لماذا نُحبّ الحكايات؟

هشام بن الشاوي


تعتبر الحكاية الشعبية بجميع تسمياتها من أعرق ألوان التعبير الأدبي الشعبي التي أنتجها الإنسان وضمنها عن وعي أو غير وعي تجاربه ومواقفه. وقد عرف الباحثون الحكاية الشعبية بأنها بقايا المعتقدات الشعبية وتأملات الإنسان الحسية وطريقة في النظرة إلى الحياة، حينما كان الإنسان يحلم؛ لأنه لم يعرف، وحينما كان يتصور؛ لأنه لم يكن يرى حقائق الأشياء، وحينما كان يؤثر في من حوله بروح ساذجة، كما اعتقد البعض أن الحكاية الشعبية هي شكل من أشكال التعبير عن الروح الإنسانية بمستويات مختلفة، والحكاية لغة: "ما يحكى ويقص، وحَكَى الشيء حِكاية: أتى بمثله، وهذا مرتبط بالمحاكاة؛ أي: محاكاة حال واقعة بحال متخيلة"، بينما يرتبط مفهوم الشعب بالإنسان في سياق الفضاء الذي تشكلت فيه صلاته به، وفي نطاق الزمان الذي راكم فيه تجاربه وصيرورته وتاريخه.


إن سارد الحكاية الشعبية حسب أحمد زياد محبك "يحفظها مشافهة عن راوية آخر، ولكنه يؤديها بلغته، غير مقيد بألفاظ الحكاية، وإن كان يتقيد بشخصياتها وحوادثها، ومجمل بنائها العام". ويرى محبك أن الكثير من الحكايات الشعبية متشابهة؛ بل متماثلة، في أجزاء من أقطار الوطن العربي، وليس فيها إلا اختلاف في جزئيات ثانوية؛ نتيجة لتقادم الزمان، وتعدد الرواة، وهو ما طرأ على الحكاية الواحدة، في المكان الواحد.

ومثل ذلك التشابه لا يرجع إلى تشابه الحكايات الشعبية في مواضع مختلفة من العالم فحسب، بل يرجع إلى وحدة الحكاية الشعبية في الوطن العربي، وهي وحدة يمكن تلمسها في عدد غير قليل من الحكايات الشعبية المتشابهة، على الرغم من قلة ما جمع من حكايات شعبية في الوطن العربي، وحيث يتم جمع عدد أكبر من تلك الحكايات، يمكن عندئذ تأكيد تلك الوحدة، وتوثيقها، وإبراز سماتها العامة.

وهذا التشابه بين الحكايات -بالرغم من تباين المسافات الزمانية والجغرافية- يرجعه البعض إلى تشابه الظروف البيئية والمشاكل التي يواجهها الناس في مختلف البلاد، ويجدون لها الحلول نفسها، فيفسرون بذلك تكرار التفاصيل ذاتها والمواضيع في العالم كله، ووجود الحكاية بعينها في بلاد مختلفة في آن واحد. وهذا الاختلاف والتشابه -في آن واحد- في رواية حكاية واحدة في المكان نفسه، أو في مكانين مختلفين، يُعطي للحكاية الشعبية ديمومة الاستمرار والتجدد، والسؤال والتأويل من منطلق ما تمثله في الخبرة والتجربة الإنسانية على نحو خاص.

وإذا ما تعرضنا لتراث الحكايات العربية، فمن المرجح أن تكون "ألف ليلة وليلة" نقطة بدء طبيعية. ذلك أن الليالي تعد مخزناً لا ينضب معينه لأي دارس في حقل الحكايات الخرافية والفلكلور، ويشير شوقي عبد الحكيم إلى أن "ألف ليلة وليلة" ذاتها ماهي سوى محصلة نهائية للحكايات العربية في الجزيرة العربية ودلتا مصر والشام والرافدين، بالإضافة إلى أن معظم المستشرقين الذين تعرضوا بالنقل والترجمة لألف ليلة وغيرها، قد استعانوا برواة الحكايات العربية ذاتهم وحفظة نصوصها، حتى جالان نفسه الذي كان يجمع حكاياته من راوٍ سوري ماروني يدعى حنا الماروني، وضمنها المخطوط المفتقد من نص الليالي، الذي اعتمد عليه ويرجع تدوينه على القرن الرابع عشر.

ويمكن القول بأن "ألف ليلة وليلة" لا يعتبر عملاً أو مؤلفاً عربياً خالصاً، بقدر ما هو مزيج بين التراثين الآري والسامي، فهو محصلة نهائية للتزاوج بين هذين التراثين، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار أن التراث الآري يشتمل لغوياً على كلتا المنطقتين: الهندية والفارسية، ناهيك عن مدى التداخل بين التراثين العربي الإسلامي والفارسي.

إن الراوي الشعبي حين نسترجعه، ونضعه في موقعه وسط الحلقة نجده متكلماً وفاعلاً في آن واحد: فهو يستعين بمختلف العلامات اللفظية والحركية لتجسيد حكايته العجيبة، ولتحقيق أكبر الأثر في إدماج الجمهور واشتراكه في "تلقي" الحكاية، واستمراره في ذلك: فالتنوع الصوتي، وتغيير الحركات، والذهاب والإياب، وتوقيف السرد... كل ذلك يدخل في نطاق الاستراتيجية النصية المشتركة. الاستراتيجية التي لا تقتصر على النص فقط، ولكن على طريقة حكيه وإرساله من قبل الراوي أيضاً. إن صورة "الراوي" {الذي كان في الماضي}، ما زالت "صامدة" إلى الآن، ويمكن قول الشيء نفسه عن "المتلقي": فرغم كون الحكاية العجيبة منتهية من حيث إنتاجها في الماض؛ فإنها ما تزال "تروى" وربما بنفس الشكل الذي كانت تروى به في عهود منصرمة، وحتى مجالسها تظل محافظة على طابعها. يتغير الزمان والمكان، ويبقى الحكي العجيب.

تنعت الحكايات في "ألف ليلة وليلة" بكونها عجيبة وغريبة. هذا النعت يبرر السرد، لأنه إذا لم تكن الحكاية عجيبة وغريبة فإنها لا تستحق أن تروى. وعلى ما يبدو فإن الغرابة تستلزم المسافة الزمنية "كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان"، والمسافة المكانية "البطل الذي ينتقل إلى أرض بعيدة، كالصين مثلاً، أو إلى أرض غير مضبوطة على الخريطة". الحكاية الناجحة هي التي تروى من جديد، فيتحول من يصغي إليها إلى راو وهكذا.

وتتضمن الرواية الشفهية في بنيتها إمكان التعديل والتبديل، إذ يصعب على الذاكرة الاحتفاظ بحرفية النص ولا سيما إذا كان نصاً طويلاً كالحكاية، وتساعد الرواية الشفهية الأدب الشعبي على امتلاك هذه المرونة التي تتيح له التطور والتلاؤم مع طبيعة كل عنصر، فهي تحفظ الإطار العام والوظائف الأساسية في الأثر الشعبي، كما تتيح للراوي أن يضيف ما يتلاءم مع جمهوره. هكذا إذن يكون راوي الحكايات مبدعاً لها وللحظة الحكي بأسلوبه الذي يميزه عن أي راو سابق عليه أو لاحق له، وعليه يمكن القول إن إبداع الحكاية هو روايتها وليس خلقها الذي يغوص في سراديب الزمن.

يعرف د. سعيد يقطين السرد بأنه: نقل الفعل القابل للحكي من الغياب إلى الحضور، وجعله قابلاً للتداول، سواء كان هذا الفعل واقعياً أو تخييلياً، وسواء تم التداول شفاها أو كتابة، السرد فعل زماني. فهو يتحقق في الزمان، لأنه يتحرك في مجراه وبواسطته لأنه يتقدم متصلاً به. الوصف فعل مكاني. إنه توقيف لزمان السرد لمعانقة ثبات المكان. إن السرد والوصف صيغتان من صيغ الخطاب السردي، وبينهما تفاعل وجدل: فهما يتناوبان في مجرى الحكي... والراوي يرصد تطور الزمن بوساطة السرد، ويضعه في مكانه الذي يجري فيه بتحوله إلى الوصف.

ويمكن القول إن المرويات السردية الشفاهية، تجعل "مسافة" واضحة، بين مكونات البنية السردية، فالراوي، غالباً ما يكون متعيناً، سواء بسماته، أم بالمسافة التي تفصله، زمانياً، عما يروي، بحيث يروي أحداثاً لا تعاصره وقد لا ترتبط به إلا كونه راوياً لها فحسب، كما أن المروي له، يتعدد تبعاً لتعدد الرواة، ويتكاثر كلما تكاثر عددهم، والأمر نفسه ينطبق على المروي، الذي يكون مباحاً أمام عدد غير معروف من الرواة، يتكاثرون بتوالي الأزمان، مما يجعلهم يروون مروياً لا ينتمي إليهم ولا إلى عصرهم. السرد الكتابي عند الخاصة يُعدُّ وسيلة لا غاية، ومن هنا تتجلى قيمته الفكرية، بينما السرد الشفاهي عند العامة غاية لا وسيلة، ومن هنا تتجلى قيمته الجمالية، كما أن السرد الشفاهي يواجه المسكوت عنه على نحو مكشوف لا يحتاج فيه إلى رمز أو تأويل.

 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها