رشاد أبو داود.. شاعر الموقف الكاريكاتيري

حاوره: أحمد الشيخاوي


رشاد.. شاعر انجذب إلى عوالم الومضة، وتأسّست كتاباته على صفحات المحذوف، فأوغل في تجربة تلوين البياض، موقناً بأن الكتابة هواية، وأن الفعل الإبداعي حياة موازية. انشغل بأدقّ التفاصيل في حياة الإنسان المهمّش، والمقصي، والمنبوذ.
 

جمّل قبح العالم، من خلال فلتات شعرية عميقة، وتجليات خاطفة، تتسربل بالكثافة وتزدان بالمُختزَل، فجاءت شذراته قياسية أقرب إلى سرعة الضوء، نابضة بالملمح الاستطيقي، وطاوية لجغرافيا الحرف المغدق ببصرية تضيء جوانب العتمة في الذات والحياة، حتى إن شذراته لا تستغرق –زمنياً- فوق ضغط زناد لتخرج الرصاصة التي تصيب الهدف.


من يطالع له يعي معنى الانزياح، ويجرّب اللذة من معنييْن: عرفانية، وشعرية. وكأنه اختار الإقامة على ضفاف الهايكو، من غير اقتحام لججه؛ كي يظل على مسافة أقرب ما تكون إلى مضارب الانتساب إلى لغة الضاد المفتوحة على العجائبي والقابل للخلق والتجديد، وكيف أنها -أي لغتنا- تظل أقدس من أي نص، ومؤهلة للاحتواء في أي وقت أو جيل، كعذراء مهما قرأت في عينيها من رغبة، فليس يُجنى من مطاردتها والركض وراءها سوى التعب والمزيد من الاشتياق، كونها ساحرة بالمفهوم الشامل لهذا التوصيف، ونافرة لا تعرف غير الزئبيقة معجماً.

جُلّ نداءاته موجّهة إلى الأنثوي في تعاليه وتساميه، كتيمة أصل تتفرع عنها دوال الأمومة، والمثالية، والانتماء. فلسطيني المنبت، أردني الإقامة، مهما أسهبنا في نبش سيرته وتناول تجربته، لن نوفيه حقّه. طالعت له مجموعة "اسمعي ما تقوله يداي"، فأدركت أني إزاء منعطف في تاريخ الشعرية العربية.

إنها خلفية الشاعر العربي المبدع رشاد أبو داود ومنبثَقُه، ثمة دائماً في تصانيفه ما يعزز اللحمة بديوان العرب في برود ينابعه. تاريخنا الشعري يمجّد السمع، وملح إبداع الشذرة لدى شاعرنا، يكمن في ترتيل وتجويد ما هو بصري، بأمانة وابتكار وذكاء.



قابلناه فكان لنا معه هذا الحوار المستفيض والماتع:
 

● بدايةً، كيف أمكنكم المزاوجة بين الشعر والإعلام؟

في المدرسة كنت أحب اللغة العربية وأحصل على أعلى العلامات فيها، فاختزنت في ذاكرتي روافدها من نصوص، وأشعار، وقواعد، وأدب. حبي للغة قادني إلى حب اللغات بشكل عام، وبخاصة اللغة الإنجليزية وآدابها التي درستها في جامعة دمشق، وحصلت على شهادة البكالوريوس.

عملت في تدريس اللغة الإنجليزية في الكويت لمدة سنتين، ثم تسللت إلى الصحافة من باب الترجمة في جريدة "الأنباء" الكويتية عام 1976، ثم استهوتني الصحافة فتدرجت من مترجم إلى رئيس قسم الأخبار، فغرقت في أخبار العالم وحروبه، ودهاليز السياسة العربية والعالمية.

أما العلاقة بين ممارستي الإعلامية والشعرية، فقد جاء الشعر لاحقاً دون قصد مني. لكني طيلة عملي الصحافي كنت أكتب عموداً سياسياً يومياً بأسلوب أدبي في "الأنباء" الكويتية، و"الخليج" الإماراتية، و"الدستور" الأردنية، ثم مقالاً أسبوعياً في مجلة "المجلة" السعودية، و"البيان" الإماراتية. وكانت تنقل أغلب مقالاتي صحف ومجلات عربية منها "الوفد" المصرية، "الناقد" اللبنانية، "الشرق الأوسط" السعودية وغيرها. لقد ظل حبي للغة ملازماً ومميزاً لأسلوبي حتى الآن. وقد لخص الشاعر البحريني الكبير الصديق قاسم حداد هذه السمة في تقديمه لكتابي الأول "لكم أنت بي – نكهة وطن" الصادر 2008 بقوله: "إن رشاد أبو داود يغرف من نهر الأدب، ومن الشعر أحياناً".

● ما مدى حضور فلسطين في أشعارك؟

فلسطين بلدي ومركز الكون بالنسبة لي، فيها ولدت أمي وأبي وقبلهما أجدادي، فمن الطبيعي أن تظهر زرقة البحر، ورائحة الكعك المقدسي، ونكهة البرتقال اليافاوي في كل ما أكتب، بما في ذلك نكبة 1948 وارتداداتها المدمرة المستمرة حتى اليوم.

● كثيراً ما أصطدم برشاد الطفل في نصوصك الوامضة، ما سرّ نظير هذه المُشاكسات بذاكرة الطفولة، على النحو الذي تتوهج له روح الشعرية المنشودة، كنموذج لديكم، التوأمة بين المسموع والبصري؟

يقول علماء النفس إن شخصية الإنسان تتشكل في السنوات ما بين 10 و12 من عمره.
ففي هذه الفترة تترسخ في ذاكرته الأشياء التي يراها أو يتعلمها، أو يكتسبها من محيطه، وما يلي ذلك هو بناء وتوسع على ما ترسخ. ومن الطبيعي أن تكون طفولتي مرجعية لحياتي. ومع أن طفولتي لم تكن مريحة إلا أنني سعيد بها، فهي التي جعلت ذاك الطفل اللاجىء مصراً على تجاوز الفقر والتتشرد وحياة الخيمة. فرغم أنني عشت في فلل وشقق فخمة في أربع دول عربية، وزرت عدة دول أوروبية، ونزلت في فنادقها الفخمة إلا أن الخيمة ظلت تسكنني.

كتبت مرة:
لا أذكر أنني كنت طفلاً
فلم يكن في المخيم حديقة

● هل أنصف النقد شاعراً إشكالياً من طينة رشاد أبو داود؟

نعم أنصفني، بل هو الذي نبهني إلى كوني شاعراً.. فالدكتور الشاعر والناقد راشد عيسى هو الذي أقنعني أن ما أكتبه هو شعر قل من يكتبونه، وأسماه شعر الومضة أو التوقيعة. وقد كتب مقدمة ديواني "اسمعي ما تقول يداي". وأبلغني أنه يعد كتاباً نقدياً حول شعر الومضة يتضمن أعمال أربعة شعراء بينهم أنا.

  ما الذي تعنيه الثورة التكنولوجية لكم، إذا ما قاربناها من زاوية مسخ المستقبل العربي، وإنتاج أجيال تُكابد انفصاماتٍ وشروخاً غائرة في الهوية؟
● أيكونُ الشِّعرُ المباهي بإشراقات قواميس الضاد الصافية، حتى ضمن دوائر القشيب، ملاذاً وبلسماً، مثلاً؟

لا نستطيع أن ننكر أو نتغاضى عن التكنولوجيا. فالكتابة بدأت على الحجر، ثم الجلد، ثم الريشة والمدواة، ثم القلم... واليوم الكيبورد. أما إن كنت تعني تأثير التكنولوجيا على الشخصية والهوية، فأعتقد أن لا تعارض بينهما، بل لا يمكن أن تتطور مالم تجاري العصر. فلا يمكنك أن تحارب الكلاشينكوف بالسهم، ولا يمكنك أن تسقط طائرة حربية بالمقلاع.

● يُقال إن المؤسسة الثقافية العربية لا يمكن اختراقها إلاّ من الداخل، إلى أي حدّ تُعتبر صحيحة كهذه مقولات؟

الاختراق نوعان، إيجابي ويعني التفاعل والتأثر بالآخر. وسلبي يعني الهجوم على الثقافة، واللغة، والتاريخ. ولا أرى أن ثمة سبباً وجيهاً يجعلنا نعير اهتماماً لهذه المسألة، أعني مسألة الاختراق بل علينا أن ننتج أدباً عربياً بروافده المتعددة يرقى إلى العالمية. وطبعاً لن نستطيع من دون أن نكتب بحرية، ولن نستطيع ما لم نتمتع بهذه الحرية.

● في اعتقادي؛ تظل مجموعة "اسمعي ما تقول يداي" أكبر من مجرّد صرخة متشبّعة بالروح الفلسطينية الأبية والأصيلة، كيف يتسنّى لمبدع أن يكون شاعر قضية، ضمنياً، لا منبرياً؟

هذه المجموعة كتبتها دون أن أقصد إلى نشرها، بل كتبتها بحبر قلبي، حالات كنت أعيشها وأعبر عنها بصدق، هذا كل ما في الأمر. ولأنها صادقة وحقيقية نالت إعجاب القراء، واهتمام النقاد.

● الشاعر الحقيقي من ليس يكرر أو يجترّ ذاته في طرح الجديد، هلا قرّبتنا من بعض أجواء ديوانك الصادر حديثاً، المعنون "ظل أحمر". ما الإضافة التي قد يكون قدّمها رشاد أبو داود عبر هذا المنجز؟

امتداداً لـ"لكم أنت بي"، و"كلام طري"، و"اسمعي ما تقول يداي". وهو تعبير عن حالات أخرى عشتها صادقة، ومن هنا فالمجموعة متجددة وليست جديدة. فالشمس هي الشمس لكننا نراها كل يوم، كل حسب منظاره أو مزاجه في ذاك اليوم الذي يصحو من النوم فيجد نفسه حياً، ويواصل حياة جديدة مختلفة.

● يبدو أنّك وجدت ذاتك في الموقف الكاريكاتيري، حدّثنا عن هذا التمذهب في شعريتك؟

أنا بطبيعتي قليل الكلام، ولا أتقن الحديث بل أفضل عليه الصمت أحياناً. لكن أحتاج إلى أن أعبر عن نفسي ومشاعري بكلمات قليلة. لذلك اتجهت إلى شعر "الومضة" –أفكار كبيرة في كلمات قليلة– وقد وجدت أن في زمن السرعة من الأفضل أن لا ترهق القارئ، وتضيع وقته في القراءة، بل أن "تصب له البحر في فنجان".

● مؤكد أن ليس كل ما يجتاح المشهد الإبداعي العربي، شعراً، لا جدال في ذلك، هل من رسائل موجِّهة للأصوات الشبابية الواعدة والمبتدئة والمهووسة بالفعل الإبداعي والشعري بدرجة أولى؟

النصيحة أن لا تبهرهم الأضواء، ولا تكون الشهرة هدفهم. ففي هذه الحالات لا يعود الشاعر هو نفسه بل ما يتمنى أن يكون، وهنا يصبح كفقاعة أو موجة تختفي في زمن قصير. الأمسيات لا تصنع شاعراً بل الشاعر هو من يصنع الأمسيات.

 


الصور: صفحة الشاعر على Facebook©

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها