اقتصاديات الأدب الرقمي

عبد السلام فاروق

الأدب الرقمي موجود في الغرب منذ عقود، وقد ترسَّخ مفهومه في منطقتنا العربية منذ انتشار وسائل التواصل الاجتماعي، والمنتديات التفاعلية، وكافة مظاهر النشاط الرقمي التشعبية، لدرجة أن هناك إصداراتٍ ورسائلَ علمية وأبحاث عديدة، أجريت عن الأدب الرقمي في مختلف جامعات المنطقة العربية، ناهيك عن الكتب المترجمة.
 

وطبقاً لمنظمة إلو"ELO" للأدب الإليكتروني أن أشكال الأدب الإليكتروني المرصودة في مختلف المواقع الغربية: (الشعر الحركي على هيئة فلاش أو فيديو/ الخيال النثري والشعري المرئي أو المصوَّر/ المحادثات التفاعلية الفورية "Chatterbots"/ الخيال التفاعلي "Interactive Fiction" شعراً أو نثراً/ الروايات الرقمية التي تُبث عبر البريد، أو كرسائل نصية "Hypertext"/ قصائد وقصص مسبقة الإعداد/ مشروعات الكتابة التعاونية والتشاركية، مما يتيح للآخرين المساهمة فيها/ العروض والمسابقات والفعاليات الأدبية التي طورت أساليب جديدة للكتابة).

ما يهمنا هنا هو ما يخص الجانب الاقتصادي من الإبداع الأدبي الرقمي، سواءً في الغرب الذي يسبقنا في هذا الحقل، أو لدينا في الإقليم الشرق أوسطي والخليج.

أشهر نموذج عالمي في بيع الكتب إلكترونياً شركة "أمازون"، التي تأسست منذ عام 1994 على يد (جيف بيزوس)، الذي بات في غضون سنوات ملياردير ينافس أغنى أغنياء العالم. والمثير في الأمر أن جائحة كورونا كشفت كيف باتت المبيعات الإلكترونية أكثر جدوَى وربحية من غيرها؛ حيث بات الجميع معزولين في بيوتهم بسبب الحظر المفروض. وقد حقق بيزوس أرباحاً مضاعفة أثناء الجائحة، فيما كانت شركات ومصانع تخسر مليارات الدولارات!

في بلادنا العربية هناك تجارِب ناجحة كثيرة، لكنها لا تصمد أمام عنفوان المنافسة أمام الديناصورات التي تكتسح في طريقها كل تلك التجارب، مثال ذلك أن موقعاً مثل موقع "سوق. كوم" الشهير في منطقتنا العربية، أصبح ملكاً لشركة "أمازون" التي استحوذت عليه ببساطة في صفقة مربحة للطرفين. ما ينبغي التأكيد عليه أن الاهتمام باقتصاديات الإبداع الرقمي لن تنجح إلا إذا كانت برعاية حكومية، وتخطيط استراتيجي سليم، يبدأ من حيث انتهى الناجحون في هذا المجال؛ إذ لا يكفي أن يهتم الأفراد دون الحكومات والمؤسسات والمستثمرين.

ولنضرب مثالاً معبِّراً يذكره السير (كين روبنسون) الخبير الدولى البريطانى في شؤون التعليم، وكبير المستشارين في أحد مراكز التعليم بلوس أنجلوس يقول: (في عام 1996 عُقدت في الولايات المتحدة الأمريكية ندوة قومية بعنوان: (الإبداع الأمريكي في خطر)، ضمَّت فنانين وعلماء وغيرهم لمناقشة أفضل السبل للوصول إلى مصادر الإبداع في الولايات المتحدة، على خلفية القلق المتصاعد في كثير من مجالات التعليم والاقتصاد، من دور السياسات العامة في تفاقم الأزمة..

وأكدت الندوة على المبادئ التالية:
• التشارك الإبداعي يمثل ضرورة للنجاح؛ إذ يؤدي تعاون أصحاب المهن والقدرات المتنوعة معاً، مرة تلو الأخرى، للتوصل لحلول ناجعة للمشكلات والعوائق، واستحداث طرق جديدة ثورية، وقدرة أكبر على التكيف سواء في الفنون أو العلوم.
• البيئات الإبداعية تتيح للمشاركين الوقت للمحاولة والفشل، ثم المحاولة مرة أخرى، والاكتشاف، وحتى اللعب والمرح، والاتصال بين عناصر شديدة التباين، وهو ما يُؤدي لظهور الأفكار النيّرة الأصيلة السابقة لزمانها، حتى عندما تبدو الأفعال بلا هدف. مثل تلك البيئات تمثل جوهر عملية الإبداع.
• الإبداع صفة إنسانية أساسية يجب تنميتها في كل الناس، وليس في الفنانين والعلماء وحدهم. ترك العقال لعمليات التعلم الحُرّ والخَلق، والمغامرة والإخفاق والنضال والنمو، يمثل جوهر مبدأ الحرية الذي قامت عليه أمريكا. من هنا تأتي ضرورة نشر الإبداع بين كل الناس، من كل المواقع والفئات الاقتصادية والعِرقية لتحقيق المصلحة العامة.

ثقافة الاستهلاك واستهلاك الثقافة

ثمة ظاهرة انتشرت في العقد الأخير في معارض الكتب، يستنكرها النقاد والمثقفون وإن كانت تمثل لغة السوق وسمة العصر، هي ظاهرة "الأكثر مبيعاً-Best seller".

وعندما تفتش في تلك الكتب التي نالت ثقة وإعجاب الشريحة الأكبر من القراء، شباباً كانوا أو أطفالاً رجالاً أو نساء، تكتشف أنها ليست الأعمق ولا الأهم بين الكتب، وربما كان بعضها يمثل انحطاطاً واضحاً في الأذواق.

تلك الظاهرة لا تثير الاستغراب في الواقع، وهي ليست إلا استطراق وامتداد لما يحدث عالمياً منذ عدة عقود! وهو ما نكتشفه عندما نستغرق في قراءة كتاب مهم هو (ثقافة الاستهلاك) لمؤلفه (روجر روزنبلات). ويقارن المؤلف بين عصر كان فيه عمال المناجم الأمريكيين يدفعون في الليلة 25 سنتاً -مبلغ كبير في تلك الأيام- لاستعارة كتاب كرواية: "كوخ العم توم"، وكانت الحكومة الأمريكية تتبنى فكرة نشر الثقافة، لدرجة أن الحكومة الفيدرالية قامت بتوزيع ملايين النسخ من الكتب مجاناً على الجنود إلى جانب حصص التعيينات.

بينما الذي يحدث اليوم أن التكتلات الكبرى –كمجموعة راندوم هاوس- عملاق النشر الأمريكي، التي تقدر أصول مالكيها بنحو 10 مليار دولار، والتي بيعت فيما بعد لامبراطورية النشر الألمانية: "بيرتلسمان" هي تكتلات تبحث فقط عن الأرباح، ما يعني أن أولوياتها في البيع اختلفت؛ وأنها تتبنى اليوم سياسات نشر لم تكن سائدة قبل ذلك.. حتى إن مؤلفة جديدة مثل (كيتي كيلي) قد تحصل على مقدم 10 ملايين دولار، بينما مؤلف آخر كميشيل فوكو أو تي إس إليوت نادراً ما يستحق المجازفة.

قد نندهش أكثر لو قرأنا بعض أرقام البست سيلر العالمية: منها أن سلسلة (هاري بوتر) باعت أكثر من 500 مليون نسخة حول العالَم، منذ صدور عددها الأول عام 1997! وأن أكثر 7 كتب مبيعاً في العالم (أكثر من 100 مليون نسخة) هي روايات خيالية، أو ذات موضوعات ملحمية أو أسطورية، أو سحر وفانتازيا. يأتي في مقدمتها كتاب ( حكايات جريم الخيالية) الألمانية للأخوان جريم، الصادر منذ عام 1812، ثم (سيد الخواتم-الهوبيت) للمؤلف (جون رونالد تولكين)، والصادرَين عامَي 1954، 1937. ثم رواية الأمير الصغير الفرنسية لأنطوان دي سانت إكزوبيري الصادرة عام 1943، والجزء الأول من هاري بوتر، ورواية أجاثا كريستي (ثم لم يبقَ أحد) الصادرة عام 1939. ثم رواية صينية هي (حلم الغرفة الحمراء-1791)، وهي تمثل ملحمة تاريخية أسطورية من تأليف (تساو شيويه تشين).

فأين روايات عمالقة الرواية والأدب في العالَم من هذا كله: إن رواية (الخيميائي) للروائي (باولو كويهلو) الصادرة عام 1988 تتصدر المبيعات بنحو 65 مليون نسخة، وهي تسبق رواية غابرييل غارسيا ماركيز (مائة عام من العزلة) الصادرة في 1967، والتي باعت 50 مليون نسخة. و(لوليتا) لفلاديمير نابوكوف عام 1955 "50 مليون نسخة"، و"اسم الوردة" لأمبرتو إكو 50 مليون أيضاً.

إن روايات حديثة للرواي (دان براون) مثلاً كروايات: (ملائكة وشياطين/شفرة دافنشي)، تسبق في مبيعاتها روايات ليو تولستوي، وجورج أورويل، ومارك توين، وجون تشاينبك، وإرنست هيمنجواي ممن تصدّروا السباق!

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها