سارق الذرة

فراس ميهوب

 

حصلتُ على بذور الذرة الأمريكية المحسنة، لامس فخري بها أطراف الغمام، لم أتردد في المباهاة بها أمام أصدقائي في المقهى، وساحة القرية، وفي سهراتنا. لم تمضِ إلا أسابيع قليلة حتى نمت وترعرعت، شبر ثم نصف متر، واقترب طول بعضها من المترين حتى كدت أختفي وأنا أتجول بين خطوط سقايتها. كنت بانتظار المرحلة الأخيرة والحاسمة، خرج من النبتة الواحدة عشرات منها، العرانيس الخضراء انتشرت وتشعبت، جهزت نفسي لاقتراب الحصاد، وككل شيء مفرح في الحياة لا بد من منغصات صغيرة تتخلله وتمنع اكتماله.

 أخرجتِ الكيزان شعرها الأبيض المخضوضر، ومع اشتداد حر الصيف، غلب اللون الأصفر عليها.

لم تتمكن الحشرات الضارة من محصولي، فالبذار الأمريكية مقاومة لها.

ابتكرتُ حيلة أحدث من خيال المآتة، وضعت مجسمات لجوارح تحيط بحقل الذرة، تعمل ببطاريات إلكترونية، ومزودة بصوت مخيف رادع، ربطتها على مسارٍ دقيق مخفي.

لم ترضَ أمي، عاتبتني:
- يا بني، يكفي وضع الفزّاعات العادية كي لا تستبيح الطيور حقلك، ولكن اترك لها هامشاً لتتغذى، فلها حق فيه، زكاة عن مالك.

هززت برأسي، ولم أناقش أمي، وأخفيت وجهة نظري عن أفكارها القديمة التي أكل الدهر عليها وشرب، لم أشأ أن أقول لها إن هذه العقلية سبب للفقر.

اقترب موسم الحصاد، اتفقت مع المستورد الرئيس للذرة في المنطقة، قدرنا الإنتاج بعشرين طناً، علقت آمالاً كبرى على الإنتاج الوافر المتوقع.

الأسبوع الماضي، أحضرت عمالاً لأتفق معهم على بدء فرط عرانيس الذرة، تجاهلت نصائح زملائي المهندسين الزراعيين باستخدام الحصادة الآلية لأن تكلفتها أكثر من اللازم؛ ولأن روائح عوادمها تقلل من نوعية المحصول وتسيء إلى طعم الذرة.

- تعال يا أستاذ، تعال، انظر هنا في طرف الحقل.

صرخ أحد العمال، نبهنني إلى آثار أقدام بشرية، أشار إلى كيزان مرمية على الأرض، وحولها بذور منثورة، وسيقان نبتات ثلاث أو أربع مكسورة ومعراة بالكامل.

طار صوابي، أحسست بإهانة كبرى، ندمت على الاستماع لأمي التي منعتني من وضع أسلاك شائكة مكهربة حول الزرع، ولا تدع ابن آدم يقترب، أو إطار مغناطيسي يمنع اقتراب اللصوص والحيوانات الضارية والداجنة الغبية.

غريمي لم يكن طيراً ولا دابة، كان لصاً شقياً، ولا أعتبره كائناً بشرياً إلا مجازاً.

تخليتُ مؤقتاً عن مهنتي الأصلية كفلاح مثقف، وارتديتُ فوراً معطف المحقق الجنائي، طلبت من العمال الخروج، وأخبرتهم بتركز اهتمامي الآن على كشف المجرمين، ومعاودة الاتصال بهم لاحقاً.

عدتُ إلى مخزني وأحضرت لوازم التحقيق، عدسة مكبرة، وأشرطة لاصقة، ومصابيح بالأشعة تحت الحمراء، ولم أنسَ كاميرات المراقبة، آخر صيحات التقنية العالية، وسلاحي السري الأخير.

لم تمضِ إلا دقائق قليلة حتى فهمت ما حدث، فاعلان اثنان، أولهما مخربٌ عاتٍ طويل، لم يدخل محميتي بغرض السرقة، وثانيهما لص قصير القامة.

قد تظن ما أقوله تخرصاً وادعاء فارغاً، ولكني سأثبت لك صدق كلامي الذي وثقته الكاميرات، وتحققت منه بنفسي.

أمَّا كيف عرفت كل هذا، فالأمر أبسط مما تظن، كانت العرانيس الكبيرة العالية قد كسرت ورميت أرضاً ولم تخرج من الأرض، بينما أوراق سوقها منزوعة لأن غرض المجرم الخطير لم يكن أكلها أو بيعها، بل ببساطة استخراج الديدان التي تنام تحت الأوراق، والتي تعجز عن اختراق النبات بسبب مناعته العالية، وهذا عكس ما يحدث مع الأنواع البلدية التي تعشش في لحائها جميع أنواع الكائنات الحية الصغيرة والقذرة.

كان طويل القامة لأنه تناول بسهولة نبتات يصل طولها إلى المتر والنصف وحتى المترين، ولم يلمس أي نبات أقصر أو أجزاء سفلية من الذرة الكبيرة.

لقد فعل ذلك باختصار لأنه صياد يستخدم الديدان طعماً للطيور التي يصطادها بفخاخ معدنية يخفيها بحنكة تحت التراب على البيادر.

تجرأ اللص القصير على عرانيس نبتات مائلة للقصر.

دلت آثار الأقدام عليهما، حذاءان مختلفان، وفي ذات المكان، وهذا يؤكد حقيقة أنهما كانا معاً، وتآمرا بقذارة على حقلي المسكين.

لم يبقَ إلا الإيقاع بهما، وبالجرم المشهود، وضعتُ خطة محكمة، ركَّزتُ الكاميرات في أمكنة كاشفة، كنت أريد توثيق الحدث الجلل، لحظة الإمساك بالسارقين، وجعلهما عبرة لمن يعتبر.

نسيتُ أن أخبركم، أني أحمل سلاحاً مرخصاً، وأستطيع قتل المخربين دون رحمة، ولن أدخل السجن يوماً واحداً، في دفاع مشروع عن الرزق، لكنني لم أعتمد هذا الأسلوب، لأنني لا أرغب بالعنف من جهة، ولأنني أمتلك قوة عضلية تمكنني من القبض عليهما بيدي العاريتين دون استخدام أي سلاح، وهذا ما كان.

عرفتُ بحكم خبرتي القديمة في القرية، وبذكاء الفلاحين الفطري المتوارث أنَّ الصياد يبكر في الذهاب إلى البيادر لنصب الفخاخ قرب نبع الماء المنفجر من الصخور البركانية.

فجر اليوم التالي، ومع بزوغ أشعة الضياء الأولى من قرص شمس ما زال مختفياً بحياء خلف الجبال الشرقية، ورغم بعض البرودة المعبقة بندى كرذاذ المطر، اختبأت في الحقل، وأدرت الكاميرات التي تؤمن الرؤية الليلية، وانتظرت.

لم يخب ظني، دخل المطلوبان القفص بأرجلهما، وتكرر المشهد المتوقع أمامي دون تغيير يذكر، أحدهما يقشِّر بسكينة صغيرة ذات رأس مدبب أوراق الذرة، ويضعُ الدود في علبة ملأها بالطحين، والآخر يكسر دون رحمة أطراف العرانيس الناضجة ويدسها في كيس أسود، واحد، اثنان، لم يتحمل قلبي أن أدعه يلمس الثالث، انقضضت كلمح البرق، ودون أن أترك لهما مجالاً للهرب، باغتتهما بقفزة نمر مفترس، وأمسكت بهما من ياقتيهما.

سقطت السكين والذرة والعلبة والكيس أرضاً، لكن خطتي المحكمة لم تكتمل تماماً.

عرفتُهما، مراهقين ضالين.

الطويل في الرابعة عشرة من عمره، متسكع ذائع الصيت في المنطقة، يمارس أعمالاً حقيرة في التحطيب والتجمير مع والده، يقضي أغلب وقته في صيد الطيور، ومداهمة أعشاشها.

القزم الصغير، مفرط الحركة، تلميذ فاشل لا يعود إلى المدرسة حتى يطرد منها.

صُعقَ المارقان، لم ينتظرا أن يقعا في مصيدتي بهذه السهولة كأرنبين، استعاد الطويل نفسه، واعترفَ بذنبه على الفور.

ادَّعى أن الصغير هو من أقترح عليه سرقة محصولي، فأبى، ولكنه وافق على مرافقته طمعاً بطعوم الصيد الوافرة، أقرَّ بأنها المرة الثانية التي يخترق فيها حدود أرضي ويتعدى على حرمتها، ويدنس طهرها.

فكرتُ برهة، ما أصنع باللصين، أأصلبهما على شجرتي سرو، وأدعوا المختار ورجال القرية ليروهما ويتأكدوا من فعلتهما القذرة، أم أقدمهما للمخفر فيصنع بهما ما يشاء.

لم يطل بي التفكير، ففي لحظة ارتخت بها يدي اليسرى عن رقبة اللص القصير، لواها وخرج كثعبان من قميصه، وفرَّ راكضاً، ابتعد، ما أن وصل على الطريق القريبة حتى كال علي السباب بأقذع الصفات، سمعت منها بوضوح البخيل القذر!

سخرت من غبائه، لباسه القطني بقي بين أصابعي دليلاً لا يدحض على ذنبه الشائن، أضف لها ما صورته الكاميرا من تفاصيل كاملة للحدث.

تركت اللص الطويل، وأفسحت له المجال بالهرب، فلم أكن في حياتي رجلا عنيفاً، ولكنني لا أحبُّ أن يهزأ بي أحد.

استغربتُ أشد الاستغراب فالطويل لم يبتعد، وأعتذر، أقسم على توبة نصوح، قبلت تأسفه، وتركته يذهب، على كل حال فعلته مثبتة في الكاميرا، ولا مجال للإنكار إن كان كاذباً في طلبه الصفح.

داهمني شعور بنشوة غريبة لكشفي أبعاد الجريمة، واحتفظت بدليل إدانة القصير في كيس بلاستيكي، كان متسخاً مقرفاً.

فور عودتي إلى البيت، فرَّغت محتويات الكاميرات، نسختها، وضعتها في أمكنة آمنة، عاودتُ الاتصال بعمال الحصاد، واتفقنا على بدء العمل دون إبطاء.

قضيتي مع اللصين لم تنته بعد، رغم أني لم أرد ملاحقتهما قانونياً، لكن التشهير بهما واجب، وردع الآخرين ضروري أيضاً.

هممتُ بالخروج من المنزل، لاحظتْ والدتي انهماكي، رجتني عدم الخروج قبل تناول الفطور، قلتُ لها إني لن أتأخر بالعودة، لم أسر لها بما حدث لمعرفتي برد فعلها المسبق، وميلها الأبدي للدفاع عن الآخرين ولو كانوا لصوصاً.

لن أتهم أمي بكونها محامية للشيطان، ولكنها تمثل اتجاهاً سائداً في مجتمعنا اصطلح العرفُ الشعبي على تسميته بالـ"خَطِّي"، أي من الخطأ معاقبة المذنبين حتى لا نقع نحن في الخطيئة!

أخفيتُ خطتي بفضح اللصين على رؤوس الأشهاد، وعرض فيلم السرقة الموصوفة والقبض عليهما في جهاز عرض مقهى القرية، ولم أنسَ قميص المجرم الصغير ليكون مسك ختام الحفل ومفاجئته الكبرى.

لم تتجاوز قدمي عتبة الباب حتى حدث أمر لم يكن بالحسبان، المرأة السليطة التي يخشاها الحيُّ، والدة السارق الهارب تقفُ أمامي، فهمتُ سبب زيارتها الصباحية، توقعتُ منها كلاماً مقذعاً كعادتها في الحديث مع كل من تختلف معه، لكن هذا ما كان ليروعني ويزحزح قراري قيد أنملة.

- صباح الخير يا أستاذ سامح، والله أنا خجلة من فعلة ابني المزرية، ولكنه كما تعلم طفل صغير، من الطبيعي أن يشتهي أكل كوز ذرة، قطعة الأرض الصغيرة التي نملكها مزروعة بالتبغ، وأنت، تبارك الرحمن وما شاء الله، لديك حقول ذرة تسرُّ الناظرين، وهي حديث الأهالي والأولاد.

لم أتوقع هذا الأسلوب اللطيف من أم وسام، السارق الهارب، خرجت أمي لملاقاتها فأحرجتني، طلبت منها بعد السلام أن تجلس وتفهمها ما حدث.

- يا ست أم سامح، نحن الخطأ راكبنا من فوق لتحت، دخل ابني إلى حقل المحروس الأستاذ سامح سلمه الله، واعترف لي.

أنا مستعدة لتعويض العطل والضرر، ولكني أرجو إمهالنا حتى تسليم محصول التبغ، فليس لي قدرة الآن على التسديد، وأنتم بعد الله أعلم بحالنا بعد موت زوجي.

رأيتُ مندهشاً انكسار أم وسام، فهذه المرأة مشهورة بقوتها في المنطقة كلها، ويخشى الصدام معها أعتى الرجال، فهي لا تتردد عن كيل أقذع السباب عند كل كبيرة وصغيرة، هل كانت تمثل بإتقان مشهد الاستعطاف؟

كنتُ على حق، وفي دفاع مشروع عن رزقي، فقر أم وسام لم يكُ أسوداً كما يقال، ولا يبرر السرقة على أي حال.

قطعتْ نظراتُ أمي الحادة استغراقي:
- لا أعرف تفاصيل ما حدث، ولكن المسامح كريم، وأريدك أن تقبل عرض الست أم وسام.

حشرت في الزاوية، لم تكن تشغلني آراء الناس فيَّ، لم أشأ إغضاب أمي فحسب، خاطبتُ أم وسام:
- لا أريد تعويضاً عن الإضرار بحقلي، أمسكت ابنك بالجرم المشهود، كابر، وشتمني، لي شرط واحد هو ألا يعود لما فعله.

ردت أم وسام دون تلكؤ:
- يا أستاذ، إنه طفل غير مدرك لتصرفاته.

لي رجاء أخير، أن تعيد لي قميص ابني، لا أخفيك أنه ينتظرني في المنزل، وهو عاري الصدر.

صمتت أم وسام، بدا عليها التردد وكأنها ترغب بمنع كلماتها القادمة من مغادرة فمها، انفجرت بالبكاء دون سابق إنذار:

لا يملك ابني إلا هذا القميص الصيفي، وعدته بشراء آخر جديد حين تتيسر ظروفنا.

انهار جبل أفكاري دفعة واحدة، حجب حقلُ الذرة عني حقائق بسيطة وأساسية، لم يكن ما فعله وسام وأكرم أكثر من لعب أطفال وطيش، وردة فعلي مبالغاً بها.

أخرجتُ قميص وسام من الكيس الذي لم يفارق يدي، فارقتني الحساسية من لمسه، رغبتُ بالتطهر من صلف التركيز المفرط على الحقل المُعجِب.

فرحة أم وسام باستعادة قميص ابنها، كان لها رد اعتبار، رأيتُ دموعها على الخدين أكبر من حبات الذرة، وأكثر لمعاناً منها.

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها