المومياء.. أو ليلة أن تحصي السنين.. هذا الفيلم الأيقونة في تاريخ السينما المصرية.. رائعة شادي عبد السلام.. لم يكن فيلماً يتناول واقعة تاريخية حقيقية لها أهميتها في تاريخنا المصري وهو اكتشاف خبيئة مومياوات الدير البحري عام 1881 في البر الغربي بالأقصر.. وبالتالي إعادة اكتشاف التاريخ.. واكتشاف الذات.. بل هو فيلم مُتعدد الأبعاد.. كانت هذه الواقعة باباً للدخول أو الانفتاح على معانٍ ودلالات أكبر وأوسع وأشمل وهي كشف واكتشاف الحقيقة. فلم تكن الحقيقة التي تم كشفها واكتشافها هي هذه "الخبيئة" فقط.. بل الحقيقة بمعناها الواسع والأشمل.. حقيقة حياتنا وواقعنا في تلك الفترة.. فترة إنتاج الفيلم.. الستينيات من القرن العشرين.. فقد بدأ شادي كتابة الفيلم في صورته الأولى قبل عام 1967 وأتمه عام 1968، وهي فترة هامة وخطيرة في تاريخنا الحديث.

كان شادي أحد الذين صدمهم ما جرى في يونيو 67، حيث تم اكتشاف حقيقة وضعنا وحالنا وسقطت الهالة الكبيرة التي كانت تعمي البصر والبصيرة عن حقيقة ما كنا عليه.. التي كشفت كل التناقضات بين الواقع والحقيقة التي تم إدراكها. لقد اهتزت الثوابت.. وسقط العديد من الأقنعة بعد هذه النكسة.. يقول شادي: "لقد كتبت الفيلم قبل 5 يونيو 1967، وصورته في 22 مارس 1968، وكان لهذا اليوم تأثير كبير سواء كان واضحاً في الفيلم أم لا.. لقد خجلت يومها من النظر في المرآة". كانت النكسة حاضرة وبقوة في وعي ولا وعي شادي وهو يُصور ويُنفذ فيلمه.. رغم أنه لم يُلمح أو يُشير لذلك من قريب أو بعيد بأي لفظ أو إشارة.. ولكني أعتقد أن ظلال النكسة وانعكاساتها كانت بصماتها واضحة في ثنايا هذا الفيلم.. وتُقرأ بين سطوره.. ودلالاتها واضحة لمن يقرأ الفيلم بعيون زمنه.. وعيون صاحبه الذي لا أشك لحظة في أنه كان هو "ونيس" وليس أحداً غيره. نعم كان شادي هو "ونيس" الذي اكتشف الحقيقة ووقف ليواجه نفسه ويختار الانحياز للحق والحقيقة. نعم كانت أحداث النكسة في وعيه وكيف لا وقد عاشها.. كان انكشاف الحقيقة ماثلاً أمامه فتجسد في انكشاف حقيقة الأب "زعيم القبيلة"، وحقيقة حياة هذه القبيلة التي تعيش على التجارة بتاريخ أرضها دون أن تعي قيمته.
الفيلم مليء بالرموز والإيحاءات والدلالات.. والمعاني.. التي تتداخل وتتشابك في تضافر فني جعل من الفيلم تحفة فنية وفكرية، بحيث يمكن قراءته بأكثر من معنى.. لقد أفرغ شادي ما في داخله على الأوراق وأثناء تنفيذ العمل.. أحال ما في نفسه إلى كلماتٍ ومرئيات.. تبلورت في عقله، وتكونت على شاشة خياله قبل أن تتجسد على الشاشة البيضاء عملاً يُنسب ويُحسبُ له.. ويبقى به علامةً لا تُنسى!
إن ليلة أن تُحصى السنين.. لم تكن فقط هي ليلة استعادة الماضي.. وخروجه وعودته للحياة مرة أخرى من غيابات الكهوف والمقابر، بل كانت ليلة اكتشاف الحقيقة.. أو ليلة الصدمة. ولم تكن حيرة "ونيس" أمام هذه التناقضات إلاَّ حيرة جيل بل ربما أجيال عاشت وربما أسهمت في صنع هذه التناقضات بشكل أو بآخر.. وما كان اعتراف "ونيس" للأفندية أو رجال الآثار إلاَّ تطهراً أو خلاصاً من عبئ هذه الحقيقة المخفية، أو الخافية عن الانظار أو الوعي، هذه الحقيقة التي زلزلت كيانه وأوقعته في معاناة شديدة لم يحسمها إلاَّ الاعتراف والكشف.
إن لحظة اكتشاف سر الخبيئة كانت لحظة فارقة في حياة "ونيس" لحظة لم يتوقعها.. لحظة مُفاجئة.. مُباغتة.. زلزلت كيانه وقلبت حياته رأساً على عقب.. لذا كان يُعاتب أخاه الأكبر قائلاً: "أطلعتني على مصير مُظلم.. صحراء.. عليّ أن أسيرها وحدي خائفاً من المشاعر والذكرى".

لم يكن انتقاد شادي لواقعنا في تلك الفترة من خلال تناوله لحادثة تاريخية.. ولجوئه للتاريخ.. هرباً من مواجهة الواقع.. بل كان هجوماً على هذا الواقع ومواجهته ولكن من خلال الفن.. والفن الحقيقي لا يعرف المباشرة.. لذا جاء نقد الواقع من خلال التاريخ وكأنه يقول ما أشبه الليلة بالبارحة.. حيث إن كشف الحقيقة.. كشف حجم الزيف والوهم الذي كنا نعيش فيه.. وما كان موت الأب "زعيم القبيلة" إلا نقطة الانطلاق أو البداية لكشف واكتشاف هذه الحقيقة.. لذا يقف ونيس أمام قبر أبيه ويقول: "ما هذا السر الذي جعلني أخشى النظر إليك يا أبي". إنه سؤال الصدمة.. أو سؤال الصدمة الذي تساءله المصريون بعد النكسة.. هذا السؤال وهذه الكلمات البسيطة التي رددها ونيس أمام قبر أبيه الذي قُبر منذ ساعات.. هي تعبير عن عذابه وحيرته وصدمته في أبيه.. سؤال طرحه على نفسه قبل أن يطرحه على أبيه.. سؤال كاشف.. يكشف حجم معاناته مما وجد نفسه عليه.. حائر بين حبه لأبيه ورفضه لسلوكه وطريقة عيشه بل وتفكيره.. سؤال كاشف لكثير من أخطاء آباء معلقة على شماعة الأبناء والعيش واستمرار الحياة.. فالخطأ خطأ ولا مبرر له غير أن المخطئ يجد لنفسه عشرات بل مئات المبررات التي يعلم قبل غيره كذبها وخطأها، ولكنه يتعامى عنها ويتستر وراء الظروف.. لقد اكتشف ونيس مع أخيه حجم المأساة التي كانا يعيشان فيها، وحجم الوهم الذي كان يغلف حياة الأب.. القدوة.. الزعيم.. لقد انهارت القدوة بانكشاف الحقيقة.. تماماً كما حدث بعد اكتشاف حقيقة أوضاعنا بعد النكسة.

إن لجوء شادي للتاريخ ولهذه الواقعة على وجه التحديد في هذه الفترة العصيبة من تاريخ مصر.. كان رغبة في استعادة الهُوية.. ففي حالة المصارحة والمكاشفة التي عاشتها مصر.. كان يجب البحث عن الذات أو استعادة الذات لمواجهة الحاضر على أرض صلبة ورصيد حضاري كبير وممتد في أعماق التاريخ، وللتذكير بأن التاريخ مراحل ولا يقف عند حدث أو موقف.. من خلال هذا البعد التاريخي للفيلم.. أطل شادي على الواقع.. من خلال هذه الواقعة التاريخية "اكتشاف خبيئة المومياوات".. مُنبهاً على أهمية استعادة الهوية.. من خلال استعادة وإعادة قراءة التاريخ.