رأسمالية الميديا والنشر

هل تحول الأدب إلى سلعة ترفيهية زائفة؟

محمد الإدريسي


أسهمت مساعي العملاق الإعلامي الفرنسي (Vivendi)، خلال فصل الصيف الماضي، لطرح مجموعة "إيديتيس" (Editis) في البورصة والاستحواذ على مجموعة "هاشيت" (Hachette)، في زعزعة استقرار قطاع النشر خلال الأشهر الأخيرة، وأثرت على الجو العام للدخول الأدبي، وأعادت فتح النقاش الكلاسيكي حول العلاقة بين الأدب والسوق. بطبيعة الحال، وفي سياق شرط ما بعد الجائحة، الصراعات الإقليمية، ارتفاع أسعار المواد الأساس، انهيار سلاسل التوريد وتغلغل مقولات الرقمنة والتقانة ضمن البنية اللاشعورية لعالم النشر الدولي، يظهر أن تكتل القوى الفاعلة في عالم صناعة الكتاب سيكون بمثابة سفينة الإنقاذ التي ستنعش قطاعاً حُكم عليه خلال العقود الأخيرة بالتخبط بين مطرقة السوق المفتوح وسنديان عصر الرقمنة والأنفوسفير. لكن، فيما وراء هذه السرديات الإعلامية تختفي حكاية تُنسج خيوطها منذ عقود لتحويل صناعة النشر إلى سلعة ترفيهية -يشكل الأدب ركيزتها الأساس- تكاد توازي أو تتجاوز قطاع الصناعات الموسيقية، مع كل ما يرافق ذلك من مخاوف من أن يفقد الأدب والكتاب قيمتهما الرمزية في سياق الشروط الموضوعية لرأسمالية الميديا والنشر. فما أبرز الدروس المستفادة من "سردية "إديتيس" و"هاشيت""؟ كيف تعمق رأسمالية الميديا من أزمة صناعة النشر في اتجاه إنتاج سلع ترفيهية زائفة؟ وأي مستقبل للأدب في سياق شرط الصناعات الترفيهية الجديدة؟


"كلما زاد عدد الشركات الفاعلة في صناعة عالم النشر والكتاب كان ذلك أفضل. حينما بدأت الكتابة، كان هنالك بالفعل مئات دور النشر اللواتي تعثرن واحدة تلو الأخرى وسقطن ضحية لقوانين السوق المفتوح. الأمر أشبه بتنافس الزوج والزوجة حول نفس المنزل"1. بهذه الكلمات يصف الكاتب الأمريكي "ستيفن كينج" (Stephen King) تطور العلاقة بين عالم الكتابة ونظام السوق المفتوح، خلال العقود الأخيرة، وتأثير شرط الاحتكار في إضعاف وتيرة تطور قطاع النشر وتحويل الصناعة إلى قوة ترفيهية على حساب الوظيفية الإبداعية لفعل الكتابة نفسه. صحيح أن مهنة اقتصاد النشر تظهر آفاقاً واسعة فيما يخص تعزيز القدرة التنافسية لحرف الكتابة في سياق تحولات العصر الرقمي ومنافسة عالم الأنفوسفير، إلا أنها تخفي كذلك شروطاً موضوعية لتسليع الصناعة وتحويلها إلى سلعة ترفيهية تتكامل وقوانين السوق المفتوح. لذلك، وكما بتعدد الكُتّاب، دور النشر والقراء أنفسهم، ينتعش قطاع النشر والكِتاب وينفتح على إمكانات وتجارب إبداعية جديدة، فمن شأن احتكار الصناعة من قبل دور نشر بعينها أن يُنمط فعل الإبداع من خلال ربطه بقوانين العرض والطلب، وتعزيز وتيرة الاستهلاك الترفيهي للكتاب بين العموم وضمن المنصات الرقمية.

لا جدال في أن البيانات الضخمة هي سلعة القرن الحادي والعشرين، والشرط المنظم لميلاد الثورتين الرابعة والخامسة خلال السنوات الأخيرة (من الذكاء الاصطناعي إلى الذكاء الاصطناعي العالي). وتبعاً لذلك، يُحفز أي تفاعل بين المنظومة الرأسمالية وقطاع النشر والكتاب من خلال البيانات الضخمة ورهان التنبؤ بالسلوك الاستهلاكي للأفراد، وتنظيم طبيعة التفاعل الإنساني مع السلع الزائفة بالعالم الرقمي. لهذا، يتآلف الخوف من رسملة الكتاب ومهنة الاقتصاد الرقمي للنشر، مع القلق من أن تتحول دور النشر إلى مقاولات خاصة تخرج الكُتّاب والكِتاب من صدمة الرقمنة لتدخلهم في أزمة المعنى والغاية من فعل إبداعي من المفترض أن يكون مهرباً للقراء من عالم رقمي فاقد للمعنى الإبداعي نحو عالم التخييل والإبداع الحر والخالي من أي رهانات غير فعل الإبداع نفسه.

لقد أعادت قضية "إيديتيس" (Editis) و"هاشيت" (Hachette)، إحياء مخاوف القراء قبل صناع الكتاب، من أن تسهم مساعي المهنة والرسملة في ميلاد قوة إعلامية احتكارية من شأنها أن تنهي دينامية الإبداع بأحد أعرق المجالات التداولية الأدبية التي ما زالت تقاوم شرطي الرقمنة وقوانين السوق المفتوح2. أظهرت التجربة الفرنسية أنه باستطاعة الإبداع الأدبي أن يقاوم الرقمنة وتحولات الثورة الصناعية الخامسة من خلال استمرار التآلف بين ثقافة القراءة وطقوس الدخول الأدبي، الجوائز الإبداعية والواقع الاجتماعي للإنسان المعاصر، بشروط وجوده المختلفة، ليس بالاعتماد على رهان المهنة؛ وإنما بالحفاظ على أصالة فعل الكتابة. لذلك، وبما أن النشر الأدبي يمثل أهم ركيزة لصناعة الكتاب، بعد النشر العلمي، فإن احتكار السوق بين فاعلين محددين، إضعاف دور النشر الصغيرة وتهميش الكتاب الشباب سيُفقد عالم الأدب المعاصر قوته بالضرورة. وعلى هذا الأساس، ظلت جميع القوى المحلية والدولية مناهضة لفكرة الاستحواذ خوفاً من أن يعلن الحدث عن تآلف بين رأسمالية المراقبة ورأسمالية الميديا في اتجاه رسملة الأدب نفسه.

تمثل ثقافة الكِتاب خط الدفاع الأخير أمام اختراق المنصات الرقمية للحياة اليومية للأفراد؛ إنها الشيء الوحيد الذي يقف بين الشباب والشاشات الذكية. إضافة إلى ذلك، بدون الأدب، والعوالم الأدبية واللغوية والثقافية والإبداعية التي يفتتحها أمام الأطفال والشباب والكهول، ستشيئ وتسلب الرقمنة مع تبقى من خيال وواقعية الإنسانية. وعليه، يتجاوز الإبداع الأدبي مجرد كونه منتوجا ترفيهياً، كما تصنفه المقولات الرأسمالية اليوم. إن عالم النشر والكتاب نفسه سردية عن سرديات وقصص تاريخ وحاضر ومستقبل الإنسانية. لهذا، فكل مهنة أو بناء لشروط الصناعة خارج هذه المعادلة لن يصنع بالأدب ما صنعته المهنة بقطاع الموسيقى فقط؛ وإنما سيمس جزءاً كبيراً من سردية وقصة الحضارة الإنسانية ككل.

في الواقع، يكمن التحدي في المفارقة التي تنتج عن تفاعل رأسمالية الميديا مع المقولات الإبداعية بالأساس. خلال فترة الجائحة وما بعدها، أضحت دور النشر الكبرى تدير ظهرها لصغار الكتاب، الشباب والنساء وتفضل "النجوم" والمخضرمين منهم. تم رفع أثمنة مؤلفات كبار الكتاب وتخصيص جزء كبير من ميزانيات النشر للتعريف بها على نطاق واسع بحثاً عن ترشيح أو جائزة مرموقة تضمن ارتفاع نسب المبيعات. بطبيعة الحال، يمكن لكبريات دور النشر أن تتحمل ذلك، لكن بالنسبة لصغار الناشرين والكُتاب فالأمر ينذر بتنامي خطر الإفلاس والبحث عن مسارات مهنية بديلة عن عالم الكتابة والنشر. وعلى ذلك، يتحول عالم النشر الأدبي، شيئاً فشيئاً، إلى صناعة اقتصادية أكثر تآلفاً مع قوانين السوق المفتوح منه مع الشروط الثقافية والأدبية لدينامية الفعل الإبداعي ضمن المجالات التداولية المعاصرة.

لكن، يظل هناك إشكال حقيقي يُطرح باستمرار: لماذا ينفر الكثير من الكتاب، بدول الشمال كما الجنوب، من شرط المهنة والتآلف مع دور النشر الكبرى والمقاولات الفاعلة في الصناعة؛ علماً أن الأمر ينعكس إيجاباً على فئات كثيرة منهم فيما يخص تكريس مقولة العيش بالكتابة والإبداع؟

نعلم جميعاً أن دور النشر الصغيرة غالباً ما تنشر الأعمال الأدبية والإبداعية للكتاب الشباب والصغار بمقابل مادي رمزي، وأحياناً دون مقابل. وهو الأمر الذي يفرض علهم البحث عن مورد رزق خارج اقتصاد النشر والكتاب بالضرورة. إضافة إلى أنها لا توفر التوزيع والتعريف اللازمين لميلاد كاتب جديد، فضلا عن فرض بعضها لعقود مجحفة على الكتاب تنتهي بفقدانهم لحقهم في نشر وإعادة نشر مخطوطاتهم الأصلية. وحتى في حالة الفوز بجوائز مرموقة، فإنها تتحصل على العائد المادي الأكبر، في مقابل الشهرة والثناء الرمزي الذي يتلقاه الكاتب. وفي الجهة الأخرى، يستفيد كبار الكتاب، على قلتهم، من عقود نشر مريحة، يحصلون على كل الدعم والتوزيع والتعريف اللازم للمنافسة حول الجوائز الدولية وبناء نموذج الكاتب العالمي. في كثير من الأحيان، يكسبون امتيازات ومناصب عليا ضمن هياكل دور النشر الكبرى، الأكاديميات الدولية ولجان الجوائز. يتابع بعضهم ملايين القراء على صفحات المنصات الرقمية ويشاركون في النقاشات العمومية، إلى جانب باقي مثقفي الساحة الإعلامية.

على النقيض من كل ذلك، يميل معظم الكُتاب اليوم نحو التآلف مع دور النشر الصغيرة واستراتيجيات النشر الفردي. يتعلق الأمر بتعاظم المخاوف إزاء الوظيفية النقدية والإبداعية لفعل الكتابة في عالم يهيمن فيه الشرط الاقتصادي على الرهانات الثقافية الخالصة.

في حقيقة الأمر، وعكس المقولات الاقتصادية للمهنة، لا يتجاوز العمر الافتراضي لكتاب العصر الرقمي ونجوم الإعلام والجوائز الأدبية السنتين إلى ثلاث سنوات. وسواء تعلق الأمر بجودة العمل اللاحق من عدمه، افتقار القدرة على الإبداع الخلاق والسقوط في فخ ظاهرة "العمل الوحيد الكاسح" (Literary One Hit [Book] Wonder) وتنميط وتشابه الأعمال المنتجة، تستحيل حرف الكتابة إلى مهن فاقدة للمعنى وسلع زائفة. إضافة إلى ذلك، تنتقل سيرورة تقييم أصالة الأعمال الإبداعية من عالم النقاد والأدباء نحو شرط نسب المبيعات، المشاركات، التعليقات، الإعجابات... بالشكل الذي يعجل بنهاية مسارات المبدعين غير المتآلفين مع قوانين السوق الرقمي، ويعلن عن تحول فعل الإبداع إلى نشاط ترفيهي تحكمه رهانات السوق أكثر من أصالة الإبداع.

