رواية ''مراكش دواليك'' لعبد الرحيم الرزقي

حميمية الفضاء وتحولاته

سعيد بوعيطة



يُعدّ الفضاء عنصراً أساسياً من عناصر النص الروائي، لكونه يمثل إلى جانب الشخصيات، والزمن، والرؤية السردية، والحدث،...الخ، الأسس الجمالية التي ينهض عليها المتن الروائي الحديث. لكن على الرغم من هذه الأهمية؛ فإن أغلب الدراسات النقدية، لم تعن بتخصيص مقاربات وافية لهذا المصطلح. فقد انصرف النقاد والباحثون إلى الاهتمام والتركيز على عناصر أخرى مثل: الزمن، الشخصيات، الحوار، الأبعاد الإيديولوجية للنص السردي. لكن على الرغم من تعذر الفصل بين الزمان والمكان في العمل الأدبي، وخاصة في الرواية، فإن الزمن ظل المقولة المفضلة في هذه الثنائية. ربما يكون مرد ذلك إلى أن اللغة ظاهرة زمنية. بمعنى، أن بنية اللغة زمنية بامتياز. وربما يكون من أسباب الاهتمام بعنصر الزمن على حساب الفضاء أيضاً، اعتبار الإنسان كائن زمني، لكنّه (الإنسان) كائنٌ زمنيٌّ ومكانيٌّ أيضاً.
 

لكن على الرغم من هذا القصور في الاهتمام بالفضاء، فيمكن الإشارة إلى جهود باحثين آخرين. ساهموا في تقريب الأسس الجمالية لمصطلح الفضاء الروائي. نذكر من بينهم على سبيل المثال لا الحصر: هيرمان مايير، هنري ميتران، وغاستون باشلار الذي أطلق المنهج الظاهراتي/Phénoménologie لدراسة القيم الرمزية المرتبطة بالفضاءات المتخيلة، والمعاشة في اللاشعور من خلال كتابه ''جماليات المكان''. كما عمل يوري لوتمان على تطوير نظرية متكاملة للتقاطبات المكانية في كتابه ''بنية النص الفني''. كما اختلف النقاد حول المصطلح شأن العديد من المصطلحات الأخرى الحديثة. فمنهم من آثر توظيف مصطلح المكان بدل الفضاء، ومنهم من وظف مصطلح الحيز، ومنهم من وظف مصطلح المكان باعتباره معادلاً لمصطلح الفضاء. هكذا، أصبح مصطلح ''مكان''، وكذلك مصطلح ''فضاء'' من بين المصطلحات الأكثر تعقيداً في مجال الدراسات السردية الحديثة. وقد انتقل هذا التعقيد إلى اللغة النقدية الروائية العربية.

تشكيل الفضاء في ''مراكش دواليك''

تكشف القراءة الأولية لرواية ''مراكش دواليك'' للروائي عبد الرحيم الرزقي، عن تعدد الفضاءات، وتداخل إيقاعاتها. يرسم سارد هذا النص الروائي، ومعه باقي الشخصيات التي تتناوب على العملية السردية (شخصية المختار التدلاوي، وشخصية سالم الخزاعي)، ملامح خاصة لمدينة السارد/ مدينة مراكش. يشكل فضاء مدينة مراكش، ذلك الداخل المفتوح على بعضه البعض، والشديد الامتداد والاتساع. دون وجود أية انقطاعات تكسر من امتداداته من جهة، وعلاقاتها مع الشخصيات السردية من جهة أخرى. غير أنه كذلك فضاء معزول عن الخارج. إلا أن تدخل هذا الخارج، سيؤدي إلى خلخلة إيقاعات المدينة. كما سيكون مفتاحاً للتحولات الكبرى، التي قامت الرواية برصدها ودراستها بعمق ووضوح شديدين. وقد اقترنت هذه التحولات في رواية ''مراكش دواليك'' بمجموعة من الظواهر التي كانت بمثابة تمهيد لما سيجري لاحقاً.

تنقسم فضاءات رواية ''مراكش دواليك'' إلى خارج وداخل، الخارج هو دروب وأزقة المدينة العتيقة، والسوق، ساحة جامع الفنا، والداخل هو محكمة الأسرة، والمقهى [مقهى جورج/ ص:85] وغرف الفنادق، ومقامات الصلحاء والأولياء، وجميعها تنفتح على فضاء الساحة/ المركز ساحة جامع الفنا مركب الدلالة المراكشية. ينفتح فضاء الساحة على المطلق والغيبي. فحين يلجأ السارد إلى وصف الفضاء الروائي، فإنه يرمي من وراء ذلك إلى بث المصداقية فيما يسرد, بجعل الفضاء في نص رواية ''مراكش دواليك''، مماثلاً في مظهره الخارجي للحقيقة، نابعاً من مرجعيته الواقعية. يقول السارد في وصفه لفضاء محكمة الأسرة: (كان خروجي من بوابة المحكمة المكلفة بتطليق الناس وتزويجهم... وكانت مكلفة أيضاً بأمور كثيرة ومختلفة كالإرث وغيره..) [ص: 9]. ولأن سارد هذا النص السردي (الروائي عبد الرحيم الرزقي الضمني)، وهو يصف فضاءاته الطبيعية، يستثمر عناصره الفيزيائية لتجسيده. ليجعل القارئ يقف عند الصور الطبوغرافية للمكان (باب دكالة، ص: 19)، والتي تؤشر على مظهره الخارجي، ليرسم صورة بصرية تجعل إدراك الفضاء بواسطة اللغة ممكناً؛ لكونه يجعل من الوصف أداة لتصوير الفضاء وبيان جزئياته وأبعاده. وهو بتوظيفه عناصر الفضاء المحسوسة لتشكيل بعده المتخيل، إنما يدخل عوالم الفضاء بتفاصيلها الصغيرة في عالم الرواية التخييلي، ويشعر القارئ أنه يعيش في عالم الواقع لا عالم الخيال, ويخلق انطباعاً بالحقيقة أو تأثيراً مباشراً بالواقع1. ذلك أن السارد حين يعمد إلى إسقاط مجموعة من الصفات الطبوغرافية على الفضاء الروائي، فإنه يمنحه (معانٍ وصفية تدخل في تركيب صورة الفضاء والقيم الرمزية المنبثقة عنه)2. كما هو الشأن بالنسبة لفضاء ساحة جامع الفنا (يعود بي لمراكش ويركبني حنين جارف إلى الساحة وهديرها، ودقات طبولها وصليل صنوجها، وتقاطعات رنات المزامير واللغط) [ص: 59،60]. يقول كذلك في الصفحة: 72 (فكانت لحظات رهيبة ساد فيها الحزن والدموع متقاطعاً مع التذكر... تذكر مراكش والجوقة، والساحة، والضجيج).

''مراكش دواليك'' الشخصية وحميمية الفضاء

يكشف سارد رواية ''مراكش دواليك'' عن العلاقة الحميمة بين الفضاء والشخصية. ذلك أن اختلاف هذه الصفات وتنوعها من فضاء إلى آخر في النص الروائي، يعكس الفروق الاجتماعية والنفسية والأيديولوجية لدى شخصيات الرواية، وحكاياتها. يقول السارد في الصفحة: 37 (أتذكر رشيدة ومليكة وسعاد، كانت لكل منهن حكاية. ويجب ألا ننسى صباح ذات البياض والقد المربوع...). يقول كذلك عن شخصية حنا شمحا:(ولدت بمراكش من والدين يهوديين... كانا يسكنان "قصيبة النحاس'' بدلاً من الملاح) [ص: 112].

هذا فضلاً عن أن الدلالات النابعة من هذه الفروق، يمكن أن تكون تعبيراً عن رؤية شخصيات الرواية للعالم ومواقفها منه، كما تكشف عن الوضع النفسي للشخصيات وحياتهم اللاشعورية، بحيث يصير للفضاء بعد نفسي يسبر أغوار نفسيات هذه الشخصيات السردية. ليعكس ما (يثيره الفضاء من انفعال سلبي أو إيجابي في نفـس الحال فيه)3. إن التسليم بوجود علاقة تأثير وتأثر بين الفضاء والشخصية، ينفي كل غرابة في أن يكون الفضاء قطعة شعورية وحسية من ذات الشخصية نفسها. من ثم؛ فإن الروائي عبد الرحيم الرزقي، حين يشيد مختلف فضاءاته السردية، يعمد إلى جعلها منسجمة مع طبائع شخصياته وأمزجتها.

يقول السارد في الصفحة: 90-91 (ولنا جنوح أولاً صوب الزاوية العباسية بتوابعها المترابطة ''باب تاغزوت''، وتمشيط الطوالة ''ديور الصابون''، فتأرجح أمام فندق الغاسول... ولنا جنوح آخر من ''الزرايب'' نحو سيدي غانم... أما النكوص الآخر فتركناه لعرصة ''بن براهيم''، وعرصة ''إيهري''، ولكزا.. ثم رياض لعروس، فسيدي بوعمر، مسح سريع على الزاوية الحمدوشية ثم دار الباشا. تربية عمرانية دقيقة الكشف عن بواطنها.. ناس كانت تشيد بنيانها لتقول: نحن هنا). بحيث تبدو هذا الفضاءات كما لو كانت خزاناً حقيقياً للحالة الشعورية والذهنية لشخصيات هذا النص السردي.

كما تكشف الفضاءات ذاتها، عن الحالات اللاّشعورية للشخصيات، وتساهم في التحولات الداخلية/ النفسية التي تطرأ عليها. مما يجعل فضاءات رواية ''مراكش دواليك'' تقوم بدور العاكس/ Réflecteur لأحاسيس شخصياتها الروائية (المختار التدلاوي، سالم الخزاعي، حنا شمحا، حفصة، ليز). بل أكثـر من ذلك، يمكن للفضاء القيـام بـدور الشخصيـة ذاتها. وذلك باعتباره تصويراً لغوياً يشكل معادلاً حسياً ومعنوياً للمجال الشعوري والذهنـي للشخصية. كما يمكن أن يمثل الفضاء رمزاً من رموز الانتماء بالنسبة للشخصية.

يقول السارد في الصفحة: 37 (كل هذه الأمكنة التي تمر أمامي صوراً، هي بمثابة استحضار كامل بحذافيره لمراحل العمر المتقافزة.. يكاد يتنصل مني جسدي أجساداً أخرى كثيرة باختلافاتها العمرية... هذه الأماكن المسكوكة على صفحة عيني يحضر معها اللون والصوت والإحساس بالفرح). إذا كان هذا الفضاء أليفاً في علاقته بالشخصية بحيث لا يعمق لديها إحساساً بالغربة، بل على العكس ينمي فيها الإحساس بالامتلاك، وذلك حين تمتلك الشخصية – بالفعل– مكاناً وجدانياً.

''مراكش دواليك'' وتحولات الفضاء

إذا كان الفضاء هو مجموع الحيزات المحددة فيزيائياً من حيث علاقاتها بعضها ببعض؛ فإنه في رواية ''مراكش دواليك'' أشمل وأوسع من معنى المكان. الفضاء هو العالم الروائي، هو مجموع الأمكنة، لكونه يتسع اصطلاحاً ليحتوي أشياء متباينة ومتعددة. بدءاً من المساحة الورقية التي يتحقق عبرها جسد الكتاب إلى المكان والزمان، الأشياء، اللغة، والأحداث التي تقع تحت سلطة إدراكنا عبر أنماط السرد التي تجسد عالم الرواية.

لهذا؛ فإن الفضاء في هذا النص السردي، هو كل معقد. لا يمكن اختزاله في مجرد وصف الأمكنة. فهو فضاء حركة وحياة، وبؤرة للتفاعل القيمي والاجتماعي. إنه يسجل تارة عبر الحواس، ويعكس طوراً حالات نفسية أو مواقف (قد تكون مسبقة). كما أنه يعبر عن صراعات قوة4. نحن نتعامل إذا مع فضاء اجتماعي ثقافي وإنسي (انثروبولوجي). وهو أولاً وأخيراً، من مكونات السرد الذي يتوسل النظام الدلالي (السيميائي) للغة. لهذا؛ ميز يوري لوتمان5 بين البنية الفضائية للعالم الذي يجري تمثله، وبين المخططات (Modèles) الفضائية التي هي بمثابة لغة واصفة/ Meta- Language لوصف النماذج الثقافية. ففي الحالة الأولى، تعود الخصائص الفضائية للشيء الذي يجري وصفه. فيما تعود الخصائص الفضائية في الحالة الثانية، للغة الوصف ''الثانية''. وعندها تغدو الخطاطات الفضائية نوعاً من لغة ثانية فوقية، تصبح بنية العالم الفضائية بمثابة النص في هذه اللغة. ففضاء الرواية الذي يلجه القارئ، هو كل معقد يتعالق بمجمل نسيج السرد وينتظم فيه.

غير أن فضاءات رواية ''مراكش دواليك''، تعرف تحولات مستمرة. يقول السارد في الصفحة: 43 (لم تكن مراكش أواخر ستينيات القرن الماضي تخرج عمرانياً عن إطارها التاريخي، الذي لبثت فيه طوال التسعة قرون... كانت مدينة مميزة ببناياتها، وأهلها ومساجدها ودباغتها، ومدارسها، ومناراتها، ورياضها، وعلمائها، وعوامها.. وساحتها أيضاً... وكل ما ومن فيها يتحلزن داخل سورها العتيد...). ويقول في الصفحة:81 (واصلي معي يا مدينة سبعة رجال... وتلك المآلات الرهيبة من الهلع والفزع من الآتي.. ذاك التشكل الذي يصاحبك منذ عهود..). لهذا؛ يمكننا القول بأن هناك فضاءات مرفوضةً وأماكن مرغوب فيها. فكما أن البيئة تلفظ الإنسان أو تحتويه، فإن الإنسان -طبقاً لحاجاته- ينتعش في بعض الفضاءات ويذبل في بعضها الآخر. وإذا كان الفضاء في رواية ''مراكش دواليك'' لعبد الرحيم الرزقي، يتخذ دلالته التاريخية والسياسية والاجتماعية من خلال الأفعال وتشابك العلاقات؛ فإنه يتخذ كذلك قيمته الكبرى من خلال علاقته بالشخصية. تبدو أعلى درجات هذه القيمة حين يكون الفضاء جزءاً من بناء الشخصية؛ لأن الذات البشرية لا تكتمل داخل حدود ذاتها، لكنها تنبسط خارج هذه الحدود، لتصبغ كل ما حولها بصبغتها، وتسقط على الفضاء قيمها الحضارية.


الإحالات
- الصفحات المشار إليها مأخوذة من: الرزقي (عبد الرحيم)، مراكش دواليك (رواية)، ط: 1، منشورات آفاق، مراكش 2021 (160 صفحة).
1. ريكور (بول) الوجود، والزمان، والسرد، ترجمة: سعيد الغانمي، ط: 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2006، ص: 65.
2. لحمداني (حميد) بنية النص السردي، ط: 2، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1993، ص: 63.
3. بوتور (ميشال) بحوث في الرواية الجديدة، ترجمة: فريد أنطونيوس، ط: 1، دار عويدات، بيروت، 1886، ص: 61.
4 -  Bourneuf(Roland)L’univers du roman, puf, Paris, 1995,P : 107
5 - Lotman(Yuri) La structure du texte Artistique, Gallimard, Paris, 1973, P : 87
 

التعليقات

اضافة التعليق تتم مراجعة التعليقات قبل نشرها والسماح بظهورها