كان يُحب الحياةَ بنهم الأطفال، تشاهدُه يقودُ فرقته المتواضعة والتي عُرفت بين عامة الناس بأسماء عدة: "مزيكة حَسَب الله"، "الفرقة النحاسيَّة"، "فرقة حَسَب الله الموسيقية".. وأسماء أخرى. تجوبُ شوارع القاهرة القديمة، الحلميَّة، والموسكي والعتبة والمدبح، وشارع المعز لدين الله.. إلخ.
يتقدمُ الفرقةَ قائدها، كان يتجاوزُ العقد السادس من عمره، يشرئبُ برقبته النافرة، وسط زحمة الآلات النحاسيِّة المتنوعة، بين الطبل والمزمار والبوق (الترومبيت)، والنقرزان، والمنورنو والكلارنيت.
من شارع محمد علي العتيق تبدأ رحلة الفرقة، قائدها الستيني يشعرُ بالكلمات والألحان؛ فيُحرِّك ذراعيْه المعروقتين، تتسعان وتضيقان، يُمنة ويسرة؛ تجاوباً مع اللحن الشجي وسلامة الأداء، ألحانٌ يمتزج فيها المرح بالأسى، والضحك بالبُكاء، وكأنه يتحدى بها صروف الحياة وضرباتها، تشعر أنه كان يبذل جُهداً خارقاً جبَّاراً في الحركة والأداء، وفوق ذلك كُلّه، وفي قلب ذلك كُله، ربما بدأت أنتبه لحضوره، أتوقف عند طريقته الفذة في النطق، صوته قوي، وألفاظه واضحة عربية فصيحة تماماً، وعلى ناصية الشارع -وسط زحمة المارة والباعة الجائلين- يقفُ الجاويش محمد علي حَسَب الله بقامته الممشوقة، وجسده الضئيل، يحيي السامعين، وهو يرقدُ بداخل بذلة عسكرية أنيقة، لونها كاكي باهت، أزرارها من الذهب الخالص، عليها زحمة من الإشارات والعلامات والنياشين، كما يوجد على كتفيه "أزبلايط" ذات خيوط ذهبيَّة، صوته كان خشناً تارة، وناعماً تارة أخرى، لا يخجل من تفاعل أعضاء جسمه القميء من الانفعالات الغنائية متدفقة المشاعر، بروح الدّعابة كان يستقبلُ مريديه وأعضاء فرقته ببشاشة وود، يوزعُ عليهم صنوف الكلام، والابتسامات، والترحاب النادر، يخرجُ عليهم بوجه فرعوني السمت، تشوبه الحُمرة، يتدثرُ بمعطف العطف والفُكاهة مع الأطفال، وخاصة أطفال الشارع الذي يقطنُ به، يمنحهم حلوى: "الدُربس" و"التوفي"، و"الأرواح" و"نبوت الغفير"، ويضع على جبين كل منهم قُبلة، ومن آنٍ لآخرَ كان أهل الحارة -رجالًا ونساءً صبيةً وعجائزَ- ينادونه بـ"نابليون الفن"، أو بـ"الريس حَسَب الله الأوَّل".
كلمة من التاريخ:
في عام (1860م)، قرَّر الجاويش محمد علي حَسَب الله -بعد تقاعده من الخدمة العسكرية أيام الخديوي إسماعيل- أنْ يُكوِّن فرقة موسيقيَّة مصريَّة، ذلك لكون حُبه للموسيقى منذ سنوات صباه ويفاعته الباكرة، تعزف تلك الفرقة على الآلات النحاسيَّة، حملت كثيراً من ألحانها وأغانيها من تاريخ مصر الزاخر، وضمَّت الفرقة (11) عازفاً، وكان الزي الرسمي للفرقة منذ تأسيسها اللون "الأحمر"، وتطوَّر في ما بعد لألوان أخرى حسب الطلب.
من الأشياء التي تُحسب تاريخياً للفرقة، أنَّها أحيت حفلات في قصور الخديوي إسماعيل، كما عزفت في احتفالات رسمية حضرها الملك فؤاد ومن بعده الملك فاروق، ولا يغيب عنَّا أنّ العزف في تلك الأيام كان سماعيَّاً، لا يحتاج إلى "نوتة موسيقيَّة"، وكان السلام الرسمي محفوظاً أيام العهد الملكي من ضمن أبجديات الفرقة، مطلعه يقول:
"أفندينا/ دخل الديوان/ والعسكر/ ضربوا له سلام...".
ولكن بعد ثورة 25 يناير 2011م، أصابت الفرقة حالة من الركود والشيخوخة، فقلت حفلاتها، وتراخى القبول والطلب عليها، وبالتالي نقص أجر العازف، وأصبح الركود هو السمة الغالبة على أنشطة الفرقة، التي تجعلها عرضة للاختفاء تماماً بعد هذا التاريخ الحافل بالأصالة والرقي.
لقد مكنتنا فرقة حَسَب الله من أنْ نرى سقف القاهرة عالياً جداً، بوُسع الدنيا، لنضع كل هذا جانباً، وننظر إلى حركة وتجوال الفرقة حول العالم..
رحلات تاريخية لفرقة حَسَب الله:
لقد سافرت فرقة حَسَب الله الموسيقيَّة إلى معظم دول العَاَلم، سافرت إلى فرنسا وبريطانيا وألمانيا وكندا، كما شاركت في مهرجانات محلية وعالمية، وأحيوا حفلات لمدة 45 يوماً بمدينة جدة بالمملكة العربية السعودية، وعدة أيام بدولة الإمارات العربية المتحدة.
تقاليد وأصول:
أمَّا عن تقاليد وعزف الفرقة حالياً فلم يختلف عن ماضيه كثيراً، من حيث الحفاظ على التقاليد الفلكلورية، وهذا لا يمنع من التجديد والابتكار كلما طُلب منها ذلك، ولقد قدَّمت الفرقة ألحاناً لعظماء الفن المصري أمثال: سيد درويش، ومحمد فوزي، وأم كُلثوم، وعبد الحليم حافظ، وغيرهم، بالإضافة إلى الألحان التي ظهرت في فيلم "بمبة كَشَّر" مع نادية الجندي، وألحان فيلم "بلية ودماغه العالية" لمحمد هنيدي.
الفرقة وطريق الفن:
ظهرت فرقة حَسَب الله كبطولة مُطلقة في فيلم "شارع الحُب" للفنان عبد الحليم حافظ والمُطربة صباح، والفنان المُتميز -حتى في أدواره الثانوية– عبد السلام النابلسي.. وهو أشهر فيلم تناول شارع محمد علي (مسقط رأس فرقة حَسَب الله)، وأسهب في سرد المشهد السنيمائي للتفاصيل الحياتية والشخصيَّة لأعضاء فرقة حَسَب الله السادس عشر، تحدَّث عنهم في الحزن والضيق وفي الفرح والسرور، كانت معظم المشاهد ربما بعيدة عن الواقع، ولكنها في الوقت ذاته كانت تُحلق في سماء واحدة وبالتوازي مع التاريخ الحقيقي لتلك الفرقة، أمَّا الفنان عبد السلام النابلسي فقد تفوَّق نفسه في أداء شخصية قائد الفرقة النحاسية (المعدومة مادياً في هذا التوقيت)، وهو الحفيد الشرعي لـ"الريس حَسَب الله الأول" مؤسس الفرقة، لقد ضحى هذا القائد بعواطفه وقلبه؛ لينهض بالفرقة من العدم، فتزوَّج "ترتر" الفنانة زينات صدقي؛ لأنها تُمثل الممول المادي للفرقة، ضغط على أحاسيسه ومشاعره ؛ ليحقق لهم الرِفعة والسمو، خشية أن يفنى تاريخها لضيق اليد والضغوط المادية التي ألمت بالفرقة نظراً لظروف البلاد وقتها.
انقر الشعار لمشاهدة فيلم وثائقي يتناول فرقة حسب الله والفِرق التي مازالت تعمل في هذا النوع من الفن*