ يقرأ شعره -بما انطوى عليه من مائيةٍ وروعةٍ- يدرك أنه ابن التقاليد والشاعر الكبير هو الذي يجدد داخل التقاليد، وهو الذي يعرف أدواته جيداً، فليس ثم خطأ نحوي واحد ولا ركاكة في الديوان... ما أسعد الشعر العربي بشاعر كبير هو عبد المحسن يوسف"!
"إذا هبَّت الرّيح في ليلنا
تنوحُ، وتبكي ثقوبُ الدّيار
يئنُ النَّخيل على بابنا
ويروي الدُّجا حزنه للنهر"
قرأت قصائد الديوان مراتٍ، وتأكد لدي أنني أمام تجربةٍ شعريةٍ مغايرةٍ، لا تندرج ضمن قصائد الغموض، ولا تقترب من الاستسهال أو المباشرة، هي قصائدُ ممتعةٌ وعميقة نضجت على مهلٍ، لا استعجال ولا تكاسل، يقف أمامها الشاعرُ والناقد والمفكر طويلًا، ويحفظها طلاب المدارس ويشتركون بها في مسابقات الإلقاء التي انتشرت في الفترة الأخيرة، إنها قصائدُ لا تأخذ من الشرق ولا تسطو على الغرب، إنها إبداعٌ خالصٌ للشاعر الذي نشأ في جزيرة فرسان جنوب غرب المملكة، حيث الصيادين والبحر والطين والزرع والزهور والنسوة اللاتي ينشرن العطر في الطرق التي يسرن فيها. والشاعر هنا لا يكتب إلا ما يلح عليه ولا يكرر ولا يستنسخ، وعندما تأتيه الفكرةُ يُخضعها لوعيه الإنساني واللغوي، فخرجت القصائد معظمها بتوقيع عبد المحسن يوسف ولا يوجد في الديوان كله مفردةٌ أو جملةٌ لا تنتمي إلى مشروعه الشعري.
باختصارٍ؛ لقد أسسَّ عبد المحسن يوسف مدرسةً شعريةً خاصة به، وحجز موقعًا للملكة العربية السعودية في خريطة الشعر العربي الحديث، ورغم اطلاعه الواسع عربياً وأعجمياً إلا أن مشروعه الشعري في ديوان "مطر كسول على الباب" ظل خاضعًا لبيئته ومفرداته، ومهارته في صنع جملٍ وصورٍ شعريةٍ مركبةٍ وبكر خاصةً به، مثلًا يقول:
"كجنونِ فمٍ يلتهم فمًا على ضفة الشغف". ويقول: "والذي لو جثا صامتًا حيثُ صمت القبور ذبلت فجأةً في يديه الزهورُ". ويقول: "مرارًا رحتُ أطرق، آهٍ من شغف اليدين"، و"في نصوصك كل آهة عيد وكل نفس مسرة"، ويقول: "شجني المائل كسنبلة مجهدة"، ويقول: "عطرك يرتب الغواية"، ويقول: "باب بيتنا حين لامسته أصابعها صار حديقة".
لقد كثرت الصور الطازجة البكر على مستوى الديوان، وازدان الديوان بمفردات محلية منحته خصوصية الألفاظ مثل: جرار وسيل، ونعناع وحمام، وذئاب وبحارة، وزرقة ولؤلؤ، وأسماك ونخيل، وحفاة وسلال، وعطر وعنب، وحوش وليمون وأزقة وقشدة، وغير ذلك من المفردات المنتشرة في جزيرة فرسان مسقط رأس الشاعر عبد المحسن يوسف.
"ورقصنا طربًا
إذ خرَّ جدارٌ
تبعته الأشباه جدارًا إثر جدارْ
لكن -ولسوء الحظ وبؤس الذكرى-
حلّت جدران أخرى
وغشي ماءَ النهر غبارْ".
الديوان يحتوي 145 قصيدة جاءت في 247 صفحة، وبه ثلاثة محاور رئيسة، هي: المرأة والأصدقاء والقصائد التأملية التي يكتبها الشاعر عن نفسه، أو عن المحيطين به، وهذه المحاور لا تعنيني كثيراً، فمن الممكن أن تراها في دواوين شعرية أخرى، لكن ما يعنيني هو طريقة التناول، فالشاعر لجأ إلى التكثيف الشديد في معظم قصائده حتى الطويلة جدًا منها، ولم يكرر نفسه وظل طيلة الديوان ينوّع، فهذه قصيدة قصيرة جدّاً مثل: "قميصها يكنز موجًا عاليا، يا ويلتاه، قاربي يميل"، وتلك قصيدة متوسطة الحجم يقول فيها: "أقول مهلًا يا طريقَ الحريرْ، حاولت إغوائي ولكنني، سلكت تيهًا إثر تيهٍ ضريرْ، ولم أته رغم انهمار الدجى، ولم أته رغم الغبار المطيرْ، ولم أته رغم اصطخاب السرى، ولم أته رغم التباس المسيرْ، ولم أذب في حيرةٍ إنما، أضعت قلبي في الممر الأخيرْ"، حتى يصل إلى قصيدة نصوص مقتصدة، وهي أطول قصائد الديوان وتكونت من 116 مقطعاً، كل مقطع منها مثال على التكثيف، يقول مثلًا في أحد المقاطع: "حين يكون في الجزيرة عرسٌ، الشوارع المفضية إلى العرس تعبق، والليل يضوع، النساء مررن من هنا"!
إنه شاعر يرى أن النصوص التي لا تزورها المرأة تستحق الشفقة، لهذا كانت المرأة طيلة الوقت تنثر العطر على القصائد، يقول عن المرأة في أحد نصوصه: "على كتفها المترف، ثمة وشمٌ لطيورٍ ثلاثة، لو همست لها تغني، ولو لمستها تطير"، لقد خص الأم والحبيبة بأكثر من عشرين قصيدة، منهن أربع قصائد سوف تتوقف عندهن طويلًا، إنهن: "أنت في الحتف وهاهي في المسرة"، و"في مديح التي"، و"التي تتدفق كموجة طائشة"، و"في مديح الحلوة".
أما محور الأصدقاء فتجسد في الإهداء وقصيدة ما جدوى الكلمات، وقصيدة يسألني صاحبي، وقصيدة أحزان المغني، وقصيدة نداء، والقصيدة الأروع التي افتتح بها الديوان، والتي جاءت بعنوان بباب بيتك يا حسين، وهي مهداة إلى صديقه حسين سهيل، وقصيدته التي يقول فيها:
"يبوح المغني لدجى المنحنى
يبوح، ويحكي له
إذ نأي أو دنا...
صحابي المرايا
وتلك الوجوه أنا".
ولم يغمض الشاعر عينيه على الشأن العام، ففي الديوان قصائد كثيرة تتماس مع قضايا الناس منها بحارة نحن يا أصدقائي، وثوب عاطل عن العمل، وفي عز الريح وآلامنا التي لا تشيخ، وكائنات الكأس وأغنية للوطن والذي تقاعد منذ عام، ولم ينس أباه فقال: "أبي الذي لا يشبه الطيور، ليس يشبه الريح -ورغم هذا- طار للسماء دونما جناح"! ولم ينس الناس فقال:
"نحن في حزننا كالغصون المضيئة
كالنخلة الواقفة..
قال ظل الشجر
وأضاف المطر:
نحن في عرسنا البهجة الوارفة".
ولم يخل هذا الديوان البديع من القصائد الذاتية، فجاءت قصيدة كلما قلت، والفجر ينصت للموسيقى، وأمتطي المركب وحدي، والضجر الخريفي والفخ، والقصيدة الرائعة كهذيان قطة غير معاصرة التي يستهلها قائلًا:
"سئم أنا..
وجهي صحراء
ولساني صهرة
والفؤاد قيظ!
اثنتا عشرة سنة مضت منذ 2011 خسر فيها الشعر العربي جماليات كثيرة، وبدا أغلبه تقليدياً مباشراً، وبدا الشعراء معظمهم يسطون على تجارب شعرية راسخة، ولم يقم النقد بدوره حيال ذلك، وساهم وجود طلاب المراحل الثانوية في وسائل التواصل الاجتماعي في انتشار شعراء مباشرين خطابيين، نهاشين من تجارب الآخرين ولم يقع في يدي إلا القليل من التجارب الشعرية المميزة التي تبقى خالدة في المكتبة العربية والإنسانية، ومن هذه التجارب المتميزة كان ديوان "مطر كسول على الباب"، ذلك الديوان الذي أكد على أن هناك شعراء متميزين يعكفون على تجربتهم وإبداعهم عقوداً طويلة، يعملون في صمتٍ، لا يخدعهم الضجيج، ولا يثنيهم عن عزمهم أصوات الطبول الفارغة، وحينما يأتي الوقت المناسب يتبوؤن مكانتهم اللائقة، ومن هؤلاء الشعراء الشاعر الكبير عبد المحسن يوسف.
"ويسألني صاحبي حين حلَّ المساء
متى الوزن في النثر يا سيدي يستقيم..
أقول له: يا صديقي الحميم..
إذا مسّت القلبَ
هذا الذي كالكمثرى الأنيقة
شمسُ النساء"