حتى مطلع الحلم

هاني قدري

لم يستطع أن يطبق جفنيه طوال الليل، كان غريبًا على طفلٍ لم يتخط عمره السادسة إلا منذ شهرين فقط أن يعاني من الأرق، ظل طوال الليل يتقلب في فراشه يمينًا ويسارًا تطارد الأسئلة عقله الصغير، ماذا سيحدث غدًا؟ ما شكل المدرسة؟ في أي المقاعد سأجلس؟ هل سأبكي شوقًا لأمي؟ وماذا ستفعل لحين عودتي من المدرسة؟

أنهكه التفكير إلى أن عرف النوم الطريق إلى عينيه الصغيرتين، نام واستيقظ على صوت أمه تبتسم في وجهه وتقول: "قلب أمه كبر وصار تلميذًا"، ثم طبعت قبلة كبيرة فوق جبينه النقي، ارتدى (مريلته) المكوية بعناية شديدة وصفف شعره الناعم، وأصر أن تضع له أمه من زجاجة عطرها النفاذ رافضًا كل وسائل إقناعه أنه رجل وزجاجة العطر هذه مخصصة للنساء، حمل حقيبته الفارغة إلا من مجموعة من الكراسات المجلدة بألوان زاهية تشبه لون قلبه الحالم وأمنياته.

خرج من غرفته بصحبة أمه ليجد أباه جالسًا في انتظاره بمصروف أول يوم مدرسة، تلقف النقود من أبيه مُتعجبًا فكانت هذه هي المرة الأولى التي يأخذ مصروفه نقودًا ورقية لا معدنية، طلب من أبيه أن يبدلها بنقود معدية كي يكون لها صوت في جيبه تؤنسه طوال حصصه الأولى حتى موعد الفسحة، ضحك الأب وأعطاه ما أراد، وضع النقود في جيبه الصغير، ثم قبض بيده اليمنى على يد أبيه وباليسرى على يد أمه.

نزلا به والداه على درجات المنزل الهوينى كأنه ملك مُتوج أو عريس يُزف إلى عروسه التي تنتظره في الأسفل، ولم تكن عروسه سوى أتوبيس المدرسة المعبأ بأحلام وردية تقلب أصحابها مثله على فراشهم يمينًا ويسارًا منتظرين اليوم.

كانت سعادته حين رأى الأتوبيس أمامه تقود قدمه خطوة للأمام، بينما خوفه على فراق أمه وأبيه كان يجعله يُدير رأسه للخلف، لكن سرعان ما كان يغادر الخوف قلبه حين يستنشق رائحة عطر أمه في ثيابه، ويسمع صوت نقود أبيه المعدنية داخل جيبه مع كل خطوة يخطوها.

ركب الأتوبيس، تحرك به، لأول مرة يرى قضبان القطار، تمنى لحظتها أن يبتسم له الحظ ويرى القطار يمر أمامه على تلك القضبان الممتدة بطول أحلامه، فمؤكد سيكون هذا القطار أطول بكثير من ذلك القطار الصغير الذي أهداه له والده في عيد ميلاده، وبالطبع سيكون أطول من ذلك القطار البشري الذي يصنعه هو وكل أقرانه في الشارع، حين يمسك كل منهم بثياب صديقه من الخلف وهم يطوفون الشوارع ذهابًا وإيابًا مُرددين "توت.. توت".

اقترب الأتوبيس أكثر من القضبان وبدأ يسمع صوتاً يأتي من بعيد، صحيح أن هذا الصوت لم يكن يقول: "توت.. توت" لكنه أدرك أنه صوت القطار، أخرج رأسه من شباك الأتوبيس فشاهد القطار يأتي من بعيد، ابتسم، وكلما اقترب القطار زادت ابتسامته، لم ينتبه لصراخ كل من حوله الذين أخذوا ينبهون السائق، كان يشعر أن القطار يريد احتضانهم كما يفعل قطار أقرانه في الشارع المقابل حين يلتقي بقطارهم، ففتح له ذراعيه، لم يكن يدري أنه عناق من نوع مختلف، رائحة خوف من حوله أضاعت رائحة عطر أمه، ورغم قوة سقوطه من مقعده حين اصطدم القطار بالأتوبيس إلا أنه لم يسمع صوت نقود أبيه المعدنية، فكان صوت القطار أقوى وصرخات المارة أقوى بكثير.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها