السرد ما بعد الكولونيالي.. نحو إنتاج الفكر الروائي، وتفكيك النسيان الاستعماري

''أول النسيان'' لمحمد المعزوز نموذجاً

إبراهيم الكراوي



«إن الأبطال الكبار هم من يصنعون العالم والحياة» [ص: 26]


انبرت الرواية العربية تسائل حدودها من خلال طرق أسئلة ترتبط بالتاريخ، والهوية وسردية الهامش. ومن ثم، شكل السرد ما بعد الكولونيا لي أفقاً لإعادة تشكيل حدود السرد، ومساءلة العلاقة بين الأنا والآخر، وتغذية المتخيل الروائي. والهدف من هذه القراءة يتمثل في الكشف عن تشكلات الخطاب الروائي على ضوء السرد ما بعد الكولونيا لي؛ مستندين على رواية ''أول النسيان'' للكاتب والأنثروبولوجي محمد المعزوز.

 

1- التمفصل الروائي المزدوج:

يتمفصل الخطاب الروائي إلى نسقين يعيدان تشكيل التاريخ، وتفكيك النسيان سردياً انطلاقاً من مساريين سرديين يتفاعلان؛ بحيث يمكن اعتبار الثاني دالاً لمدلول أي المسار الأول. فيحضر الزمن بوصفه نسقاً رمزياً يتماهى مع الذات الشخصية البطل ابن عبد الكريم الخطابي. "غير أن الزمن لا يدرك كمختلف عن الحركة إلا إذا حددناه؛ أي إذا استطعنا تمييز لحظتين الأولى كسابقة والثانية كلاحقة، وفي هذه النقطة يتقاطع تحليل الزمان مع تحليل الذاكرة"، بتعبير بول ريكور (الذاكرة، التاريخ، النسيان، ص: 52).

هكذا يضعنا محكي الرواية أمام لحظتين رمزيتين: ما قبل نفي ابن عبد الكريم الخطاب وعائلته، وما بعد النفي، يتوحدان في ذاكرة سردية النسيان بوصفه يحيل على السلطة بالمرتبطة بالمستعمر. ولذا، ينبني البرنامج السردي على رغبة الذات العامل بن عبد الكريم في امتلاك موضوع قيمة وهو الحرية وتحرير الأرض من المستعمر الذي تمثل كعامل معاكس يتجسد في فعل ممارسة النسيان الاستعماري، بالإضافة إلى الخونة، بينما تمثل شخصيات امحند وعبد السلام حمزة الورغيالي وزوجته زبيدة عوامل مساعدة تنخرط في مشروع تحرير الأرض ومعانقة الحرية. يتوزع هذا البرنامج إلى حالات وتحولات تجسد المحاولات المستمرة للمستعمر لمحو المقاومة وإطفاء فتيلها، وبين التصدي الناجح لعبد الكريم لكل هذه المحاولات؛ وهي تصديات تكشف الصراع بين المعرفة الثقافية والسياسية والدينية التي تمتلكها شخصية ابن عبد الكريم الخطابي، وخولت له إلحاق الهزيمة تلو الأخرى بالسلطة الاستعمارية التي تجسدها رمزية النسيان.

وقد يلاحظ القارئ غياب علامات التبويب أو الإشارة إلى الفصول وهو ما يتوافق مع سردية النسيان بوصفه إعادة تشكيل للذاكرة. فالسرد ينساب متدفقاً من مناطق بعيدة في الذاكرة، مما يجعل سردية النسيان تؤسس تجسيراً بين الماضي والحاضر، الداخل والخارج، وتمثل صورة تتماهى مع الهامش الذي يناور ويواجه من يتموضع بالقوة داخل المركز.

يتضح انطلاقاً من رمزية النسيان في المتن، اشتغال الخطاب المقدماتي (الإهداء، مقاطع) على ترهين الخطاب وتفكيك خيوطه التي ينسجها التاريخ الاستعماري.

هكذا، تضيء لنا قراءة المتن جانباً من هذا النسيان الأنثروبولوجي الذي حاولت السلطة الاستعمارية -الآخر- ممارسته على الأنا الهامش، مما جعله يتحول إلى فعل للمقاومة كما تبين من خلال الوقائع السردية؛ يدل على ذلك مجموعة من المتتاليات السردية نذكر على سبيل التمثيل:
◅ الصحفية الفرنسية ذات النزعة الاستعمارية تسقط عشيقة للخطابي مما غير من موقفها لصالح المقاومة.
◅ يسلك الخطابي سياسة تعتمد اللباقة والتأدب، بحكم أنه عارف بالتقاليد الفرنسية
◅ يتحول الضابط المكلف بمراقبته إلى صديق متأثراً بنزعته الروحية.
◅ حادثة بيع الذهب المزور لعم عبد الكريم سيترتب عنها انقلاب السحر على الساحر، بعد أن اعترفت بكذب وافتراء ما جاء في الصحف بتحريض من الحاكم.
◅ حادثة المزرعة التي تعكس تشبعه بقيم العدل.
◅ انبهار المستعمر من الارتباط الأسطوري والحب اللامشروط بالأرض والملك.

إن البنية الدالة للنص الروائي تعري الفعل الاستعماري بوصفه ينزع نحو الهيمنة المعرفية الثقافية بتعبير إدوارد سعيد، وكما يتجلى من خلال رمزية النسيان الذي حاولت من خلاله السلطة الاستعمارية طمس هوية ابن عبد الكريم الخطابي بعد نفيه، ورسم الصورة المضادة للشخصية والتي تتلخص في: الخائن، الإرهابي، ناكر الجميل، عدو المسيحية، المتسلط... هذه الصورة المضادة ستحشد المزيد من الأنصار لشخصية بن عبد الكريم الخطابي سواء من المركز أو الهامش.

إن الصدمة الجغرافية بين المركز المستعمر والهامش /المقاومة، خلقت صدمة نفسية موغلة في الألم. فمحاولة المستعمر إبعاد بن عبد الكريم الخطابي عن وطنه، لم يمنع من اشتعال فتيل الثورة التي أرسى مبادئها، في كل من تازة، فاس والرباط وحتى في المنفى؛ مما أحبط جميع محاولات المستعمر في ممارسة مركزية النسيان وسلطته، كما أن ابن عبد الكريم الخطابي ظل محافظاً على نفسه النضالي وهويته الدينية القائمة على التسامح والوفاء، والإخلاص حتى في معاملاته مع المستعمر.

2 - شخصية بن عبد الكريم الخطابي بين سيجموند فرويد ودافيد لوبورطون:

ينطوي التبئير الداخلي على شخصية بن عبد الكريم على فعل يروم تشريح الذاكرة ومساءلة التاريخ، والذي بدأ يتلبس بسلطة النسيان. غير أن النسيان هنا ليس سوى ذاكرة تعيد قراءة وتفكيك العلاقة بين الأنا العربي، والآخر الغربي من زوايا متعددة، كما سبقت الإشارة.

لا يقدم لنا الراوي المطلق المعرفة بن عبد الكريم الخطابي بوصفه شخصية تقع في النسيان، بل تتجاوز فعل الاحتماء من سلطة النسيان الاستعمارية، لكي تحفر في الهوية بوصفها عاملاً مساعداً في تشكل ذاكرة المقاومة، واستمرارية المقاومة، وتجاوز سلطة النسيان:

"ومهما كان أبناؤه يلوذون إلى التطبع بحضارة الجزيرة تأثراً بأقرانهم، كان ينمي فيهم شعور الانتماء إلى الجذور ويجذر في أرواحهم نبض الوطنية ودفق التضحية من أجل البلاد. كان يحدثهم عن والده وحروبه...".

لم يفتأ صغار العائلة يسألونه كما يسألون عمه وأخاه عن سبب ارتدائهم للجلباب والتعميم بعمامة [ص: 288].

إن النسيان سلطة تمارس ألماً داخلياً وخارجياً كما تبين لنا من خلال التبئير الداخلي على الشخصية ابن عبد الكريم، وهو يهم بمغادرة الوطن إلى منفاه الذي فرضه عليه المستعمر الفرنسي على ضوء اتفاقية وجدة التي تم بموجبها الاتفاق على ألا تسلم فرنسا ابن عبد الكريم لإسبانيا، مقابل الالتزام ببعض البنود التي حاول الخطابي الوفاء بها في حدود ما يسمح به إخلاصه لوطنه، ودون خروج عن الملة والهوية. ولعل التبئير الداخلي يكشف تعرية الشخصية وتشريح سيكولوجياتها، وما تنطوي عليه من أبعاد ثقافية وروحية:

"صرخ محمد الورغيالي طالباً احضار شوك القنفد وأجنحة الوطواط لإحراقهما وتشميمهما له باعتبارها دواء مجرباً له، كما تداولته عادة الورغاليين" [ص: 19].

هكذا يكشف لنا نمو الأحداث تشكلات الخطاب من خلال التوغل في الشخصية الرحم النصي، ونسق الفكر الروائي المنتج الرؤية للعالم والتي يحملها عبد الكريم، وترتبط بقيم العدالة بالقيم الإنسانية والاجتماعية.

3 - من سرد التاريخ إلى سردية الفكر الروائي: من المحاكاة إلى التمثيل

إن أول سؤال تطرحه قضية السردية ما بعد الكولونيالية، يرتبط بعلاقة الرواية بالتاريخ. فأين تنتهي حدود التاريخي، ومتى تبدأ سردية تخييل الرواية؟ في هذا السياق، يقترح بول ريكور مصطلح التخييل التاريخي ريكور؛ وحاولنا إدخال بعض التعديلات على أبعاده المنهجية انطلاقاً من إدماج المضمر الثقافي في التخييل التاريخي، بوصفه يحيل على أنساق منتجة للفكر الروائي.

وبذلك، فالسؤال المركزي الذي أوحت لنا به قراءة رواية ''أول النسيان''، هو كيف تتشكل روائية الرواية على ضوء السرد ما بعد الكولونيالي؟ لقد افترضنا أن المضمر الثقافي واسطة العقد بين التاريخي والروائي، فهو يساهم في نسج تشكلات الخطاب ويجسد التخييل، كاشفاً البنية العميقة التي ينطوي عليها الفكر الروائي.

استنتاج وتركيب:

إن شخصية ابن عبد الكريم الرحم النصي، ترسم صورة مضادة للرؤية الاستشراقية التي تنطوي عليها سياسة المستعمر؛ إذْ تتحول إلى نسق رمزي ينتج رؤية تجسد المعرفة والحضارة والهوية والذاكرة والارتباط بالأرض. وقد أفرز هذا الصراع بين المعرفة التي يمتلكها ابن عبد الكريم الخطابي "نفسية تتمثل في سيكولوجية المقاومة، دينية تحول إلى مستشار في شؤون الشريعة، سياسية التدبير العقلاني لعلاقته بالمستعمر، أنثروبولوجية إحاطته بتقاليد وثقافة الدولة المضيفة، اجتماعية: نسج علاقات اجتماعية..."، والسلطة الاستعمارية، ما أطلقنا عليه سردية الهامش التي تشتغل على ترهين خطاب الهيمنة الاستعمارية بوصفه ينطوي على أنساق مضمرة ثقافية، معرفية ودينية. وبذلك تنقلب معادلة المركز/ الهامش كما يظهر من خلال البعد الحجاجي داخل الخطاب الروائي.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها