محبوس في غرفة مظلمة، يعمل فيها ليل نهار، فإذا ما توقّف توقًفنا، إذا فرحنا يفرح معنا، وإذا حزنا يحزن لألمنا ويعاني حسرتنا، خدومٌ هو قد يصلحنا، ولكنه إذا ساء قد يفسدنا، يهديه المحب لحبيبه وهو في مكانه لا يتحرك، موجود مع كل إنسان، وقد يصفونه بأنه غير موجود، تارة يصفونه بالقاسي عند شخصٍ ما، وتارة يصفونه بالطيب عند شخصٍ آخر، رغم أن تركيبه المادي واحد لكليهما. لا يراه الإنسان، ولكنه يضع عليه كل ما جرى من مصائب الزمان وأفراحه، إنه ذلك النابض الحي في قفصه المكنون إنه.. القلب!
فهذا القلب الذي نعرف جلنا أن وظيفته هو ضخ الدماء خلال مسارات أجسادنا من شرايين وأوردة لتوصل لأعضاء أجسادنا الغداء والأكسجين، هذا القلب له تعريف آخر نفهمه من الحديث الشريف عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب". فحافظوا على نقاء قلوبكم من غبش الأوباش الذين يجرونكم إلى قيعانهم المظلمة، ولا يكون هذا إلا بالتضرع إلى الله، واللجوء إليه، وكذا بالعلم الذي هو نور يهدي به الله عز وجل من يشاء من عباده الصالحين، والذي يدفع عنا الأذى، ولا ننسى استخدام استراتيجيات عقولنا لخدمة قلوبنا المرتاحة، في رحلتها في أنهار صفائها ونقائها، فالذنوب هي عصيان ينفذه العقل بجوارح الجسد لخدمة قلب مريض امتلأ بسواد الذنوب، وقد فسر في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن زاد زيد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرّان الذي ذكره الله (كَلّا، بَل رانَ عَلى قُلُوبِهِم ما كانُوا يَكسِبُونَ)".
وقال عبد الله بن مسعود كلما أذنب نكتت في قلبه نكتة سوداء، حتى يسود القلب كله. وندرك من هذا أنّ القلب يصبح أعمى لا يحق حقاً، ولا يبطل باطلاً، فهو لا يرى الحق حقاً فيحقه، ولا يرى الباطل باطلاً فينكره، ويمضي المذنب بقلبه المريض الذي أكسبه مكاسب آنية موقتة، ولا يدري بأنه أعمى القلب والبصيرة. وهذا مذكور في الآية الكريمة من قوله تعالى: (قُل هَل نُنَبِئُكُم بالأَخسَرِينَ أعمالاً(102) الذين ضَلَّ سَعيُهُم في الحَيَاةِ الدُّنيَا وَهُم يَحسَبُونَ أَنَّهُم يُحسِنُونَ صُنعاً).
الرضا عنوان سعادة القلب:
الرضا هو أول طرق السعادة، ويكون الرضا بقبول الأشياء التي تعترضنا برحابة صدر وسلامة قلب وصفاء عقل، ومن ثَمّ يأتي العمل على التغيير، وذلك بالأخذ بالأسباب التي هيأها الله لنا مع عدم وجود التذمر والسخط، ونحن نرضى بما كتب الله لنا؛ لأن ذلك سبيل السلامة الموصل للسعادة، وقبل ذلك يكون هذا سبيل ليرضى عنا ربنا العالم بما يعترينا وما يداهمنا، ويأتي في مسار القبول بالشيء الذي حارت الأفهام عن إدراكه، وتعبت الجوارح في متابعة تحولاته.. الأمر الذي يتطلب التعايش والتكيف، ويحتاج إلى دربة وتعوّد، واستخدام طرق مختلفة للتماهي مع الظروف المحيطة التي تداهم الكائن الحي ويتعرض لها في فترات حياته المختلفة، ونعرف من خلال ذلك بأن السعادة قرار قبل أن تكون قدراً، وقرار السعادة هو ما يجعلنا نقبل الحياة كما هي، ونتعايش معها، ونخرج من أزماتنا بالعلم والحكمة والاستعانة بالله عز وجل.
نتعلم من الماضي، ونعيش الحاضر بتفاصيله الجميلة، ونعرض عن ما يكدر صفونا، فإذا ما تورطنا لقلة علمنا، أو بسبب كيدٍ صار علينا، وظننا أنا فقدنا الحكمة التي كنا عليها، فلا بد لنا حينها أن نتحيّن الوقت المناسب في مكانه المناسب، فالعبرة كما يقولون في النهايات المفاجئة غير المتوقعة بيسر وسهولة، ولقد عرفت -بشكل ما- أن الجميع يشتكي ويتألم في صمت، بعيداً عن السبب المشتكى منه. إما لخوف أو جهل أو قلة حيلة أو ضيق ذات اليد أو أسباب أخرى، وقد يكون الحل بالابتعاد أحياناً، والتجنب تارة أخرى، وادعاء الغباء في مرات كثيرة، وفي وقته المناسب وكنوعٍ من الذكاء؛ فإن إعلان الذكي عن ذكائه في بعض الأحيان يعتبر نوعاً من الغباء، فليس الغبي بسيد في قومه ولكن سيد قومه هو المتغابي.
والرضا نعمة كبير تفوق الصبر، فهو صبر وزيادة، فمن كان صابراً راضياً بقضاء الله يرى الخير في كل ما يأتيه، فهو يعلم حسن اختيار الله له ولطفه وإحسانه.
إذنْ؛ السعادة في الرضا، لأن مَن رضيّ بما قسم الله له عرف أن ما أصابه هو الخير بعينه، وأن المنع يكون خير العطاء، فهو بين شكر على نعمة، وصبر على ابتلاء، بقلبه المطمئن الراضي يتقلَّب في راحة السعادة القلبية التي لا يعرفها إلا من ذاق حلاوة العيش فيها.
بقلب مطمئن نمضي:
القلب المطمئن مصدر للطاقة الإيجابية، فهو جنة في صدر من يحمله، وهو قلبٌ فطنٌ لمعرفة الحكمة وسبر أغوارها الخفية، وقد تقودك الأيام والظروف للتعامل مع أشخاص متعسين، وفائدة أن تضطرك الظروف أن تتعامل مع الشخص المتعس، وطرق تجنب طاقته السلبية يدخلك في عالم آخر له آفاق مفيدة؛ لأن هؤلاء السلبيين يتكاثرون من حولنا، فكان لا بد من طرق سليمة لكي نتعافى منهم، فكيفية التعامل مع المتعسين السلبيين المؤذيين الذين ينتشرون حولنا أحياناً في بيئة ما، متسمة في كثير من الأحيان بالغرور والتعالي والأنانية والتفاهة وقلة الوعي، هذا التعامل له فائدة جلية، فهو ربح آخر لم أدركه إلا مؤخراً.. ففي البداية ظننت أنني أكسب علماً فقط، ولكني عرفت بعدها أني أكسب بذلك علماً وأجراً، فزادت سعادتي وابتسمت روحي، وتنفست فجراً جديداً في حياتي، بل إن ثوب الصبر الذي لبسته في أيامي أكسبني فطنة، وجعل تجاربي تزداد وعياً في هذا المجال.. فتعرّفي على طرق التعامل مع الشخص المؤذي أكسبني فخراً آخر لم أظنه في نفسي، رغم أني لا أنكر أني عانيت في البداية لقلة إدراكي لصدمة الواقع التي وضعني في هذا الفخ، وقلة الوعي بكيفية النجاة منه، وهرعت أبحث عن أشخاص آخرين أعيش معهم السعادة في وقتي القصير في الدنيا، وهو شيء رائع خاصة أني عرفت خلال رحلتي ووحدتي أن ما أشعر به في قلبي قبل أن يدار تالياً في عقلي هو من يقودني في رحلتي، فالشخص الصادق القريب من باب الدعاء، والذي يلجأ إلى الله في كل حين يجد أن له شعوراً آخر في قلبه النقي، وبعدها يأتي دور العقل الذي يتغذى بالعلم لينفذ رغبات القلب الصادق والأمين مع نفسه ومع الآخر، فنحن نمضي مع قلوبنا المطمئنة مهما تكالبت الصعاب، ولو فتحنا باب معجزات قلوبنا لفتحنا باباً واسعاً.
فإن لتلك القلوب المكنونة معجزات تعطي سعادة داخلية تترجمها الروح المطمئنة في حركاتها وسكناتها، ولا يعرفها إلا ذو حظ عظيم، فمن أُنير قلبه بأنوار الهداية والرشاد، يكون سعيداً بقلبه، عارفاً بحقائق الأشياء كما هي، سعيداً واثقاً مطمئناً.
ولقد كان لكلمات ابن تيمية وهو في السجن وقعاً له أثر بارز لراحة تلك القلوب، ففي مقولته المشهورة التي ترجمت بوضوح تلك السعادة الداخلية في كل قلب مطمئن، وأصبحت فيما بعد تميمة سحرية لا يعرف سرها إلا من ذاق حلاوة ذلك الشعور الروحي السامي، فمهما كان ذلك العليل قد مر به ما يصاب به العابر من أمراض جسدية أو روحية أو نفسية، فإن دوّي تلك الكلمات يصدح متعالياً مشرقاً بأنواره المشعة من غياهب السجن المظلم لتخترق المكان، وتسير عبر الزمان، وتشرق عبر التاريخ بقولته الشهيرة: "ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسوني فحبسي خلوة، وإن أخرجوني فخروجي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة في سبيل الله، إن في صدري كتاب الله وسنة رسوله".
القلب السليم ورحلته مع الحق:
تتجلى تلك الرحلة في بحث سيدنا إبراهيم عليه السلام عن إله يعبده، وعدم اقتناعه بعبادة قومه للأصنام، حيث جاء إبراهيم عليه السلام ربه بقلب سليم برئ من كل اعتقادٍ باطل، وخلق ذميم، حين قال لأبيه وقومه منكراً عليهم ما الذي تعبدونه من دون الله؟ أتريدون آلهة مختلقة تعبدونها، وتتركون عبادة الله المستحق للعبادة وحده؟ فما ظنكم برب العالمين إذا أشركتم به وعبدتم معه غيره؟ فلما أظلم الليل رأى كوكباً، قال هذا ربي، فلما غاب الكوكب قال: لا أحب الآلهة التي تغيب، ثم رأى القمر طالعاً فقال هذا ربي، فلما غاب قال: لئن لم يوفقني ربي للهداية لأكونن من القوم الضالين، فلما رأى الشمس بازغةً قال: هذا ربي هذا أكبر من الكوكب والقمر، فلما غابت، قال: إني بريء مما تشركون من عبادة الأوثان، والنجوم، والأصنام، وقام إبراهيم عليه السلام لربه وقال: إني توجهت بوجهي لله عز وجل وحده، فهو الذي خلق السماوات الأرض، وما أنا من المشركين.
ولذا جاء إبراهيم عليه السلام ربه بقلب سليم، نعرف ذلك القلب السليم في تحريه للحق والتزامه والرجوع إليه دائماً، ولذا نحن نطلب الهداية من الله عز وجل، وهذا هو النهج الصحيح الذي نسير به في دروب حياتنا اليومية، ونستخدم حواسنا في ذلك بعيداً عن الظنون والتخرصات، فما أجمل الحياة في وسط الاغتراف من بحور العلوم الشاسعة، حيث نجد فيها العالم الحق أقرب وأكثر خشية من الله، وليس العالم المتعالم؛ إنما العالم بحق الذي نزل فيه قوله تعالى: (إنَّمَا يَخشى اللهَ من عبادهِ العلماءُ)؛ لأنهم عرفوا الله من خلال رسالته في كونه وخلقه، فعرفوه حق معرفته بخوفهم وخشيتهم منه سبحانه، فليس عابد كعالم، ولا تحصل العبودية إلا بتقوى الله في السر، ومحله القلب، والعلن ومحله الجوارح، فيتصالح الظاهر والباطن، ثم بعد معرفتنا للحق واتباعه، ومعرفة نعمة الله علينا وجب علينا الحمد له سبحانه، وذلك من أفضل أنواع النعمة على الإنسان، حيث يلهمه الله شكر نعمته عليه، فإن شَكر نعمة الله عليه فقد قيدها، فالحمد قيد للنعمة، والنكران للنعم جرس إنذار بزوالها، فقيدوا النعم التي أولاكم إياها الله، بشكرها فإن كلمة الحمد لله هي خير كثير، فالحمد لله الذي وفقنا للعمل الصالح، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لسلوك هذا الطريق، ووفقنا للثبات عليه.
✲✲✲
قول على قول:
في نصه الباذخ بعنوان "كيمياء السعادة" وقف الإمام محمد بن محمد بن حامد الغزالي أمام النفس البشرية، ملاحظاً التناقض السافر بين البُعدين الرحماني والشيطاني، وكيف أن الإنسان قد يميل إلى (المُنجيات) النابعة من صفاء سريرة واستقامة سلوك.. وكيف يمكن -أيضاً- أن يقع فريسة (المُهلكات) الناجمة عن غرائزه البهيمية، وانشطاراته النفسية الداخلية.
وبهذه المعنى؛ تداعى كثيرون من أمثاله، منهم على سبيل المثال لا الحصر فريد الدين العطار صاحب كتاب "منطق الطير"، وأبو حيان التوحيدي صاحب كتاب "الإشارات الإلهية"، وآخرون كثيرون.