إن شبح تركز قطاع صناعة الكتاب والنشر في أيدي مجموعات إعلامية بعينها لا يجعل الإبداع والعمل الثقافي رهيناً بقوانين السوق فقط، وإنما يهدد وظيفة النقاد في المستقبل ويضعف من قوة الأعمال المقدمة لتتحول إلى منتوج ترفيهي مفرغ من مقومات الفعل الإبداعي. لهذا، يضمن انتشار دور النشر تحقيق شرط المنافسة حول أصالة الأعمال المقدمة، ويرجع للنقاد وظائفهم التقييمية، نظراً لوعي جميع الفاعلين بأن ما يضمن إقبال القراء هو جودة المعروضات التي يبحثون عنها هرباً من سطوة الترفيه والرقمنة على الحياة الإنسانية المعاصرة.

استناداً إلى كل ما سبق، لا تعكس موجة النشر الفردي بحث الكتاب عن سبل جديدة لنشر كتبهم وأعمالهم والاتصال المباشر بالقراء فقط، وإنما تمثل رد فعل قوي تجاه تنميط الإبداع؛ وصوت شجب لترفيه الأدب. وتجسد أيضاً رفضاً جمعياً لمقولات المهنة التي لا تسهم سوى في تغلغل رأسمالية الميديا ضمن أعماق الحقل الثقافي. في الواقع، وحديثاً عن شرط المهنة نفسه، لم يسبق طيلة تاريخ تطور الإبداع الإنساني أن تم ربط حرف الكتابة بالعائدات المادية أو الحديث عن ضرورة التآلف بين الكتابة وشرط العيش بالكتابة. بكل بساطة، لأن تقيد فعل الكتابة لا يتكامل والشرط الإنساني للإبداع. فكلما تآلفت الكتابة والنشر مع قوانين السوق كلما أثر ذلك سلباً على تطور وأصالة وتحرر الإبداع الأدبي والإنساني. والعكس بالعكس. لذلك، ورغم هشاشة قطاع الصناعات الثقافية والأدبية في سياق العصر الرقمي، إلا أن القوة الرمزية للكتاب الورقي والتزام القراء بثقافة القراءة، واستمرار العلاقة النقدية والتفاعلية بين النقاد والكتاب قد جعلت الكتاب تحدياً حقيقياً لثقافة الشاشات، وحولت الأدب إلى حامي سردية التخييل والإبداع.

ختاماً، لا يمكن نفي الإسهام الكبير للمنصات الرقمية في مصالحة الكاتب مع العموم، خاصة في سياق الجائحة وما بعدها. لقد ساعدت المدونات والصفحات الرقمية في الحفاظ على طقس القراءة الورقية سبيلا لاستمرار حرف الكتابة والارتباط بين التجربة الإبداعية والتجربة الإنسانية خارج دوائر العالم الرقمي. لكن، تزامن كل ذلك مع ميلاد رأسمالية الميديا والنشر التي تتعاطى مع الأعمال الإبداعية والأدبية، على منوال الإعلام والصحافة، كسلع ترفيهية خاضعة لمنطق العرض والطلب. بلغة أخرى، فتحت رسملة قطاع النشر والكتاب المجال أمام مقولات المهنة لصناعة إبداع إنساني على المقاس قادر على التآلف مع التوجهات الثقافية العامة الجديدة. وعليه، من شأن تسليع الإبداع والنقد والكتاب أن يعجل بنهاية الواقعي وسيطرة الرقمي على مختلف مناحي الوجود الإنساني.

إن الكاتب هو أحد خطوط الدفاع النقدية الأخيرة أمام موجة سلعة العالم، والكِتاب قصة عن سردية الإنسان والحضارة في مواجهة رأسمالية المراقبة والميديا.

 


الهوامش
1- https://www.marianne.net/societe/medias/fusion-hachette-editis-vincent-bollore-devrait-ecouter-stephen-king
2- https://www.lesechos.fr/tech-medias/medias/hachette-editis-pourquoi-la-mega-fusion-de-ledition-va-se-cogner-contre-lantitrust-138863

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها